Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"القاعدة" بعد 18 عاما من الحرب الأميركية... تنظيم باق وتهديد مستمر

البنية التنظيمية وأيديولوجيا البقاء وثنائية الانتشار والتمدد... أبعاد ثلاثة تكشف عن مصير متطرفيها

شنت الولايات المتحدة حربا للقضاء على حركة طالبان ومقاتلي القاعدة في أفغانستان ضمن تحالف دولي شاركت فيه أكثر من خمسين دولة بعد هجمات سبتمبر (أ.ف.ب)

بعد سنوات من هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، التي أصابت رموز الاقتصاد والسياسة الأميركية في نيويورك وواشنطن، ما تزال تتوالى الكثير من التحليلات عن نتائج وتداعيات هذه الهجمات أميركيا وعالميا، وتنتشر التقارير والكتب الوثائقية التي تتناول بالتحليل كيف تعاملت الولايات المتحدة مع تلك الهجمات، لاسيما تنظيم القاعدة ومن ورائه حركة طالبان الأفغانية، التي كانت تحكم أفغانستان آنذاك، ووفرت الملاذ للقاعدة وقادتها الكبار وأبرزهم أسامة بن لادن. في الكثير من هذه الدراسات تغيب الإجابة، أو تتوارى قليلا، عن السؤال الأبرز، وهو تأثير الحرب الأميركية على تنظيم القاعدة ذاته وأفكاره الأيديولوجية وبنيته التنظيمية وتحركاته اللاحقة لتلك الحرب الأميركية، التي انطلقت شرارتها الأولى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2001، أي بعد أقل من شهر واحد على الهجمات نفسها، يظللها شعار جديد أطلقته إدارة الرئيس بوش الابن، بررت به الحرب والانتقام، وهو الحرب على الإرهاب ومنظماته وكل من يأوي القاعدة ويوفر لها ملاذا، أو يقدم لها تمويلا، أو تسهيلا في أمر ما، يعين التنظيم على البقاء والاختفاء واستمرار أنشطته الإرهابية.

رغم الحرب... "القاعدة" لا تزال حية

الآن وقد مرت 18 عاما على تلك الحرب الأميركية التي كلفت الخزانة الأميركية أكثر من 500 مليار دولار، وسقط فيها قتلى وجرحى بالآلاف، يبدو مشروعا التساؤل ليس فقط عما حققته تلك الحرب، بل أيضا ما الذي لم تحققه وفشلت فيه فشلا ذريعا، ومدى علاقة النجاح أو الفشل بمصير تنظيم القاعدة، الذي تشير كل الدلائل الظاهرة إلى أنه لا يزال حيا، ربما يكون في حالة ضعف، ولكنه ما زال قادرا على توجيه ضربات إرهابية في أماكن عدة من العالم.

الكشف عن مصير أحد التنظيمات العابرة للحدود، التي تعطي لنفسها الحق في الانتقال من بلد إلى آخر، والتوطن والتمكن من الأرض في بلد ما، وإنشاء منظومة حكم بسيطة على مجموعة من الناس تخلت عنهم دولهم، أو لا تستطيع أن توفر لهم الأمن والأمان، وتتركهم لحالهم بين أيدي أعضاء القاعدة، يتطلب ـ أي الكشف عن المصير ـ البحث في ثلاثة أبعاد متكاملة، وهي أولا البنية التنظيمية ومدى تأثرها بالمواجهة العسكرية المفتوحة مع قوة عسكرية نظامية أكثر عتادا وأكبر قدرة، ويلتحق بهذا مصير الرموز الكبرى والقيادات الرئيسية للتنظيم. وثانيا الأيديولوجية والرؤية  الفكرية  والدينية التي بُني عليها التنظيم من حيث الأفول أو الصمود، وثالثا الانكماش والضمور أو الانتشار والتمدد أفقيا ورأسيا، الانكماش في حالة الهزيمة، والثانية في حالة استيعاب الضربات العسكرية ثم الانتشار والتمدد محليا أو إقليميا أو عالميا.

الأبعاد الثلاثة معا يمكنها أن تقدم رؤية أكثر موضوعية لمصير القاعدة بعد الانخراط الأميركي في حرب ضروس ضد حكومة طالبان التي امتنعت عن تقديم بن لادن لإدارة الرئيس بوش لمحاكمته جراء قتله عددا من الأميركيين والاعتداء على مرافق ومصالح أميركية مدنية وعسكرية. هذا الامتناع بررته طالبان آنذاك بأن بن لادن ورفاقه بمثابة المستجير الواجب حمايته شرعا، وثانيا لعدم وجود دلائل يقينية قدمتها الولايات المتحدة  تثبت تورط بن لادن والقاعدة ـ حسب طالبان ـ في هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وهما سببان أظهرا عمق وتداخل العلاقة بين طالبان كحكومة وحركة سياسية مسيطرة، وبين القاعدة برؤيتها الأيديولوجية التي لا تناهضها طالبان في كلياتها أو جزئياتها، بل تعتقد في صحتها وفي شرعيتها الدينية دون أدنى شك.

شلل مؤقت وليس هزيمة كاملة

على أي حال دارت رحى الحرب، وضُربت القاعدة في صميم مخابئها في "تورا بورا" الجبلية، وسقط الكثير من الضحايا، واختفى القادة والرموز لبعض الوقت، وشُلت المواقع الإلكترونية لكل من طالبان والقاعدة، التي كانت وسيلة اتصال الكيانين بالعالم وبالأعضاء والمتعاطفين. وبات الحديث عن حق لقد شُلت القاعدة فعلا، ولكنها لم تُهزم كاملة، الأمر الذي أدى بإدارة بوش الابن إلى وضع إطار قانوني ودولي يبرر البقاء فترة أطول في أفغانستان وإعادة بناء نظامها السياسي بما يلبي تغييرا جوهريا في منظومة القيم المجتمعية والسياسية، وأيضا بما يحول دون عودة القاعدة للظهور مرة أخرى، وتهديد المصالح الأميركية والغربية بوجه عام. وهنا تكمن المفارقة الكبرى.

فما يجري الآن من مسعى أميركي لتوقيع اتفاقية سلام مع حركة طالبان التي تسيطر على ما يقرب من نصف مساحة أفغانستان ونحو 35% من السكان، لاسيما في المناطق الريفية، وفقا لتقارير بعثة الأمم المتحدة لدعم أفغانستان (يوناما)، يعطينا مؤشرا على أن الحرب الأميركية على طالبان لم تحقق أحد أبرز أهدافها هو القضاء على الحركة ومنعها من العودة مرة أخرى للحياة السياسية. وما دامت هناك مفاوضات مع طالبان من أجل ضمان بقاء عدد أصغر من الجنود الأميركيين لمهام استخبارية كما أعلن الرئيس ترمب، وضمانات بألا تقدم  طالبان حال مشاركتها في الحكم أي مساندة للقاعدة أو لداعش أو لأي طرف يهدد المصالح الأميركية، فإننا أمام نتيجة عملية تقول إن استراتيجية المواجهة العسكرية الأميركية قد فشلت ولو جزئيا، وأن التركيز على عدم مساندة طالبان للقاعدة يعني إدراكا بأن القاعدة لا تزال تشكل تهديدا على الرغم من كل ما تم بذله طوال الثمانية عشر عاما الماضية.

وهو ما أوضحه منسق مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأميركية ناثان سيلز في تقييم له في الثاني من أغسطس (آب) الماضي نشرته وكالة "بلومبيرغ"، قال فيه "إن تنظيم القاعدة الإرهابي ما يزال يشكل تهديدا على الولايات المتحدة (كما كان في السابق)، فقد أعاد التنظيم بناء نفسه، في وقت كانت الولايات المتحدة تركز كل اهتمامها على القضاء على داعش في العراق وسوريا". مشيرا إلى أن سلطات بلاده "تراقب عن كثب (فروعا نشيطة) للقاعدة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الصومال، حيث تنفذ (حركة الشباب) هجمات بشكل منتظم".

الاعتراف الأميركي الرسمي بوجود تهديد من القاعدة لا يعني بالضرورة أنه تهديد مباشر للداخل الأميركي كما حدث في سبتمبر 2001، بل في حقيقته تهديد للمصالح الأميركية عبر العالم ولعدد كبير من حلفائها لا سيما في الشرق الاوسط. مثل هذه الخلاصة تعني أن القاعدة وعلى الرغم من كل الضربات التي تعرضت لها، وعلى الرغم من قتل العديد من قياداتها وعناصرها، وأبرزهم بالقطع مؤسسها ورمزها الأكبر أسامة بن لادن نفسه الذي قتلته وحدة أميركية مخصصة في مخبئه في "أبوت أباد" الباكستانية مايو (أيار) 2010 ، فإنها ظلت باقية كتنظيم، ذي أيديولوجية لا تزال تجد من ينجذب لها في أكثر من بلد عربي ومسلم.

تغير الهيكلية القيادية

البقاء كتنظيم لا يعني بالضرورة أن هيكلية القيادية المركزية التي كان عليها قبل 2001، هي نفسها التي استمرت بعد ذلك. هنا نجد تحولا كبيرا من المركزية التي كانت السمة الرئيسية قبل انطلاق العمليات العسكرية الأميركية، إلى الانتشار واعتماد اللامركزية كنمط للقيادة بين رمز التنظيم وقائده ومؤسسه حتى مقتله ثم خليفته لاحقا أيمن الظواهرى.

ووفقا للوثائق التي عثر عليها في مخبأ بن لادن يوم مقتله، وتم تسريبها لاحقا فقد تبين أن بداية الانتشار وتوزع القيادات في الفترة التي تلت الاجتياح الأميركي تمثل في توزع قادة القاعدة إلى مجموعتين: تبعت الأولى زعيم التنظيم أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري إلى داخل باكستان، فيما عبرت مجموعة ثانية الحدود إلى إيران. ضمت المجموعة الأخيرة عددا من كبار قادة القاعدة، مثل سيف العدل وأبو حفص الموريتاني وسليمان أبو غيث وأبو يحيي الليبي وحتى أبو مصعب الزرقاوي زعيم القاعدة في العراق وناصر الوحيشي زعيمها في اليمن.

في حوار مع أحد قيادات القاعدة ويدعى محفوظ ولد الوالد، الذي شغل منصب ما يسمى "رئيس اللجنة الشرعية" في تنظيم القاعدة، وعمل بالقرب من أسامة بن لادن لفترة طويلة يحلل وضع الانتشار بأنه كان ضرورة لمواجهة واقع جديد، لم يعد فيه مؤسسه ومموله والقيادة التي تعني كل شيء كما كان في السابق، إذ بات منتشرا جغرافيا، فأصبح تقريباً لا يوجد إقليم إلا وفيه فرع من فروع التنظيم، ضعُف مركزياً نتيجة للملاحقات الأمنية ونتيجة للضربات المتتالية والظروف الصعبة التي يعيش فيها. عوّض عن هذا النقص الذي وُجِد في المركز بقوة وُجِدت في الفروع، سواء كانت فرعه في الجزيرة العربية، أو فرعه في المغرب العربي، أو فرعه سابقاً في بلاد الرافدين، الذي تطور لاحقاً إلى أن أصبح تنظيم داعش في كل من سوريا  العراق. كما أسس فرعاً أيضاً أخيراً في جنوبي شرق آسيا، وفي أفريقيا كما في الصومال ونيجيريا. وهو انتشار أدى إلى تطور أفكار التنظيم وأساليب حركته.

ولكن ظل الرابط الأقوى ممثلا في البيعة لقائد التنظيم، التي تعني الولاء التام والالتزام والانصياع للأوامر والتوجيهات التي تصدر عن القائد سواء بصورة عامة، أو بصورة محددة لكل تنظيم فرعي على حدة. وهي بيعة مرهونة بالولاء للأفكار الكلية للتنظيم وأبرزها "مجاهدة الكفار إلى يوم الدين" و"السعي إلى دولة داعش"، و"العمل الدؤوب على أسلمة المجتمع"، وفقا للتفسيرات الشرعية التي يؤمن بها التنظيم وتحددها لجنة من مجموعة شيوخ، لا سيما مبدأ الولاء والبراء، الذي يعني حسب تلك التفسيرات الولاء لكل ما هو إسلامي، والتبرؤ من كل ما هو غير إسلامي.

إشكاليات الانتشار وضعف القيادة المركزية

في إطار هذه الرؤية الفكرية تعمل الفروع المنتشرة في أكثر من بلد، ولكن في التطبيق لكل منها حق الاجتهاد في إطار ما يناسب الواقع المحلي. وقد أخذ الأمر مناحي مختلفة وصعبة مع نشوء اجتهادات أخرى داخل الفروع، لاسيما مع "فرع تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين والشام" بزعامة أبو مصعب الزرقاوي قبل مقتله، فيما يتعلق بالتعامل مع سكان المناطق التي ينشط فيها التنظيم، لا سيما غير السنة كالشيعة والمسيحيين والإيزيديين. وهي الخلافات الفكرية التي أسست لاحقا لانسلاخ فرع القاعدة في العراق والشام وتأسيس ما عرف بـ"داعش" بزعامة أبوبكر البغدادي الذي خلف الزرقاوي بعد موته.

وكانت أبرز الخلافات بين الزرقاوي وكل من بن لادن والظواهري تتعلق بالتعامل مع الشيعة، عوامهم وشيوخهم، والتمكن من الأرض والمجتمع وإعلان تنظيم داعش، والأولوية في الجهاد. فبينما دعا تنظيم القاعدة فروعه إلى عدم مهاجمة عموم المسلمين، وعموم الشيعة في العراق، هاجم الزرقاوي هؤلاء باعتبارهم كفارا، وبينما كانت الأولوية حسب رؤية بن لادن لمجاهدة العدو الأكبر، أي الولايات المتحدة والغرب، لدفعهم إلى مغادرة بلاد المسلمين، كانت رؤية الزرقاوي وداعش لاحقا هي أولوية القضاء على الحكام المحليين الموسومين بالكفر حسب تفسيراته وتأجيل مواجهة العدو البعيد. ولم يهتم "داعش" بفكرة استقطاب المؤيدين كما تفعل القاعدة، بل بدفهم إلى الطاعة قسرا وإجبارا، واستخدم في ذلك ما عرف بـ "استراتيجية إدارة التوحش"، التي ركزت على استخدام العنف المطلق بدون أي ضوابط شرعية كوسيلة لإذلال العامة وإرهابهم من مجرد التفكر في مخالفة التنظيم ومبادئه.

كذلك كانت "القاعدة" حسب الوثائق التي عثر عليها في مخبأ بن لادن تكشف أن بناء دولة الخلافة يتطلب عدة شروط ليست متوافرة، وأن الأمر مؤجل لحين سيطرة القاعدة وأفكارها على المجتمع أولا، ثم إعلان تنظيم داعش لاحقا، وكان الزرقاوي ومن بعده أبو بكر البغدادي يعطيان الأولوية للتمكن من الأرض وما عليها من سكان وإجبارهم عنوة على الانصياع الكامل لتعليمات التنظيم مع إعلان تنظيم داعش كنظام عام. ونتيجة هذه الخلافات الكبرى أخذت العلاقة بين التنظيمين تأخذ شكل الصراع، وكانت القاعدة ترى في "داعش" وقادتها خوارج، وكانت داعش ترى في القاعدة وقادتها كفرة لا يجب الانصياع لهم. والمرجح في ضوء التطورات المنتظرة في أفغانستان إذا ما تم توقيع اتفاق سلام مع الجانب الأميركي، أن تشهد أفغانستان حربا ضروس بين المنتمين للقاعدة وهؤلاء الذين بايعوا "داعش" وينشطون في 24 ولاية من بين 43 ولاية أفغانية.

حالة الصراع الفكري والتنظيمي بين القاعدة وداعش في مرحلة الانتشار الجغرافي والقيادة اللامركزية تمثل واحدة من أهم الإشكاليات التي واجهت القاعدة، ولا تزال تواجهها. إضافة إلى إشكاليات أخرى، منها نضوب مصادر التمويل، وكذلك وقوع الفروع المحلية تحت ضغوط الحكومات المحلية إضافة إلي استمرار الحملة الأميركية الدولية لمكافحة الإرهاب، التي ركزت في شق منها على فروع القاعدة لاسيما في اليمن والصومال والعراق، وإدارة العلاقة مع كل من باكستان وإيران، وكلاهما قام بتوفير المأوي والملاذ لعدد من قيادات القاعدة البارزين بعد العام 2001، ومع الضغوط الأميركية تخلت باكستان رسميا عن هؤلاء، ولكن بعضهم استغل علاقاته القديمة مع القبائل البشتونية المقيمة على الحدود بين باكستان وأفغانستان، واستفاد من الواقع الجغرافي للاختباء في داخل الأراضي الباكستانية إلى حين. أما إيران فقد ثبت أنها استضافت عددا من قيادات القاعدة وقاموا فيها عدة سنوات هم وأسرهم، ثم سمحت لبعضهم بالخروج إلى باكستان والعراق، ومنهم الزرقاوي، الذي يُعد الأب الروحي لتنظيم "داعش" .

وهكذا طوال ثمانية عشر عاما من الضغط العسكري والسياسي والتمويلي، وعلى الرغم من القضاء على عدد من رموز القاعدة وقياداتها، وسجن بعضهم لدى الولايات المتحدة في غوانتانامو، بقيت القاعدة في أفكارها، وفروعها المنتشرة جغرافيا، وتشير التقييمات الاستخبارية الأميركية والغربية إلى أنها تظل مصدر تهديد، ربما أقل من ذي قبل، ولكنها تمثل إشكالية أمنية فكرية دينية وسياسية، تتطلب استراتيجية جديدة للمواجهة عالميا ومحليا. وهو ما يمثل تحديا للنظام الدولي ككل.

المزيد من تحلیل