Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا أصبحت الشتائم السياسية شائعة بأميركا والعالم؟

4 أسباب لتفضيل الوقاحة لكن تداعياتها مدمرة على المؤسسات التقليدية

الرئيس الأميركي جو بايدن (أ ف ب)

قبل بضعة أعوام كان من الممكن أن تنتهي الحياة المهنية لأي سياسي يشتم خصومه أو زملائه علناً إذا كانت الكلمات المستخدمة بذيئة ونابية، لكن في السنوات الأخيرة أصبح سماع هذه اللغة التي كانت محظورة مألوفاً بشكل مذهل بدءاً من المجالس المحلية والكونغرس الأميركي إلى البيت الأبيض، بل وانتشر كذلك في دول العالم الأخرى، فمتى تكون اللغة مبتذلة والألفاظ نابية؟ وما السبب وراء هذا التحول الكبير؟ وما تداعياته على الثقة في المؤسسات السياسية وعلى جميع المواطنين؟

ماهية الألفاظ النابية

تعتبر الألفاظ النابية هي اللغة المسيئة اجتماعياً بسبب كونها مبتذلة أو فاحشة أو غير محترمة، وتستخدم للإساءة والإهانة، ولكن يمكن استخدامها أيضاً للتعبير عن المشاعر السلبية القوية، وينظر إليها في معناها الأوسع على أنها الشتائم أو اللعن عبر مجموعة متنوعة من العبارات، بما في ذلك الكلمة المكونة من أربعة أحرف في اللغة الإنجليزية ويشار إليها اختصاراً بالحرف "أف" وفقاً للموسوعة البريطانية.

وبسبب قدرتها على التسبب في الإساءة، غالباً ما تقيد الألفاظ النابية أو تنظيمها من قبل الحكومات إذ يسن عديد من البلدان قوانين تحدد من الفحش أو خطاب الكراهية أو التجديف، وكلها ترتبط بالألفاظ النابية الشائعة.

وفي الولايات المتحدة كان التنظيم القانوني للألفاظ النابية موضوعاً للنقاش، حين قضت المحكمة العليا الأميركية عام 1971 بأن الكلمات البذيئة لا يمكن حظرها على نطاق واسع، لأن الحكومات قد تستغل الرقابة على كلمات معينة كغطاء مناسب لحظر التعبير عن وجهات النظر التي لا تحظى بشعبية، ومع ذلك قررت المحكمة العليا أنه يمكن حظر الكلمات البذيئة في ظروف معينة، مثل تلك التي تحرض على العنف.

من البيت الأبيض إلى الكونغرس

وفيما يصعب ترديد المعنى الحرفي المقصود للألفاظ البذيئة في المفهوم الشعبي الأميركي والغربي بصفة عامة، يستخدم المترجمون عادة إشارات وتعبيرات مخففة أكثر لطفاً مثل "أحمق" و"مريض" و"..." بما لا يخدش الحياء العام، بدلاً من استخدام المعنى الأصلي الذي يتعلق غالباً بالجنس أو أجزاء الجسم المخفية أو ما تعتبره الثقافة والمجتمع من المحرمات.

وينطبق هذا التدهور اللفظي على أعداد متزايدة من السياسيين الأميركيين بدءاً من الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترمب وانتهاء بأعضاء الكونغرس وباقي السياسيين الحزبيين والمحليين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى سبيل المثال، قالت صحيفة "بوليتيكو" قبل أشهر قليلة إن بايدن أطلق العنان خلف الأبواب المغلقة لسيل من الألفاظ النابية عندما تحدث عن سلفه ترمب، مشيراً إليه على أنه "مريض" و"أحمق". وفي عام 2018 قال إنه يريد أن يأخذ ترمب خلف صالة الألعاب الرياضية ليضربه بشدة، وفي المناظرة الرئاسية الأولى بينهما عام 2018 وصف الرئيس آنذاك (ترمب) بأنه مهرج وطلب منه أن يصمت.

وفي وقت سابق أشارت الصحف الأميركية إلى أن بايدن يصرخ على مساعديه ومرؤوسيه عندما يرتكبون خطأ ويستخدم الألفاظ النابية واللغة المبتذلة، وهو أسلوب يصفه الموظفون بأنه ليس وقحاً وسيئاً فحسب، بل مسيئاً أيضاً.

في المقابل، سخر ترمب مراراً من تلعثم بايدن، ويصفه دائماً بـ"المحتال"، الذي لا يستطيع ربط جملتين معاً، وبأنه أصيب بالجنون ويمتلك عقل وأفكار ومعدل ذكاء طفل في الصف الأول الابتدائي، وفي مناسبة أخرى قال إن جو بايدن حاول مع مجموعة من البلطجية وغير الأسوياء والماركسيين تدمير الديمقراطية الأميركية.

وعلى مستوى الكونغرس، وصفت النائبة الجمهورية مارغوري تايلور غرين زميلتها النائبة الجمهورية لورين بويبرت بأنها "عاهرة صغيرة" في قاعة مجلس النواب بعدما التقطت كاميرا مراقبة صورة لها وهي تدخن السجائر الإلكترونية، وبعد ذلك بأسابيع وصفت غرين النائب داريل عيسى بأنه "أحمق" بعدما انتقد سعيها إلى عزل وزير الأمن الداخلي.

كما وصف النائب تيم بورشيت، رئيس مجلس النواب السابق كيفن مكارثي بأنه "أحمق" و"مثير للشفقة" و"متنمر"، فيما كاد السيناتور الديمقراطي ماركواين مولين الاشتباك جسدياً مع رئيس اتحاد سائقي الشاحنات الذي كان في جلسة استماع بمجلس الشيوخ بسبب اتهامه السيناتور مولين بأنه "مهرج ومحتال".

بداية التحول

وعلى عكس ما كان عليه الحال من كياسة واحترام نسبي لعقود عدة، ساد اعتقاد واسع بين الأميركيين بأن لغة الحوار السياسي في الولايات المتحدة أصبحت أكثر سلبية منذ نحو 10 أعوام، وأشار بذلك 85 في المئة من الأميركيين في استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث، وعبر 55 في المئة منهم أن لديهم انطباعاً بأن البداية كانت مع دخول دونالد ترمب عالم السياسة مع انطلاق حملته الانتخابية الأولى، في حين يعتقد 24 في المئة منهم أنه غير الخطاب السياسي نحو الأفضل.

وفي دراسة لغوية نفسية نشرتها المكتبة الوطنية الطبية الأميركية طبقت معايير محددة على مجموعة مكونة من 24 مليون اقتباس من الأخبار عبر الإنترنت منسوبة إلى 18627 سياسياً أميركياً لتحليل كيفية تطور لهجة ولغة السياسيين بين عامي 2008 و2020، اكتشفت الدراسة زيادة اللغة السلبية عبر الأحزاب ثمانية في المئة مقارنة بما قبل بدء الحملة الانتخابية لعام 2016.

ومنذ ذلك الحين استمرت السلبية في الخطاب السياسي، ليس فقط خلال الحملات الانتخابية، ولكن أيضاً في السياسة اليومية، إذ لوحظت تأثيرات مماثلة بالنسبة إلى أنواع محددة من اللغة السلبية بما في ذلك استخدام الألفاظ البذيئة واللغة الدالة على الغضب والقلق والحزن، وظهر ذلك داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري وضمن طبقات المتحدثين البارزين بمن فيهم أعضاء الكونغرس.

من الإهانة إلى العنف

لكن يبدو أن الأمور أصبحت سيئة أكثر مما يتصوره البعض، ويشير الأستاذ في كلية الشؤون العامة بالجامعة الأميركية توماس زيتزوف إلى أن مستوى القبح في السياسة الأميركية ارتفع بصورة كبيرة استناداً إلى بيانات تاريخية جمعها من صحيفة "نيويورك تايمز" حول التكرار النسبي للقصص المتعلقة بالكونغرس، التي تحوي كلمات رئيسة مرتبطة بسياسات سيئة مثل "التشهير" و"الشجار" و"الافتراء"، ووجد أن السياسة السيئة أصبحت أكثر انتشاراً من أي وقت مضى منذ الحرب الأهلية الأميركية.

ويعني مصطلح السياسة السيئة هنا الخطاب العدواني والعنف الفعلي العرضي الذي يستخدمه السياسيون ضد المعارضين السياسيين والمجموعات المحلية الأخرى، وحيث تكون الإهانات هي الشكل الأقل تهديداً والأكثر شيوعاً للسياسة السيئة، ويشمل ذلك إشارات السياسيين إلى المعارضين على أنهم "أغبياء" أو "مجرمون" أو "حثالة".

كما يعد توجيه الاتهامات أو استخدام نظريات المؤامرة للادعاء بأن الخصم متورط في شيء شنيع هو أمر شائع أيضاً في السياسات السيئة، بينما الأقل شيوعاً والأكثر خطورة هو التهديد بسجن المعارضين السياسيين أو تشجيع أنصارهم على ارتكاب أعمال عنف ضد هؤلاء المعارضين، ومن أمثلة ذلك ما نشره عضو مجلس النواب الأميركي بول غوسار عام 2021 على منصة "إكس" من مقطع فيديو كارتوني يظهره وهو يقتل النائبة الديمقراطية ألكساندريا أوكاسيو كورتيز.

ظاهرة عالمية

غير أن الألفاظ البذيئة والتهديد بالعنف ليس ظاهرة أميركية فقط، بل عالمية أيضاً، ففي عام 2016، وعد رودريغو دوتيرتي، المرشح للرئاسة في الفيليبين آنذاك، الناخبين بأنه عندما يصبح رئيساً سيقتل 100 ألف من تجار المخدرات، وأن الأسماك ستنمو من جميع الجثث في خليج مانيلا.

أما في عام 2017، وفي خطاب ألقاه لمناسبة مرور عام على محاولة الانقلاب الفاشلة ضده، هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بقطع رؤوس الخونة.

وقبل مقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين على يد يهودي يميني متطرف عام 1995، انتقد زعيم المعارضة آنذاك بنيامين نتنياهو دعم رابين للتوصل إلى تسوية إقليمية مع الفلسطينيين، وتحدث في الفترة التي سبقت الاغتيال، في عديد من التجمعات اليمينية التي رفع فيها أنصاره ملصقات لرابين وهو يرتدي الزي النازي، حتى إن نتنياهو نفسه سار بجوار نعش كتب عليه "رابين يقتل الصهيونية".

وفي كييف، قبل بدء روسيا عمليتها العسكرية الخاصة عام 2022، كان البرلمان الأوكراني المعروف باسم (رادا)، أشبه في كثير من الأحيان باجتماع مثيري الشغب المتنافسين في كرة القدم وليس هيئة تشريعية فاعلة، إذ اندلعت المعارك بين المنافسين بانتظام، بما في ذلك إلقاء البيض والقنابل الدخانية.

وكانت عام 2012 شهدت أعمال شغب تشريعية واسعة في البرلمان في شأن وضع اللغة الروسية في أوكرانيا، وتبادل المشرعون المتنافسون اللكمات والخنق.

سبب تفضيل الوقاحة

تبدو الحكمة التقليدية وراء كون السياسيين "سيئين ووقحين" أحياناً هي أنه في حين يجد الناخبون أن الوقاحة والألفاظ البذيئة والتشهير والشجار السياسي أمر مقيت، إلا أنه فعال في الواقع لأربعة أسباب، على رغم أن السياسيين لن يعترفوا بذلك، لكنهم يدركون أن الناخبين يحبون السياسة السيئة سراً.

أول هذه الأسباب أنه في حين تظهر استطلاعات الرأي أن الناخبين لا يحبون أن يتصرف السياسيون بطريقة سيئة، ويشعرون بالقلق من أن ذلك قد يؤدي إلى العنف، ويقلل دعمهم لأولئك الذين يستخدمونه، إلا أن السياسيين يدركون أنه من المرجح بدرجة أكبر تغطية الخطاب الحارق أو السيئ في وسائل الإعلام، والحصول على مزيد من الإعجابات أو النقرات أو المشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من الخطاب التقليدي المتحضر.

وعلى سبيل المثال كانت بعض منشورات ترمب على "إكس" الأكثر إعجاباً ومشاركة هي تلك التي تصف حركة "أنتيفا" اليسارية بأنها منظمة إرهابية، ومقطع آخر له يظهره وهو يضرب مصارعاً محترفاً وضع عليه شعار شبكة "سي أن أن".

 

 

أما السبب الثاني لتفضيل الوقاحة فهو طبيعتها الجاذبة للانتباه، ويمكن أن تكون الألفاظ النابية والسياسات البغيضة أداة مهمة خصوصاً للسياسيين المعارضين الذين لا يتمتعون بالشهرة، أو الذين لا يمتلكون نفس الموارد التي يتمتع بها خصومهم، مما يغريهم باتباع سياسات سيئة لجذب الانتباه وبناء جماهيرية وشعبية لهم.

وهناك سبب ثالث ربما يكون الأكثر أهمية، إذ يمكن استخدام الفجاجة والسياسات البغيضة للإشارة إلى الصلابة والقوة التي يبحث عنها الناخبون عندما يشعرون بالتهديد، وهو ما عبر عنه القس جيري فالويل جونيور، حليف ترمب في تغريدة خلال سبتمبر (أيلول) 2018 حينما دعا المسيحيين المحافظين إلى التوقف عن انتخاب الرجال الطيبين على رغم أنهم قد يصنعون قادة مسيحيين عظماء، لأن الولايات المتحدة تحتاج إلى مقاتلي الشوارع مثل الملياردير الأميركي على كل مستوى من مستويات الحكومة، وحيث يلعب الديمقراطيون الفاشيون الليبراليون من أجل البقاء، بينما عديد من قادة الجمهوريين هم مجموعة من الضعفاء، على حد وصفه.

أما السبب الرابع فيتعلق بإثارة المخاوف والاشمئزاز إزاء الخصوم السياسيين، وهنا يشير الكاتب السياسي فريد بوير إلى أن وصف بايدن الرئيس السابق ترمب بأنه "شخص مريض" يمكن أن يساعد في توجيه الاشمئزاز العميق الذي يشعر به جزء كبير من القاعدة الديمقراطية تجاه قطب العقارات الذي تحول إلى سياسي.

وقد يكون تسليط الضوء على هذا الاشمئزاز وسيلة لتبرير التدابير المتطرفة التي اتخذها عديد من معارضي ترمب كوسيلة نفسية لخلق درع من أجل الدفاع عن الأعراف الديمقراطية، باعتبارها أحد التكتيكات المركزية لحركة المقاومة المناهضة للرئيس السابق.

الأثر المدمر للفجاجة

يحذر أستاذ الدراسات الأميركية في جامعة كورنيل غلين ألتشولر من أن الوضع الجديد المتمثل في الخطاب المبتذل والعنيف الموجه ضد المعارضين السياسيين، يهدد بطمس المكونات الأساسية للديمقراطية مثل الكياسة والتعاون والتسويات السياسية والثقة في نزاهة المسؤولين العموميين وسيادة القانون والمعارضة المخلصة.

كما أن الألفاظ النابية والنغمة السلبية للخطاب السياسي يمكن أن تضر بمستوى الدعم والشرعية المتصورة للمؤسسات السياسية، مما يؤدي إلى خفض الثقة في العمليات السياسية، وبما أن السياسة تؤثر في كل جانب من جوانب الحياة الشخصية تقريباً، فإن التغيرات في المناخ السياسي يمكن أن تؤثر بصورة مباشرة ليس فقط في السياسة نفسها، بل أيضاً في رفاهية جميع المواطنين.

 

 

ونظراً إلى الانتشار والاحتفال على نطاق واسع بسلوك هؤلاء السياسيين الذين يمثلون للبعض "القدوة" على وسائل التواصل الاجتماعي، فليس من المستغرب أن يكون عديد من الأميركيين غاضبين ومستعدين للقتال، وهو ما ينذر بإمكانية اللجوء إلى العنف في وقت تبدو فيه الديمقراطية الأميركية الآن قريبة بصورة خطرة من نقطة اللاعودة، بعدما أصبح التصاعد في السياسات السيئة في الولايات المتحدة أحد أعراض السياسة المنقسمة بشدة في البلاد ونذيراً لتهديدات مستقبلية للديمقراطية.

وكما يصف الشاعر وليام بتلر ييتس في قصيدته الكلاسيكية التي كتبها قبل نحو 100 سنة حينما تأمل في الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وانهيار النظام الثقافي والأخلاقي قبل الحرب، فإن فقدان المجتمع الاتجاه والتماسك يعني الفوضى التي تطلق على العالم، حين تم تقويض الهياكل والقيم التقليدية، مما يترك المجتمع عرضة للتغيير الكارثي، وبينما تعكس القصيدة الاضطرابات وحالة عدم اليقين التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، فإن موضوعاتها المتمثلة في التفكك والفوضى والبحث عن المعنى والنظام يتردد صداها في عالم اليوم، ومن ثم تتحول إلى نبوءة سيئة أو نذير شؤم.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير