معرض لأعمال الفنان العراقي سيروان باران استضافته غاليري مصر في القاهرة وعنوانه "البوّاقون" وهي كلمة تحمل دلالات مختلفة بحسب استخدامها، فالبوّاقون هم عازفو الأبواق في الفرق الموسيقية، لكن الكلمة تستخدم أيضاً في الدارجة العراقية (البواقين) للإشارة إلى المتملقين، أو من يهللون للسلطة، أياً كانت الهيئة التي تتخذها هذه السلطة. أعمال سيروان باران لا يمكن فصلها عما يحدث في العراق، أو في أي مجتمع آخر مُشابه له في تعقيداته السياسية والاجتماعية. يشي المعنى الدارج للعنوان بالطبيعة الرمزية التي تمثلها الأعمال واشتباكها مع الأحداث والوقائع الراهنة. لا يحتاج الأمر بالطبع لأن يكون الفنان من محترفي السياسة كي يشارك برأيه في ما يحدث، فمسار الأحداث من حوله يؤثر بلا شك على عمله وأفكاره ورؤيته إلى الواقع، ولعل الفنان سيروان باران هو أحد أكثر الفنانين اشتباكاً مع هذا الواقع.
يرسم سيروان باران هنا عالماً من المهرجين، فتمتلىء المساحات كلها بحشود منهم، كأنهم قد امتلكوا العالم. تتحول اللوحات إلى ساحات من الألوان المبهجة، وهو ما يفرضه حضور المهرجين بملابسهم الملونة والأصباغ التي تغطي ملامحهم. غير أن هذا الطلاء البهيج للمهرجين قد يخفي وجوهاً أخرى لهم. ترسخ المخيلة السينمائية للجانب المخيف والمقلق للمهرجين، فهي غالباً ما تصورهم لنا في سياقات عنيفة ودموية، وهو تأثير لا يمكن إغفاله بالطبع. لكن سيروان باران لا يتتبع هنا هذا الجانب المخيف لوجوه المهرجين، بل يتصيد المعنى المباشر لها، أي الجانب الهزلي من صورة المهرجين، وهي هنا ليست سوى صورة رمزية لكثيرين يلعبون الدور الهزلي نفسه في الواقع.
البواقون المهرجون
المهرجون في لوحات سيروان باران هم البوّاقون، هؤلاء الذين يأكلون من كل الموائد، ويتربحون بمآسي الناس، وينحازون دائماً للأقوى، فما هم إلا أدوات يتم توظيفها للسيطرة وقلب الحقائق. يستحضر سيروان باران بعض المشاهد التي تؤكد هذه الدلالة، كمؤتمرات الخطابة والملابس الرسمية، والموائد العامرة بما لذ وطاب، هذه الموائد التي لا تخلو من وجود الميكروفونات، كأنها أحد أصناف الطعام.
يتسم البناء التصويري في أعمال الفنان سيروان باران بألوانه المتداخلة وضربات الفرشاة القوية، ومن بين هذه التداخلات اللونية تتشكل عناصر ومفردات اللوحة. من أجل هذا عليك أن تتخذ مسافة مناسبة أمام هذه اللوحات كي ترى تفاصيلها على نحو أوضح، فهي تبدو للوهلة الأولى كمساحات عامرة بالتجريد اللوني.
يرى الفنان محمد طلعت مدير غاليري مصر أن سيروان باران من الفنانين الذين سخروا فنهم وموهبتهم ليكونا صوتاً للمستضعفين وضحايا الحروب والصراعات، وصوتاً للإنسانية ضد صنوف القهر والظلم. لهذا دائماً ما تحمل أعماله رسائل إنسانية مهمة وصادقة، وبات لأسلوبه الفني بصمة فنية وجمالية لا تخطئها العين. ووصفه الكاتب العراقي فاروق يوسف، بأنه أحد الفنانين الذين أعادوا اكتشاف الجسد البشري بطريقة سمحت له بتحليله وتفكيكه وإعادة تركيبه بما ينسجم مع الرغبة في مساءلته وجودياً. ولأن باران لا يرغب في وصف الجسد كما يقول الناقد العراقي فإنه سعى إلى إعادة تعريفه. وهي مهمة شاقة كما يقول، غير أن رساما بحجم باران كان دائماً مؤهلاً للتصدي لها وخوض غمار مغامرتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تخرج الفنان سيروان باران في كلية الفنون الجميلة في جامعة بابل، والتحق بالخدمة العسكرية في العراق فترة الثمانينيات والتسعينيات، وطُلب منه حينها رسم لوحات تُبيّض وجه النظام الحاكم ورموزه كنوع من الدعاية. في تجاربه اللاحقة أعلن باران تمرده على هذه الصورة الدعائية بتقديمه صورة مُغايرة لهذه الرسوم التي إضطر إلى رسمها حينها. للفنان مشاركات فنية عدة في بلدان عربية وأجنبية، وقد تواجد في نشاطات فنية دولية كبرى مثل بينالي فينسيا الدورة 58، وحاز عدداً من الجوائز الدولية، منها الجائزة الذهبية في مهرجان الفن العراقي المعاصرعام 1995، ووسام تقديري من بينالي القاهرة عام 1999، والجائزة التقديرية في بينالي بغداد الدولي الثالث عام 2002.