Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل نجح "إخفاء صدام حسين" في نقل لحظاته الحرجة؟

الفيلم أحدث ضجة خلال أول عرض عربي له بمهرجان البحر الأحمر

من جو فيلم "إخفاء صدام حسين" (ملف الفيلم)

كان لا بد من أن تنطلق عروض مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة (30 نوفمبر "تشرين الثاني" - 9 ديسمبر "كانون الأول") بأفلام تحمل قضايا وإشكالات ستكون حتماً محل سجال في الأيام المقبلة. أحد هذه الأفلام يفتح الشهية على الكتابة النقدية. إنه "إخفاء صدام حسين" (مسابقة) لهلكويت مصطفى، مخرج عراقي كردي مقيم في النرويج سبق أن قدم فيلماً روائياً في عنوان "الكلاسيكو" (2015). جديده هذا شق طريقه قبل أيام إلى مهرجان أمستردام الذي يعتبر الصرح الأهم للفيلم الوثائقي في العالم. أما عربياً، فعرض للمرة الأولى، أمس الأول في جدة، في صالة مكتظة واقعة داخل المركز التجاري حيث نشاهد معظم عروض الدورة الثالثة. بين الجمهور كان هناك صحافيون ومشاركون في التظاهرة وفضوليون حثهم عنوان الفيلم ومضمونه على الحضور. 

بعد عقدين على الغزو الأميركي للعراق ينبش الفيلم لحظة محورية في هذا النزاع الذي أسفر عن مقتل أكثر من 100 ألف عراقي. والمقصود بهذه اللحظة الأشهر الثمانية التي اختار الرئيس العراقي المطلوب صدام حسين الاختباء داخل مزرعة على مقربة من مسقطه تكريت، يملكها شخص اسمه قيس النامق، هرباً من الجيش الأميركي الذي وظف كل جهوده للقبض عليه، مما تحقق في الـ13 من ديسمبر 2003، في إطار اجتياح لا تزال آثاره ماثلة في وجدان العراقيين. 

 

 

"حفرة العنكبوت"

قيس هذا سلم "السيد الرئيس" إلى شقيقه علاء، وهو فلاح أب لأربعة أطفال في مطلع الثلاثينيات من عمره، كي يعتني به، ويوفر له حاجاته، وصولاً إلى تخصيص مأوى له تحت الأرض عرف بـ"حفرة العنكبوت"، هذا كله استمر نحو تسعة أشهر، فظل خلالها المختبئ بعيداً من أعين الناس، على رغم الخطر الشديد على علاء وأسرته، ذلك أن صدام كان يكرر باستمرار بأنه "قنبلة موقوتة". هذه الحماية أدت، بحسب شهادة علاء، إلى نشوء علاقة حميمية بينه وبين الرئيس المخلوع، سمحت له بمعاشرة الرجل والاطلاع على تفاصيل عما كان يقوم به طوال أيامه داخل المزرعة، مثل كتابة الخطب الداعمة لمقاومة الاحتلال وتسجيلها على شرائط، وقد ساعده علاء في هذه العملية. ومن جملة التفاصيل التي تكشف قرب العلاقة بين الرجلين، أن علاء يقترح على صدام أن يفرك له ظهره وهو يستحم، والأخير يوافق قبل أن يعرض عليه بدوره أن يفرك له ظهره! 

علاء النامق الذي كان الشاهد الملك في هذه القضية و"بطلها"، التزم الصمت لسنوات طويلة قبل أن يقرر تسليم ما في جعبته، طمعاً بالأضواء والشهرة، وكانت المرة الأولى التي ظهر فيها إعلامياً في مطلع العقد الماضي، وتحديداً بعد مرور عقد على عملية اختباء صدام، ليروي تفاصيلها الكثيرة، طبعاً من وجهة نظره الخاصة التي ليست بالضرورة الحقيقة المطلقة.

 

 

هل كل ما يقوله علاء حقيقي وحدث فعلاً؟ هذه واحدة من المعضلات الكثيرة في الفيلم. نادراً ما نطرح على أنفسنا مثل هذا السؤال، لكن هذا ما وددت أن أعرفه وأنا أتابع شهادته، ذلك أنه يبث فينا إحساساً لا يجعلنا نطمئن إلى روايته، حتى إن دخوله في بعض التفاصيل وإصراره عليها وتردده في شأنها، ما هو سوى افتعال بافتعال، وقد يبدو بعضها سوريالياً غير قابل للتصديق، خصوصاً عندما نتذكر أن صدام كان واحداً من أكثر رجال الحكم دهاءً ولا يثق حتى بأصابعه. 

بالتفاصيل المملة

الفيلم يروي واقعة الاختباء هذه طوال ساعة ونصف الساعة، بالتفاصيل المملة والمكررة أحياناً، ذهاباً وإياباً طلوعاً ونزولاً، وكأنه يمشي على حقل ألغام. يدلي علاء بشهادته أمام الكاميرا، وهو جالس وجهاً لوجه مع المخرج، لكنها شهادة تبدو أحياناً كنص متفق عليه مسبقاً. إنها شهادة إنسانية ستدمع لها قلوب القوميين وعشاق الرئيس الراحل. أما شهادته هذه، فتتخللتها تمثيلية ودراما (من النوع الرديء) بطولة ممثل يلعب دور صدام وآخر يجسد علاء. إعادة الإحياء الكاملة لما يرويه علاء تجعل الفيلم دوكودراما، أو بالأحرى أقرب إلى برامج الاستقصاء التلفزيونية التي تعيد تمثيل الجريمة. أضف إلى هذا كله الاستخدام المفرط لمواد أرشيفية أصبحت مستهلكة من فرط التكرار.

 

 

يتبنى الفيلم نظرية "القنبلة الهيتشكوكية" لبث بعض التشويق، بمعنى أنه يضعنا أمام فصل من التاريخ عاصرناه ونعرف كيف ستنتهي فيه الأحداث، لكننا نجهل كيف دارت هذه الأحداث وما قطبها المخفية. لذلك يراهن الفيلم على فضول المشاهد وغريزته التلصصية، خصوصاً أن لهذه القصة ذروة درامية تجسدت في الكيفية التي عرف بها الأميركيون مكان اختباء صدام حسين وكيفية وصولهم إلى هذا المخبأ. الحفرة ستفتح وسيخرج من فيها، لكن متى؟ هذا هو السؤال الذي يبني عليه المخرج فيلمه. وفي الواقع، فإن الحكاية في جوهرها هي سيناريو مثالي بالفطرة، ينطوي على كل العناصر الدرامية والجمالية، التقطه المخرج وحوله إلى فيلم "بارد" (من وجهة نظر شخص نرويجي كما وضح بعد العرض)، يأتي بصورة رومنطيقية لصدام حسين، بصفته رجلاً مظلوماً اضطر إلى الصمود في ظروف شديدة البؤس بعدما كان حاكماً يذبح بظفره. 

صراع درامي

قد لا يتحمل كثر هذه الشهادة الطويلة التي يأتي بها علاء حول كيفية تحوله إلى سائق صدام وخادمه والشخص الذي يثق به، خصوصاً إذا كانوا من العراقيين الذي طالتهم قبضته الحديدية وعانوا ظلمه، لكن المخرج لا يبدو أنه يأبه بهذا كله، فهو مشغول بإشعال صراع درامي بين حاكم أصبح مشرداً واحتلال يريد القبض عليه مهما كلف الثمن، وبين هذا وذاك يقف رجل ساذج وجاهل هو علاء يقارب المسألة بإنسانية مفرطة ولطف وتفان وإخلاص وشعور معزز بالواجب، كونه "لا يعرف عن صدام سوى ما تنقله محطات التلفزة الرسمية ولا يفقه شيئاً في السياسة"، كما يوضح في بداية الفيلم. وتحمله وقاحته إلى الإعلان في الخاتمة ما معناه أن صدام ليس ديكتاتوراً كونه عامله معاملة حسنة وارتبط به بعلاقة صداقة. هناك شيء عفن (يطل برأسه) في مزرعة علاء، لكن في الحين نفسه هذا العفن هو جزء من واقع المواطن في هذه المنطقة من العالم، وهو مواطن يأمل في أن يستفيد بشيء جراء الاحتكاك بأصحاب السلطة، حتى لو أصبحوا في الحضيض وما عادوا يملكونها. فالسلطة، خصوصاً تلك التي تبث الرعب في النفوس، تتفاعل لفترة طويلة، حتى بعد زوالها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا غرابة، والحال هذه، أن مخرج الفيلم طلب من الحضور ألا يطرحوا عليه أسئلة سياسية والاكتفاء بالحديث عن العمل نفسه، فبالنسبة إليه قضية صدام حسين كما عرضها علينا لا تمت إلى السياسة بصلة، ويمكن الحديث عن الرجل كما نتحدث عن مغامرات تانتان، من ثم يمكن مناقشة فيلمه كقطعة فنية سقطت علينا من السماء، لا من العراق التي حكمها طوال ربع قرن. الجانب الأميركي في الفيلم ممعن في السياسة أما كل ما يحدث داخل المزرعة بين صدام وعلاء فيحكمه الإنسان والنيات الحسنة والمجاملات. والمستغرب أن صاحب هذا الخطاب مخرج كردي عانى اضطهاد صدام حسين الأكراد مما أرغمه على الهجرة، بيد أن أحد الظرفاء قطع الطريق على استغرابي بعد العرض قائلاً: "القط يحب خناقه". لا شك أن محاولة فهم الطفل داخل الوحش فكرة محببة، وهذا ما فعلته السينما دائماً، لكن لم تكن يوماً بهذه السطحية والسذاجة، هذا فيلم يلغي كل وجهة نظر عند صاحبه.

أخيراً، خلف هذه المحاولة لتلميع صورة، أكانت مقصودة أو نتيجة حسابات خاطئة، شكوك كثيرة تحوم لا سيما حول قيس النامق وشقيقه علاء اللذين هناك من يتهمهما بالوشاية وقبضهما مبلغ 25 مليون دولار من الجيش الأميركي مقابل تسليمهما صدام، لكن، هذه جزئية لا يتطرق إليها الفيلم، مكتفياً بإلقاء اللوم على الضابط محمد إبراهيم المسلط، رئيس جهاز الأمن الخاص لصدام، واعتباره من يتحمل مسؤولية إرشاد الأميركيين إلى المزرعة. في هذا المجال لا يقدم الفيلم حقائق موثقة، فهناك واش أو عدد من الوشاة، وهذا بديهي في جو حرب واحتلال. يتطرق الفيلم إلى هذا الجانب على استحياء، محاولاً طمس الحقائق أو الإتيان بجزئية بسيطة منها، أو ربما مزوراً كل شيء. من يعلم؟! لكن، بعيداً من هذا كله، مسألة كهذه ما عادت من الأولويات أمام هول ما تعرض له البلد من مآس وتنكيل ونهب في العقدين الأخيرين.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما