Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف أقدمت الولايات المتحدة على غزو العراق؟

قراءة واشنطن الخاطئة المشؤومة لصدام

يتعمق كتاب "فخ أخيل" الذي يمتد على أكثر من 500 صفحة، في قصة ما قبل غزو العراق (آلين لاين)

ملخص

يتحدث كتاب "فخ أخيل" عن الأحداث التي سبقت الغزو الأميركي للعراق

تتخذ السياسة الخارجية في بعض الأحيان من التكنولوجيا بوصلة لها. فعندما كانت القوات البحرية تعمل بطاقة الرياح، كان الخشب الذي يمكن أن ينتج السفن الشراعية مورداً طبيعياً ثميناً. وأدى اكتشاف الطاقة البخارية إلى تحويل المناجم ومحطات الفحم إلى أصول استراتيجية بالغة الأهمية. ومن ثم أدى التحول من البخار إلى النفط إلى جعل الرواسب النفطية كنوزاً لا تقدر بثمن.

اكتشفت ثروات الشرق الأوسط النفطية للمرة الأولى عام 1908، وسرعان ما غدت المنطقة أحد شرايين الاقتصاد العالمي. بادئ الأمر، اضطلعت المملكة المتحدة، القوة الاستعمارية المهيمنة، بمهمة ضمان استتباب النظام في المنطقة، ولكن في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، تولت الولايات المتحدة هذا الدور. وإبان سبعينيات القرن، حاولت واشنطن إسناد مهمة الأمن الإقليمي إلى الشركاء المحليين، معتمدة على إيران والسعودية للحفاظ على تدفق إمدادات النفط. لكن بعد أن قلبت الثورة الإيرانية عام 1979 طهران من صديق إلى عدو، علقت واشنطن آمالها على توازن القوى، ووازنت كفة المساعدات لكل من العراق وإيران خلال حربهما الوحشية للحيلولة دون سيطرة أي من البلدين على الخليج العربي. بيد أن هذه الاستراتيجية انهارت عام 1990، مع استيلاء العراق على الكويت.

وعند هذا المنعطف، تدخلت إدارة الرئيس جورج بوش الأب لإدارة الوضع بشكل مباشر، وقادت تحالفاً دولياً لصد العدوان العراقي واستعادة سيادة الكويت. لكن الزعيم العراقي، صدام حسين، تمكن من النجاة من الحرب وإعادة بسط سيطرته على معظم أنحاء بلاده. لذا، عادت الإدارة إلى سياسة العقوبات والاحتواء، التي استمر خلفاؤها في تطبيقها عقداً من الزمن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن ثم جاءت هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول). وفي أعقاب ذلك، لم تقرر إدارة جورج دبليو بوش حل مشكلة الإرهاب فحسب، وإنما إنهاء الوضع مع العراق كذلك، إذ اختارت احتلال البلاد والقضاء على نظام صدام بالقوة. سار جزء بسط السيطرة على البلاد إلى حد كبير على النحو المخطط له، لكن أعقب ذلك فوضى عارمة. إذ تحول التحرير إلى احتلال عسكري، وتحولت غيوم عدم اليقين المحلي إلى تمرد ومن ثم إلى حرب أهلية. وفي نهاية المطاف، استمرت القوات الأميركية في العراق تحارب عدواً هنا وآخر هناك لما يناهز عقدين من الزمن.

كانت حرب العراق كارثية جداً، وفي الواقع كانت مكلفة للغاية وخطأ غير محسوب العواقب، بحيث إننا إذا أمعنا النظر في الماضي، فستبدو وكأنها نقطة فصل في حقبة ما بعد الحرب الباردة برمتها، وهي اللحظة التي تحولت فيها الهيمنة الأميركية من عملية ناجحة إلى إشكالية، ومن حال مرحب بها إلى وضعية غير محمودة. وبعد انقضاء عقدين من الزمن، تلاشت لحظة الأحادية القطبية، مع تلاشي أحلام شرق أوسط أفضل وشهية أميركية للمشاركة الدولية النشطة. ويبقى اللغز هو كيف حدث هذا الفشل الذريع المدمر للذات في المقام الأول.

عندما تبين أن ادعاءات ما قبل الحرب في شأن حال برامج أسلحة الدمار الشامل في العراق غير صحيحة، اعتقد كثيرون أن بعض الأجندات الأخرى كانت تكمن وراء تصرفات واشنطن، مثل الانتقام العائلي، أو التعصب الأيديولوجي، أو الرغبة في الاستفادة من الموارد العراقية. وفندت الدراسات التاريخية الحديثة هذه النظريات، وأظهرت أن المسؤولين في إدارة بوش كانوا يعتقدون بالفعل أن سياسة الاحتواء كانت في طور الانهيار، فضلاً عن خشيتهم مما قد يفعله العراق بعد ذلك. لكنهم لم يكونوا ليعرفوا أو يصدقوا الحقيقة آنذاك، لأن أحداً لم يكن ليصدقها. إذ كان نظام صدام دمر جميع برامج أسلحة الدمار الشامل تقريباً في مطلع التسعينيات، لكنه استمر لمدة عقد من الزمن في إعطاء كل المؤشرات التي تدل على احتفاظه بكثير منها، وأحرق نفسه في هذه العملية.

هذه هي الحكاية الغريبة التي يسردها الصحافي ستيف كول في كتابه "فخ أخيل" (The Achilles Trap)، وهو عبارة عن تاريخ يسرد برامج أسلحة صدام غير التقليدية والمحاولات الأميركية لوضع حد لها. يستند الكتاب إلى حد كبير إلى وثائق عراقية جرى استيلاء عليها ومقابلات مع مسؤولين سابقين، وهو واضح وسهل القراءة ودقيق، فضلاً عن أنه يقدم وجهة النظر من بغداد على نحو جيد، ليس عبر توثيق ما حدث فحسب، وإنما أيضاً من خلال المساعدة في تفسير ما استعصى تفسيره. كان سلوك صدام بعد حرب الخليج استفزازياً وغير عقلاني إلى حد خطر. وفي أعقاب أحداث الـ11 من سبتمبر، طرحت إدارة واشنطن الجديدة المصدومة القضايا التي تؤرقها على الطاولة. وفي عام 2003، تفاقم سوء التفاهم المتبادل بينهما وتحول إلى كارثة. كتب المنظر العسكري الصيني صن تزو [من القرن الخامس ما قبل الميلاد] عن الحاجة الماسة إلى الاستراتيجيين "لمعرفة العدو ومعرفة نفسك". تظهر حرب العراق ما يحدث عندما لا يعرف أي من الطرفين الطرف الآخر.

حوار الصم

ينسج كول قصة مفعمة بالحيوية ومليئة بالتفاصيل الجذابة. يتعلم القراء، على سبيل المثال، أن خير الله طلفاح – خال صدام ومعلمه – لخص فلسفة الأسرة في عمل بعنوان "ثلاثة كان على الله ألا يخلقهم: الفرس واليهود والذباب". كان صدام نفسه قاتلاً مأجوراً في العشرينيات من عمره وروائياً غزير الإنتاج في الستينيات من عمره. كان يعتقد أنه يمكن الحكم على ولاء الناس من خلال التنصت على أطفالهم والتحقق من مكان عرض صورته في منازلهم. كان نجلاه، عدي وقصي، وحوشاً، وتفاخر صهره حسين كامل بأنه أجبر أحد مرؤوسيه المذللين على شرب البنزين ومن ثم أطلق عليه النار في بطنه ليرى ما إذا كان سينفجر.

تميط عديد من قصص كول اللثام عن حقائق مهمة حول الثقافات السياسية الوطنية. في تسعينيات القرن الـ20، قام صدام برشوة مسؤولين روس وفرنسيين وصينيين ومن الأمم المتحدة للحصول على دعمهم، ولم يتمكن وزير خارجيته طارق عزيز من فهم سبب عدم موافقة كبير مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة، الدبلوماسي السويدي رولف أكيوس، على المعاملة نفسها. قال عزيز لأكيوس: "يمكننا أن نفتح لك حساباً في سويسرا، بقيمة 500 ألف دولار على سبيل المثال". (أجاب أكيوس أن هذه ليست الطريقة التي تسير بها الأمور في السويد). بدأ أحد برامج الأسلحة البيولوجية العراقية كوحدة مكلفة بحماية صدام من التسمم، وهو ما اعتبره عزيز طبيعياً تماماً. وقال لمفتش من الأمم المتحدة: "أنت تعلم مثلي، أنه لدى كل حكومة في العالم قسم من جهاز أمن الدولة الخاص بها المعني باختبار غذاء القيادة".

في تلك الأثناء، نفذ المسؤولون الأميركيون مراراً وتكراراً تدخلات سرية خرقاء نادراً ما حققت شيئاً ذا قيمة، إذ يمكن إيجاز مسارهم النموذجي من خلال لوحة لأحد ضباط الاستخبارات معلقة على جداره تسرد "المراحل الست لبرنامج العمل السري لوكالة المخابرات المركزية": "النشوة، والارتباك، وخيبة الأمل، والبحث عن المذنب، ومعاقبة الأبرياء، والتمييز بين الأشخاص غير المتورطين".

وتمثلت النتيجة في حوار الصم نتيجة لعدم فهم أي من الطرفين للآخر. ففي ثمانينيات القرن الـ20، على سبيل المثال، قدمت إدارة ريغان دعماً عسكرياً واسع النطاق للحكومة العراقية لمساعدتها في الصمود في الحرب الإيرانية - العراقية، حتى عندما استخدمت بغداد الغاز ضد عشرات الآلاف من شعبها. لكن في الوقت عينه، عملت الإدارة مع إسرائيل لتقديم الدعم العسكري لإيران على أمل إطلاق سراح الرهائن الأميركيين المحتجزين حينها لدى "حزب الله" في لبنان، وذلك باستخدام عائدات مبيعات الأسلحة لدعم المتمردين المناهضين للشيوعية في نيكاراغوا. ولدى انكشاف هذه المؤامرة للعلن، تجرع صدام المرارة لكنه لم يتفاجأ، وأخبر فريقه أن قضية "إيران - كونترا" كانت مؤامرة برعاية إسرائيلية لتدميره. "أعني، الصهيونية، ماذا دهاكم أيها الرفاق، هل يجب أن أكرر ذلك في كل مرة؟".

ويلاحظ كول أن "ما فهمه عديد من الأميركيين على أنه عدم كفاءة مخز للسياسة الخارجية لبلادهم، فسره صدام على أنه عبقرية ملتوية". كما حدثت أخطاء مماثلة مراراً وتكراراً على مر السنين، إذ يبالغ كل جانب في تفسير سلوك الطرف الآخر في حين لا يلقي لسلوكه أدنى أهمية. يمكن للمرء تأليف كتاب كامل عن خطأ الإحالة الأساسي من هذه الحالة وحدها.

الأسلحة المفقودة

يقضي "فخ أخيل" كثيراً من الوقت في العمليات السرية، في حين أنه يخصص قليلاً من الوقت للمناقشات التي دارت داخل كل إدارة حول كيفية التعامل مع العراق. تتجلى آراء المؤلف في تكهنات عرضية مفادها بأنه لربما كان من شأن المحاولات الأميركية الأكثر صدقاً لإجراء حوار مباشر أن تخفف من حدة التوترات، ولكن مثل هذه الآمال تغدو سراباً تحت تأثير قصة الجهل المطبق الذي يرويها بشكل جيد. يصور هذا الكتاب صدام كشخص مصاب بجنون العظمة وخداع الذات، "شخص يكاد يكون من المستحيل التعامل معه بشكل بناء. ويتعامل إلى حد كبير مع مجموعة صغيرة من الناس، جميعهم تقريباً من العراقيين". وأضاف أكيوس أن تفكيره كان "غريباً ومشوشاً".

تجلت هذه السمات في الإجراءات التي اتخذتها الحكومة العراقية إبان التسعينيات، التي أصبحت أكثر إثارة للدهشة الآن بعد أن اكتملت خيوط القصة. فبعد أن أعاد صدام ترميم جبهته الداخلية لحد كبير في أعقاب حرب الخليج، لم يشعر بأي ندم على أي شيء، وكان مصمماً على التربص لأعدائه، واستعادة قوته العسكرية وحرية العمل الكاملة، والاستمرار في مواجهة العالم. أدرك أن العثور لديه على أسلحة الدمار الشامل سيورطه في مشكلة، وبالتالي تخلص في منتصف عام 1991 من معظم برامج صناعتها، ولكن من دون إخبار أي شخص بالأمر أو الاحتفاظ بسجلات لما جرى القيام به. وصرح قائد البرنامج النووي العراقي في وقت لاحق: "لم نكن نعرف ما الذي دمر وما الذي لم يدمر، لقد كانت فوضى عارمة".

وبعد أن ضمن صدام بذلك حدوث إرباك تام، ومع استمراره في إنكار أي اتهامات موجهة إليه لم تثبت بالفعل، تصرف صدام كما لو كان على الجميع أن يفهموا ما حدث. على حد تعبير كول:

افترض أن وكالة المخابرات المركزية "سي أي آي" القوية كانت تعلم بالفعل عدم امتلاك صدام لأسلحة نووية أو كيماوية أو بيولوجية. وبما أن أميركا تعرف الحقيقة ولكنها مع ذلك لفقت ادعاءات بأنه لا يزال يخفي أسلحة غير مشروعة، فقد تساءل: ماذا يعني ذلك؟ لا شك يعني أن الصهاينة والجواسيس الذين اصطفوا ضده كانوا يستخدمون قضية أسلحة الدمار الشامل على نحو تهكمي لتعزيز مؤامرتهم للإطاحة به من السلطة. ولم ير أي سبب للانجرار إلى لعبتهم أو التعامل مع مفتشيهم المتطفلين.

ومع ذلك، يوضح كول أنه حتى كبار المسؤولين العراقيين لم يكونوا متأكدين من حال برامج أسلحة الدمار الشامل في بلادهم. ففي أحد الاجتماعات قبل الغزو عام 2003، على سبيل المثال، سأل علي حسن المجيد، الملقب بـ"علي الكيماوي" ذي السمعة السيئة الذي أشرف على قتل أكراد العراق بالغاز في الثمانينيات، بصراحة: "هل لدينا أسلحة دمار شامل؟" ليرد عليه صدام بالقول "ألا تعلم؟". فيجيب علي: "لا". فقال له صدام: "لا". ولكن حتى في ذلك الحين، لم يقم العراقيون، لسبب غير مفهوم، بأية محاولة حقيقية لتبرئة ساحتهم إزاء أي هجوم أميركي وشيك يتخذ من وجود مثل هذه الأسلحة ذريعة له.

من الاحتواء إلى التراجع

سيكون من السهل قراءة كتاب كول باعتباره دعماً للحجة القائلة إن سبب حرب العراق يعزى للتهديد المتزايد الذي بدا أن صدام يمثله والخوف الذي زرعه ذلك في واشنطن. يصور "فخ أخيل" الزعيم العراقي على أنه معتد متسلسل غير نادم ومصمم على إعادة بناء قوته العسكرية. وفي الوقت نفسه، كان عديد من أولئك الذين دافعوا عن رفع العقوبات في الغرب، مدرجين على قوائم رواتبه، مما يجعل حججهم مشبوهة. وحتى من دون الأدلة الزائفة التي لفقها المخادعون مثل المنفي العراقي أحمد الجلبي، كانت ثمة أسباب كافية تدفع للاعتقاد بأن صدام قد يغرق منطقته ذات الأهمية الاستراتيجية مرة أخرى في وحول الصراع.

ومع ذلك، فإن كل هذا كان صحيحاً لسنوات عديدة، لذا فهو لا يستطيع أن يفسر لماذا قررت الولايات المتحدة في وقت مبكر من القرن الجديد تغيير مسارها والتعامل مع التهديد من خلال حرب استباقية. ولم يكن من الضروري أن تؤدي أحداث الـ11 من سبتمبر إلى مثل هذه النتيجة، لأن ما حدث في ذلك اليوم لا يمت بصلة للعراق. وكانت الحرب نتيجة التحدي الأساسي المتمثل في الحفاظ على أمن الخليج، إضافة إلى سلوك صدام الغريب، ناهيك عن التأثير النفسي لأحداث الـ11 من سبتمبر في بعض من المسؤولين الأميركيين ذوي الأطوار الغريبة ولا تكبلهم أي قيود.

ولو فاز آل غور برئاسة الولايات المتحدة عام 2000 بدلاً من جورج دبليو بوش، فلربما كانت ستندلع حرب لأسباب مختلفة بين الولايات المتحدة والعراق، نظراً إلى طموحات صدام الإقليمية وتصميم الولايات المتحدة على ردعها. ولكنها كانت لتكون بمثابة إعادة لحرب الخليج، أي عبارة عن عمل عدائي قام به صدام، ما دفع آل غور لحشد تحالف للرد. كما لم تكن إدارة كلينتون معجبة بسياسة الاحتواء الفوضوية التي ورثتها عن سابقتها، لكنها لم تتمكن أبداً من إيجاد بديل أفضل. وباعتباره نائباً للرئيس، كان غور على الجانب المتشدد من مناقشات إدارة كلينتون في شأن العراق، ولكنه تشدد لم يقترب قط من الدعوة إلى غزو غير مبرر، وليس هناك من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأنه كان ليقوم بالغزو على الإطلاق كرئيس.

كان العراق قوياً بما يكفي ليشكل تهديداً وضعيفاً بما يكفي ليخضع للغزو

كان من الممكن أن يحدث سيناريو مماثل لو قام جورج دبليو بوش بتعيين شخصيات مختلفة من كبار الجمهوريين في مجال الأمن القومي في مناصب رئيسة في إدارته، مثل برنت سكوكروفت وروبرت غيتس بدلاً من نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، أو اختار تمكين أشخاص مختلفين من بين أولئك الذين عينهم، مثل وزير الخارجية كولن باول. ومع ذلك، حتى مع انتخاب بوش واكتظاظ إدارته بالمتشددين، لم يكن هناك أي تحرك للهجوم على العراق حتى أحداث الـ11 من سبتمبر، التي انتهت بوضع الإدارة على سكة الحرب ليس في أفغانستان فحسب، وإنما في العراق أيضاً.

خلال إدارة كلينتون، برزت الجماعات الإرهابية الإسلاموية المتطرفة المستقلة باعتبارها تهديداً مثيراً للقلق بشكل متزايد. إذ فجروا مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، وسفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا عام 1998، والمدمرة الأميركية "يو إس إس كول" في اليمن عام 2000. وأثناء الفترة الانتقالية الرئاسية، أخبر مسؤولو كلينتون المنتهية ولايتهم نظراءهم في عهد الرئيس بوش أن مثل هذه الجماعات تشكل التهديد الأكثر إلحاحاً الذي تواجهه البلاد، لكن فريق بوش ومعه مسؤولو الاستخبارات المتوترين على نحو متزايد تجاهلوا مثل هذه التحذيرات، إذ اعتقدوا أن الدول المارقة تشكل أخطاراً أكبر بكثير.

وعندما ضرب تنظيم "القاعدة" نيويورك وواشنطن في الـ11 من سبتمبر، أصيب كبار الشخصيات في الإدارة بالحزن والغضب والشعور بالذنب. وقال بوش: "لم أكن محقاً". وأقر تشيني قائلاً: "فاتنا الأمر". ومع ذلك، فإن قبول المسؤولية كان حقاً مسألة لا يمكن تحملها. وكان ذلك يعني مواجهة الحقيقة المزعجة المتمثلة في أن الآخرين أدركوا هذه الحقيقة وينبغي الآن الإصغاء إليهم بدلاً من تجاهلهم. وبغية تجنب الذل الناتج من الإذعان لمنتقديهم والاضطراب المعرفي الناتج من النظر إلى أنفسهم باعتبارهم فاشلين غير أكفاء، أعاد بوش وكبار مستشاريه صياغة الموقف. وبدلاً من محاولة معرفة سبب خطأهم في شأن هذا الهجوم، راحوا يبحثون عن هجمات مستقبلية يمكنهم ردعها، وبذلك أعادوا صياغة أنفسهم كأبطال نافذي البصيرة. وفي هذا الصدد، صرحت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس بقولها: "لا ينبغي لردك أن يتمثل في العودة للوراء ولوم نفسك في شأن أحداث الـ11 من سبتمبر. وإنما في محاولة عدم السماح بحدوث ذلك مرة أخرى".

ومن هذا المنظور، لم يكن العراق يمثل خطراً فحسب، وإنما فرصة سانحة. كانت البلاد قوية بما يكفي لتشكل تهديداً وضعيفة بما يكفي لإخضاعها للغزو، وفي حال لم تكن متورطة في أحداث الـ11 من سبتمبر، فمن الممكن في الأقل تصويرها كمصدر للعتاد لهجوم آخر يخلف عدداً كبيراً من الضحايا. كان من شأن الإطاحة بصدام إزالة التهديد، والخروج ببيان رسمي، وتسوية المسائل القديمة دفعة واحدة. وبناء على ذلك، بعد أسبوعين من وقوع الكارثة، طلب بوش من رامسفيلد مراجعة التخطيط للحرب في العراق. وبحلول نهاية عام 2001، كان تومي فرانكس، رئيس القيادة المركزية للجيش الأميركي، قدم مخططاً للغزو. وبحلول منتصف عام 2002، كان بوش قرر توجيه الضربة ما لم يؤكد صدام نزع سلاحه على نحو لا يرقى إليه الشك.

إلى بغداد وما بعدها

كانت الإدارات الأخرى تحلم بالتخلص من صدام حسين، ولكن لم يخض أي منها الحرب من أجل ذلك، لأن أياً منها لم يكن يريد تحمل مسؤولية إدارة بلاده بعد ذلك. وكما قال تشيني عام 1994، دفاعاً عن قرار الولايات المتحدة بعدم الإطاحة بصدام إبان حرب الخليج: "بمجرد وصولكم إلى العراق والاستيلاء عليه، وإسقاط حكومة صدام حسين، ماذا ستضعون مكانها؟ إنه مستنقع". وتمكنت إدارة جورج دبليو بوش من الالتفاف حول هذه المشكلة من خلال تجاهلها. إذ افتقرت خطتها الحربية إلى النهاية، وعليه، فليس من المستغرب أن الحرب لم تضع أوزارها أبداً، مع انتقال الصراع من معركة إلى أخرى لسنوات مقبلة.

ومن الواضح الآن أن عديداً من الأشخاص كانوا مسؤولين عن هذا الإغفال الصارخ. ولم يقم مستشار الأمن القومي الضعيف بتنسيق سياسة الإدارة. طالب وزير الدفاع المتعجرف بصلاحية التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب، وحصل على ذلك، ثم لم يفعل أي شيء يجعله جديراً باللقب الذي يحمله. إذ لم يفكر قائد العمليات الميداني الحاذق أبداً في ما هو أبعد من المستوى العملياتي للحرب. لكن المسؤولية تقع على عاتق القائد العام غير المتبصر، الذي لم يفكر ملياً في العواقب المتوقعة للقرارات التي كان يتخذها.

في العام الماضي، ذهب المؤرخ الدبلوماسي ملفين ليفلر، في كتابه "مواجهة صدام حسين" Confronting Saddam Hussein، إلى أرضية مماثلة لما ذهب إليه كول، إذ قدم وجهة نظر واشنطن ودافع عن إدارة بوش ضد منتقديها ذوي عقلية المؤامرة. لكن حتى هو أشار بأصابع اتهام دامغة. كتب ليفلر: "لم ترق لبوش الجدالات الساخنة، وبالتالي لم يدع إلى التدقيق المنهجي في السياسات التي كان يميل إلى اتباعها"، مضيفاً "لم يكن قادراً على فهم حجم المشروع الذي كان يتبناه، والأخطار التي ينطوي عليها، والتكاليف التي سيتكبدها".

ويظل سبب قيام حكومة بأكملها مليئة بالمسؤولين من ذوي العقول الراجحة بتنفيذ خطة سيئة بشكل واضح سؤالاً قائماً بحد ذاته. وعندما يحدث هذا النوع من الأمور في أنظمة دكتاتورية مثل نظام صدام حسين في العراق أو نظام فلاديمير بوتين في روسيا، فمن الطبيعي أن يفترض المراقبون أن ذلك يرجع إلى التكاليف الرهيبة المترتبة على معارضة قرار الحاكم. لكن الغزو الأميركي للعراق يظهر أن مثل هذا الإكراه ليس ضرورياً، وأنه يمكن للإذعان البيروقراطي للسلطة والمهنية الروتينية أن يبقيا الناس مستكينة ومنصاعة لرغبات الحكام.

تنبثق مجموعتان من الدروس من هذا المشهد المؤسف، تتعلق إحداهما بالعملية والأخرى بالسياسة. حالياً، تدرك المنظمات ذات الإدارة الجيدة كيف يمكن لعلم النفس أن يؤثر في الأداء، وتحاول إبقاء موظفيها متماسكين، ومدركين لذاتهم، ويقظين. على سبيل المثال، يوظف فريق نيويورك يانكيز للبيسبول (كرة القاعدة) علماء سلوك في المكتب الأمامي ويعين اختصاصياً نفسياً في غرفة تبديل الملابس، وهو أول شخص يراه كل لاعب عند الدخول وآخر شخص عند المغادرة. وبوسع غرفة العمليات في البيت الأبيض فعل شيء مماثل، على أمل تحسين المناقشة هناك، من خلال إزالة الغموض الإدراكي والعاطفي الذي يكتنف المشاركين.

وعلاوة على ذلك، ينبغي أن تكون هناك مناقشات يتناول من خلالها كبار المسؤولين بحرية المزايا النسبية للبدائل السياسية المتعددة. ومن أبرز الحقائق حول قرار الحرب في العراق هو عدم انعقاد أي اجتماع اتخذ فيه مثل هذا القرار. ولم تجبر الإدارة نفسها في أي وقت من الأوقات على إعلان أهداف الحرب رسمياً واستراتيجية تحقيقها، وهو فشل كان من شأنه ترك الفجوات الضخمة التي اعترت تخطيطها من دون رقيب أو حسيب. لا تفضي العملية الجيدة بالضرورة إلى سياسات جيدة، بيد أنه يمكنها أن تساعد في التخلص من السياسات السيئة بشكل واضح، وهو شيء عظيم.

لكن حتى "أحكم الحكماء" الذين يتبعون أفضل الممارسات الإدارية، كانوا سيجدون صعوبة في التعامل مع صدام. قامت عائلة الحسين بتسمية إحدى أدواتها الاستثمارية السرية باسم شركة "مونتانا منجمنت"، بحسب ما يزعم، تكريماً للبطل الشرير في فيلم "ندبة" (سكارفيس) Scarface عام 1983. وعلى غرار شخصية "آل باتشينو" المدمرة للذات، كان مصير صدام وأبنائه المحتوم أن يلقوا نهايات عنيفة، وكان السؤال الوحيد هو متى وكيف. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2003، ألقي القبض على صدام في حفرة بمزرعة بالقرب من تكريت، وتوفي على منصة الإعدام بعد ثلاث سنوات. كما تم تعقب عدي وقصي في الموصل في يوليو (تموز) 2003، إذ أفشى مكانهما صاحب مخبأهما في مقابل مكافأة قدرها 30 مليون دولار. وحاصرت القوات الأميركية الفيلا وأمرت قاطنيها بالاستسلام. وأصابت طلقات نارية من الداخل أربعة جنود، مما أدى إلى اندلاع معركة بالأسلحة النارية استمرت ثلاث ساعات استخدمت فيها القنابل اليدوية والرشاشات الثقيلة والصواريخ التي تطلقها طائرات الهليكوبتر. وفي نهاية المطاف، أدى وابل من الصواريخ المضادة للدبابات إلى تدمير الغرفة القوية التي كان حكام العراق المستقبليون السابقون متحصنين فيها. ولم يسجل ما إذا كانوا صرخوا: "قل مرحباً لصديقي الصغير" (في إشارة إلى جملة "آل باتشينو" الشهيرة من فيلم "ندبة").

ذات يوم، قال الرئيس بيل كلينتون لموظفيه إنه وجد العراق "أصعب المشكلات لأنه يخلو من الاستجابة السياسية المعقولة". وبمجرد نجاة صدام من حرب الخليج، كان من المعقول بالنسبة إلى الولايات المتحدة أن تحاول احتواءه من دون الانجرار إلى صراع آخر واسع النطاق. بيد أن هذا النهج كان مكلفاً، ومحفوفاً بالأخطار، ويصعب الحفاظ عليه. ورفضت إدارة جورج دبليو بوش قبول حقيقة أن مثل هذا المسار غير المرضي كان الخيار الأقل سوءاً المتاح، فانزلقت إلى الهاوية معصوبة العينين. ولو أن القادة في بغداد أو واشنطن تصرفوا بقدر أقل من التهور، لما اندلعت الحرب. لكن التحدي المتمثل في حماية الاقتصاد العالمي من "توني مونتانا" [اسم شخصية آل باتشينو في فيلم "ندبة"] في بغداد كان سيظل شبحاً مخيماً.

*جدعون روز هو زميل بارز مساعد في مركز بحوث "مجلس العلاقات الخارجية" ومؤلف كتاب "كيف تنتهي الحروب". وفي عهد إدارة كلينتون، عمل على قضايا الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي.

مترجم عن "فورين أفيرز"، مارس / أبريل 2024

المزيد من آراء