ملخص
المؤلف يكتب بطريقة ورؤية وخيال يختلف عن الشاعر... لكن ماذا عن الكتابة من مقعد القارئ؟
لا ينشغل الصانع بصنعته، ولا بصقل أدواته واكتساب خبرات، أو فلسفة التمرس عليها، فلا يتوقف نجار عن صناعة الكراسي ليعظ الناس بنبل مهنته وضروتها وما الذي ينفع الناس لأنهم بطبيعة الحال لا يريدون إلا كراسيه؟
لكن ماذا لو أن الناس لا يريدون الكراسي، ولا يلحظونها أو صانعها، ويحلو لهم الذهاب إلى متاجر التأثيث والرجوع بصناديق ترجعهم أطفالاً يلعبون بالمكعبات؟ ماذا لو انتفت حاجة الناس إلى النجار فنسوه؟
ربما حينئذ يكون مفهوماً أن ينحي نجار مطرقته ومنشاره وفأرته، ويقف في الناس خطيباً: المتجر لن يسعف امرأة غافلها الهواء وأغلق الباب، لن يرغم سريراً أن يحتشم فلا يفضح حبيبين، لن تدق في بيت مسماراً استلته من بين شفتيها، وقد يذكِّرنا بالأنبياء النجارين، ويفلسف النجارة، وقد ينصت بعضنا، فيصدقونه، فيروج حينئذ عمله ونجد مبرراً لعظاته، لكن النجارين لم يضطروا بعد إلى ذلك.
لا أقول إن انصراف الناس عن الشعر هو سبب تأليف الشاعر المصري عماد أبو صالح كتابه الأحدث "يا أعمى" الصادر أخيراً عن دار "أثر" السعودية، فبعض الناس لم ينصرفوا بعد عن الشعر، ولكن المنطق الحاكم لحياتنا هو الذي ضاق عن الشعر والروح، وكل ما يسمو على حسابات الربح والخسارة والمصلحة والقوة إلى آخر هذا المعجم الكريه، وهنا يصبح الحديث عن الشعر صرخة في البرية تشير إلى ما يجعل الإنسان إنساناً.
فضلاً عن أن في الشعر نفسه ما يدعو أبو صالح وكثيراً من الشعراء إلى محاولة الإمساك بمعناه أو طبيعته، فالشعر في تقديري مسعى إنساني مراوغ، حتى على الشعراء، فلا يكاد أحدهم يقترب من معرفته حتى يشعر أنه لم يعرف منه إلا النزر القليل، وأن الرحلة لم تزل طويلة، وأنه ربما ليس على الطريق أصلاً.
وبوسعي أن أدلكم على كثير من القصائد المكتوبة عن الشعر، مما يأتي بعناوين كـ"فن الشعر" و"الشعر" و"البيوطيقا" أو "الشاعر" و"الشعراء" و"القصيدة" وغيرها، وبوسعي القول إن حيرة الشعراء في الشعر غير محدودة بلغة أو ثقافة أو زمن، وأنها ربما ولدت في العقل الإنساني لحظة اكتشافه القدرة على إحالة الكلام التداولي العادي إلى فن يمتع ويعلم ويثني ويوبخ ويضل ويهدي ويفعل ما يشاء، وبوسعي القول أيضاً إن إسهام الشعراء العرب في هذا المضمار نادر، وشخصياً لا أعرف لذلك سبباً أطمئن إليه، وعماد أبو صالح استثناء واضح.
وعي الشاعر
ربما يسهل على من يعرف أعمال عماد أبو صالح، وكتابيْ "مهندس العالم" و"يا أعمى" بخاصة، أن يخلص إلى ما خلصت إليه، وهو أن جزءاً كبيراً من وعي الشاعر بأي شيء تقريباً مدين للشعر.
صحيح أنه قارئ واسع الاطلاع يتجاوز نهمه الأدب إلى الكثير من فروع المعرفة. ويمكنني القول إنه لا سلوى له غير القراءة. فحينما أقول إنه مدين بوعيه للشعر، لا أقول إنه مصدره المعرفي الوحيد، ولكني أحسبه أداته الأساسية، يغربل بها العالم، فما تناغم مع الشعر فهو خير وجميل وحق وحليف لعماد، وما تنافر فخصمه خصومة لا هوادة فيها، ولا يرجى فيها عفو أو شفاعة، ذلك أن الوقوع من غربال الشعر هو الوقوع من غربال الإنسانية والنزاهة و"الشرف" وهي كلمة محورية في معجم أبو صالح.
رسائل رامبو
قد يبدو لقارئ "يا أعمى" أنه ما أسهل هذه الكتابة، فليس عليه إلا أن يفعل ما يحسب أن الكاتب يفعله، يقرأ كتاباً مثلاً عن سيرة آرثر رامبو، وتعجبه سطور فيعيد صياغتها في كتابه!
ثمة فقرة في "يا أعمى" عن قصائد أرسلها رامبو مشفوعة برسالة استعطاف إلى تيودور دي بانفيل، فتحمس لها الأخير ونشرها، مبشِّرًاً بشاعر "مسَّته ربة الشعر بإصبعها"، ولا يكاد يمر عام حتى يقابل رامبو الإحسان بالإساءة فيصف دي بانفيل بأنه "أحمق معتَّق". يتساءل عماد أهذه "قسوة أم سنة الحياة؟" ويجيب "القسوة سنة الحياة".
وعماد أبو صالح لا يتحرج أحياناً من أن يجيب على رغم أن الموضة منذ ردح لا بأس به من الزمن أن يطرح الفنان السؤال ويعمقه ويتركه، لأنه إن أجاب فقد وقع بحسب الموضة إما في فخ الحكمة أو الرسالة أو الدعاية أو ما هو أسوأ، لكن عماد يمتحن إجاباته، ولا يعفيها من التأمل. يقول "كان (دي بانفيل) من أعظم شعراء عصره، ولا أحد يتذكره الآن على فترات متباعدة، يأتي باحث ويزيح عنه التراب ونقرأ اسمه في دراسة أكاديمية كشاعر عظيم لا كخادم لعبقرية رامبو، وصار مجده كله محصوراً في ما كاله رامبو له من شتائم".
"هل سيظل رامبو، وهو عظيم بلا شك، منتصراً إلى النهاية؟ لا أظن سيأتي دوره، سينزل من القمة في أزمنة قادمة، أي شاعر مهما كان عظيماً في زمنه لا يمكن أن يتنبأ بمصيره في المستقبل، ربة الشعر لا قلب لها ولا قانون، فهي غدارة وتقدم أبناءها قرابين، يتهيأ لي أنها في لعبة مصالح مع الزمن هي تضمن خلودها بخلق شعراء عظام، وهو يضمن أبديته بمحوهم".
سهل أن ينتبه شاعر إلى قسوة الحياة، لكن ما ليس سهلاً بالمثل أن يتصالح مع هذا إلى حد قوله "إلى الأمام أيها الشعراء الشباب، أنا راجع إلى الخلف، في الماضي مادتي الخام وعدة شغلي، هناك شجرة وبئر ماء ونعجة أرعاها وأشرب لبنها، وأنسج من صوفها ثوبي، أنا راعٍ لا شاعر، أبحث عن عشبة لنعجتي، لا عشبة لخلودي".
قد لا يكون الأمر قبولاً للقسوة، وإنما اكتشاف لأن قدر الشاعر هو أن لا يقيس الخير والشر على مقياس مصلحته الضيقة، لأن مصلحته بما أنه شاعر لا تكون ضيقة، فـ"الشاعر يحس حلاوة لحم الغزال في فم السبع، ويحس أنه هو نفسه الغزال في فم السبع"، وهذا في رأيي أدق تحديد لموقع الشاعر أن يجد نفسه في موضع الفريسة، ضحية واضحة، وأن يجد نفسه أيضاً في موضع المفترس، ضحية وإن تكن أقل وضوحاً، الأولى ضحية بأن تفقد حياتها، والثاني ضحية بأن يفقد رحمته.
هكذا ينتقل عماد من دي بانفيل وبودلير إلى نفسه، فإلى مطلق الشاعر أو مطلق الإنسان، وهكذا يبدو أنه لا فارق تقريباً بين القراءة والكتابة عنده، فكلتاهما طريقته في النظر إلى الوجود، فليس الأمر بحال تخطيطاً تحت جمل أو استلال نوادر من كتب، ولكنها معاركة فعلية بين قارئ وما يقرأ، سواء كان ما يقرأه كتباً بين يديه أم ذكريات وأوهاماً بين أذنيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما أنه لا فارق بين الورق والعقل، فلا فارق بين اليوم الحاضر واليوم الذي مرت عليه مئات السنين، يحفل "يا أعمى" بلقاءات جرت بين الراوي أو عماد أبو صالح نفسه وشعراء راحلين من شتى أركان الأرض "زرت بريتون في أواخر حياته"، "هاجمت وليم بليك في أحد مقاهي لندن"، "سافرت لتهنئة محمود درويش بعد عودة فلسطين بالكامل"، و"رأيت بعيني كفافيس في تظاهرات ثورة 19"، و"قل لي يا شوقي بك هل رأيت شاعراً اسمه لوركا فترة منفاك في أسبانيا؟" و"أصر جاك بريفير أن أصطحبه إلى المستشفى"، و"قابلت هيدغر" و"عاتبت المنخل اليشكري" و"رأيت هلدرين".
وبعض هذه اللقاءات الخيالية عليها شهود، ومنها ما حضره أبو الشاعر أو أمه، أو رتَّبا له، ولا أحسب أن هذه محض حيلة أو حتى حلية، فالحياة التي يعيشها عماد أبو صالح منذ أكثر من 30 سنة، بلا أسرة وبأقل عدد ممكن من الأصدقاء، بلا رفيق حقيقي غير الشعراء، وبلا شاغل إلا كتبه التي يكتب قصائدها على مهل، وينشرها على نفقته في طبعات محدودة ويوزعها هدايا، هذه الحياة ما كانت لتكتمل لولا تهشيم الأسوار المصطنعة بين الحاضر والماضي، وبين اللغات والثقافات.
هذا فضلاً عن قوله في "يا أعمى" "الشعراء سلالة متواصلة من أب واحد وأم واحدة، مهما اختلفت ألسنتهم وبلدانهم، أبناء بعضهم، أنا شخصياً واثق أن أبي هو قسطنطين كفافيس، وأمي فيسوافا شيمبورسكا".
مفاضلة أدبية
مما يلفت النظر كثيراً في الكتاب أن أبو صالح يفاضل بين الشعر والرواية، منتصراً للأول على الثانية، فـ"الشاعر يكتب النار والروائي يكتب الرماد"، و"الروائي منهمك في العمل، والشاعر يتأرجح على كتفيه ويشخبط على أوراقه"، ومن قبل حذر الشعراء في ديوانه "كان نائماً حين قامت الثورة" من الشعر فقال "سيحوّلكم إلى كلاب تلهثون وراء خطواته" ثم نصحهم "اكتبوا روايات".
ليس غريباً أن ينحاز شاعر للشعر، لكن لماذا يكون ذلك على حساب الرواية بخاصة وأن هذا الشاعر نفسه يذم من "لا يميز بين جمال تفاحة وجمال برتقالة"، ويؤكد أنه "لا يقارن بين تفاحة وبرتقالة، أو حصاة ونجمة أو السماء والأرض، إلا مبتدئ في فك أسرار الجمال"؟
لكن لعل فضيلة هذا التناقض أنه يكشف عن سمة أصيلة في شعرية عماد أبو صالح، يسهل رصدها في جميع كتبه، وربما في كل قصائده، هو دائماً منحاز، ودائماً يكشف له الشعر عن صراع أو معركة، ودائماً ثمة طرف مهزوم ودائماً يقف الشاعر معه، فهل هذا رأيه في الشعر؟
أرشيف الزمن
حفظ أرشيف الزمن بحسب ما تخبرنا إحدى فقرات (الأعمى) "اسم علي شماك من النسيان" لأنه "صفع رامبو ومزق ملابسه"، ويستدل عماد أبو صالح بهذا على أن "الشاعر أحياناً يحيي الموتى"، ثم إنه يحرص على تأكيد هذه المقدرة اليسوعية في فقرات أخرى، وبناء على حالات أخرى لـ"نكرات" كان ينبغي أن يغيبهم الموت ويطويهم النسيان لولا إشارة من شاعر، حتى ليكاد قارئ الكتاب يقتنع، إلى أن يجد نفسه يتساءل في أي مكان أصلاً حفظ أرشيف الزمن اسم على شماك؟
الحق أنه لم يكد يحفظه إلا في ذاكرة عماد أبو صالح، وربما في بضع كتب عن رامبو، لكن قارئ هذه الكتب يمكن بلا شك أن يخرج منها بالكثير عن رامبو في الأقصر أو في عدن، أو في طفولته، لكن من المستبعد كثيراً أن يخرج منها حافظاً اسم علي شماك، لأنه بالفعل أكثر هامشية من أن تحتفظ به ذاكرة ما لم تكن تبحث عنه وعن أمثاله.
وإذاً ليس الميت الذي يحييه الشاعر هو الشماك، وإنما أنت وأنا وكل قارئ لـ"يا أعمى"، وقد اكتسب فضيلة أن يرى لكل شخص مهما يكن هامشياً جدارة بموقع في ذاكرته.
ولا يقتصر التكرار على أن "الشاعر أحياناً يحيي الموتى"، فثمة عبارات أخرى تتكرر في مقاطع متباعدة من الكتاب، وقد أغرتني هذه التكرارات بأن أجرب الجمع بين المقاطع التي ترد فيها، لأرى إن كان يمكن الخروج من جمعها بنص واحد، نثره الشاعر عمداً لغرض في بطنه.
وكشفت لي هذه اللعبة أن نثر هذه المقاطع وتفريقها خيار شديد الذكاء، فأنت لا تكاد تنتهي من فقرة بل فكرة وتضعها في ركن الأفكار المنتهية في ذاكرتك، حتى يرغمك التكرار في فقرة أخرى على استعادتها من جديد، كأنما يكرر الشاعر عليك سؤالاً، أو كأنما يبوح لك بمدى انشغاله هو بهذه الفكرة وإلحاحها عليه.
ثم إنك لا تكاد تنتبه مبكراً إلى تكنيك التكرار هذا حتى تفقد نقطة نهاية الجملة معناها، والفواصل في ما بين الفقرات، فلا النقطة ولا الفاصل يعنيان الآن نهاية شيء، لأن كل شيء قابل تماماً لأن يبدأ تارة أخرى.
وعلى الأرجح سوف يغريك التكرار بأن تكمل اللعبة بنفسك، فتبحث في ذاكرتك، ثم في كل كتاب تمسكه بين يديك، عمن أحيا الشعراء من موتى، فكأنك لا تقرأ "يا أعمى" إلا لتكتب نسختك منه.
وصف وتصنيف
لا أعرف تحت أي لافتة يمكن تصنيف هذا الكتاب، أو كتاب "مهندس العالم" من قبله، لا أطمئن إلى القول بأنه مقالات قصيرة، ولا الشذرات وصف مناسب، ونحن في هذا الكتاب لا نعرف بدقة أين ينتهي ما يخص الشعراء أو كتبهم وأين يبدأ ما يخص "يا أعمى" وصاحبه، فكأن كل فقرة عجينة من كاتبين، أو الأقرب أنها قطرتا دم من شاعرين، ظلتا كذلك إلى أن التقتا.
والأصعب أنني لا أعرف، وقد قرأت الكتاب مرات، كيف تنبغي قراءته حقاً، فهل هذه المقاطع نصوص، يقوم كل منها بنفسه، مستوجباً البحث فيه وحده عن شروط تلقيه دونما سياق أوسع من الكتاب أو مما عداه، أم أن التكرارات بمنزلة روابط ينبغي أن ننقرها كلما صادفتنا؟ وهل التعارض، بل التناقض، بين بعض المقاطع خللٌ ينبغي الانتباه والتنبيه إليه، أم هو محض اختلاف بين نصوص لو تماثلت لأغنى بعضها عن بعض؟
وهل ينتظر الكتاب من قارئه تلك اللحظة التي يحسم فيها أمره ويميل إلى بعض هذه الخيارات من دون البعض، فيُخرج له الكتاب حينئذ لسانه العابث قائلاً "يا أعمى"؟
العنوان: يا أعمى
الكاتب: عماد أبو صالح
الناشر: دار أثر