Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبده جبير المغترب الدائم رفع راية التجريب الروائي

صادق نجيب محفوظ ووضع عنه كتابا فريدا وسعى الى انشاء متحف للشيخ إمام

الروائي عبده جبير في بيته الريفي في الفيوم (دار آفاق)

ملخص

صادق نجيب محفوظ ووضع عنه كتابا فريدا وسعى الى انشاء متحف للشيخ إمام

يمكن القول إن تيمة "الاغتراب" والسفر الدائم هي الأكثر حضوراً في حياة الروائي عبده جبير، الذي غيبه الموت أول من أمس عن عمر ناهز الخمسة وسبعين عاماً، فقد ظلت حياته موزَّعة بين موطن ولادته ونشأته في صعيد مصر والقاهرة التي قضى فيها خمسة عشر عاماً. وقد تأثر في ذلك برحيل عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله من الجنوب، رغبة في تحقيق طموحهم الأدبي كل في مجاله: شعر العامية وشعر الفصحى والقصة والرواية. وبعد انقضاء سنوات القاهرة التي عمل خلالها في مجلة "المصور"، سافر إلى الكويت ليعمل في جريدة "القبس"، ثم في مجلة "الفنون". تنوّعت أعمال عبده جبير بين القصة القصيرة والرواية والسيرة الغيرية ومن ذلك: "فارس على حصان من خشب"، و"تحريك القلب"، و"سبيل الشخص"، و"الوداع تاج من العشب"، و"مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان"، و"عطلة رضوان".

ظل عبده جبير حريصاً على وصف نفسه بأنه كاتب "تجريبي". وهو وصف حقيقي إذ اتسمت غالبية أعماله بالتجريب، فمثلاً كانت روايته "تحريك القلب" من العلامات البارزة في هذه النزعة التجريبية، حتى أن بعض النقاد وصفها بالغموض، وتباينت تأويلات القراء لها، في الوقت الذي امتنع فيه الكاتب عن إعطائها تأويلاً "معتمداً" من جانبه. وربما كان هدف جبير من هذا هو "تحريك" قلب المتلقي وتفعيل إيجابيته في تفسير العمل وعدم الاكتفاء بالتلقي السلبي الذي تحققه له الروايات السهلة التداول. ومن أقواله الدالة على ابتعاده عن الرواية السهلة: "إن إحسان عبد القدوس كان يطبع من رواياته أكثر من نجيب محفوظ خمس عشرة مرة، ومع ذلك كانت رواية محفوظ هي الأكثر ثراء والأبقى أثراً".  فالرواية عموماً، كما رآها جبير، هي في حاجة دائمة كفن موضوعي، "إلى الوعي والثقافة والتخطيط مما يصل إلى حد الرهبنة".

نزعة التجريب

ومن سمات التجريب في "تحريك القلب" جمعها بين أكثر من فن أدبي، كأن تأخذ شكل الرواية في فصلها الأول، ثم تستعير تقنية الحوار من الفن المسرحي في الفصل الثاني الذي قام بناؤه على حوار الشخصيات التي لا يعرف القارئ عنها شيئاً. فهناك "الأب" و"الأم"، لكننا لا نعرف إن كانت بقية الشخصيات أبناءهما أم لا. ويستمر الحوار الذي يستغرق الفصل كله من دون أن يتكشف غموض تلك الشخصيات، وهو ما نلاحظه على المكان أيضاً بحيث نجد أنفسنا أمام بيت لا نعرف أين يقع. ثم ينتقل السرد في فصل لاحق إلى الردهة من دون أن يذكر الكاتب هل هي ردهة البيت السابق أم ردهة بيت آخر. وربما كان هذا الغموض الذي يشمل الشخصيات والمكان، وهو خاصية شعرية، لكون جبير قرّب الرواية من لغة الشعر في اختزالها وكثافتها ومجازيتها. ومن سمات التجريب كذلك غياب الحبكة التقليدية المعهودة في روايات الأجيال السابقة، حتى يمكن القول إننا أمام اللاحبكة. ولم تخل قصصه القصيرة من نزعة التجريب أيضاً، ومن ذلك قصة "بائعة الزهور" التي تحكي عن فتاة صعدت إلى سطح المبنى الحكومي الأضخم في ميدان التحرير في وسط القاهرة، أثناء انتفاضة 25 يناير / كانون الثاني 2011 واستخدمت تنورتها كمظلة – وهذا ملمح التجريب أو الفانتازية فيها- تحملها وهي ترمي الزهور على المتظاهرين.

بين الفصحى والعامية

وفي هذا السياق يمكن وضع روايته الشهيرة "عطلة رضوان" التي جعلت من عبده جبير واحداً من أهم كتاب جيل السبعينيات. تحكي هذه الرواية عن مدينة بور سعيد وناسها، والعالم الخفي في تلك المدينة الزاخرة بالأسرار والحكايات الإنسانية، في ما يشبه النزعة التسجيلية. والحق أن بور سعيد – في ما أرى - مدينة درامية إن صحَّ التعبير، فهي تجمع – على سبيل المفارقة المؤلمة – بين مرحلتين متناقضتين، الأولى التي كانت فيها رمزاً للنضال الشعبي البطولي ضد الأعداء، والثانية التي أصبحت فيها مدينة المهربين الذين أثروا ثراء فاحشاً في ظل الانفتاح.

وعلى رغم هذه الواقعية فقد اتسمت هذه الرواية هي الأخرى بالتجريب، لكونها جمعت بين الراوي العليم والراوي المحايد، وجمعت لغتها بين الفصحى والعامية المبتذلة، وكسرت تعاقبية الزمن وتشظيه وتداخله مما يحقق حيرة القارئ في تلقيها، وتوظيف تقنية المونولوغ الداخلي والكابوس وتيار الوعي، والجمع بين المقدّس والمدنّس. وهو ما يوحي بصدارة الجمالي في مواجهة الواقعي. وإيحائية مفردة "العطلة" الواردة في العنوان، تعني اضمحلال الإنسان وانقطاع البطل عن الحياة، فهو هجر زوجته وعمله الوظيفي والصحف والكتب والجيران. وهذه بعض سمات حياة عبده جبير في سنواته الأخيرة حين ترك القاهرة وأقام بشكل دائم في بقعة من مدينة الفيوم، محققاً حلمه في بناء بيت بسيط بعيداً من قلب القاهرة. وجعلت "عطلة رضوان" من الكتابة موضوعاً للكتابة ذاتها وكأن الرواية تتأمل نفسها. وكما لاحظنا افتقاد رواية "تحريك القلب" للحبكة التقليدية، فإن هذا ما يمكن قوله أيضاً عن "عطلة رضوان" بسبب ما ذكرته عن تشظي الزمن وغير ذلك من السمات التجريبية.  

الرواية السيرية

تجمع الرواية السيرية بين فني الرواية والسيرة بحيث يمزج الكاتب بين الخيال وبعض الحقائق في حياته الخاصة. وهذا ما نجده في رواية "مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان"، فالبطل يحمل اسم "رفعت محمد"، وشهرته "رفعت الجمّال"، ويجعله الكاتب قريباً منه أو قناعاً له، فيذكر أنه صعيدي يعمل في الكويت وأنه غير راض عن واقعه، فهو إشكالي عاجز يشعر بالاغتراب ويفضل العزلة على العراك داخل المجتمع. وتتسم الرواية  التي تجعل من الكويت مسرحاً لأحداثها، بتعدد جنسيات الشخصيات. فهناك المصري والهندي والباكستاني واللبناني، ويستخدم ضمير المتكلم في تقديمهم والحديث عنهم، جامعاً بين الرسائل الشخصية المتبادلة والتوثيق من الصحافة وكتابة اليوميات.

للروائي عبده جبير كتاب طريف يحمل عنوان "بفضل كل الخيال"، يحكي عن علاقته بقيصرالرواية العربية نجيب محفوظ، وكيف ضعف – وهو لايزال صبياً - أمام رواية "ثرثرة فوق النيل"، فاشتراها بما معه من نقود أرسله أبوه بها لشراء دواء. وبعد انتباهه لعاقبة ما فعل، ظل هائماً على وجهه وخائفاً من العودة إلى البيت حتى أنقذه ابن عمته، وقال لوالده إنه قد أضاع المال، لكن ذلك لم يشفع له ونال عقوبته. وفي الكتاب نفسه ينتقل جبير من حكاية إلى أخرى فيذكر قصة نقل روايات نجيب محفوظ إلى لغات أخرى وكيف وقع تحت خديعة إحدى الفرنسيات التي أخذت منه مبلغاً كبيراً بحجة وجود جمعية سوف تتولى نقل رواياته إلى الفرنسية. ويذكر شيئاً لم يكن مشهوراً عن محفوظ وهو كراهيته للنقد ومقاطعته للروائي سليمان فياض الذي كتب عن رواية محفوظ الحديثة الصدور وقتذاك "حضرة المحترم"، بل ووصف ما كتبه – على الملأ في ندوته الشهيرة – بقلة الأدب. ورغم اقتراب عبده جبير من نجيب محفوظ، فإنه يؤكد عدم تأثره به، لكلاسكيته وميْل جبير إلى التجريب على نحو ما ذكرنا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن طريف ما حكاه محفوظ لجبير – كما ورد في الكتاب – أن رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل كانت سبباً في معركة بين طلبة الأزهر والأفندية، استعملت فيها "النبابيت" (عصي غليظة). والحق أنه كتاب ممتع ينتمي إلى الصحافة الثقافية التي تجمع بين الإمتاع والفائدة واستكشاف المرحلة التاريخية التي تتحدث عنها وعن دهاليزها.

بلغت محبة الكاتب عبده جبير للمغني الذائع الصيت الشيخ إمام عيسى، أن كلّف أحد المحامين بالبحث في إمكان تحويل شقة الشيخ إمام التي جمعت بينه وبين الشاعر أحمد فؤاد نجم، إلى متحف يكون معلماً سياحياً، وكاد المشروع يكتمل لولا تعنت صاحب العقار الذي لم يدرك أهميته المعنوية وعوائده المادية الكبيرة.  فاكتفى عبده جبير بتأليف كتاب عن الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم بعنوان "النغم الشارد". ولنلاحظ دلالة العنوان الذي يؤكد شرود أنغام الشيخ إمام وعدم الاعتراف الرسمي بها، بل وتعرض صاحبها ورفيقه نجم للاعتقال السياسي أكثر من مرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة