Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موت الإنسان... من تنوير الفكر إلى "عتم الميتافيرس"

ثورة الذكاء الاصطناعي وطغيان المعلومات الزائفة تضع البشرية أمام سؤال الوجود والمصير

الانتقال من مرحلة الذكاء الاصطناعي إلى عالم السوبر ـ ذكاء يضع البشرية أمام سؤال الوجود (أ ف ب)

ملخص

ثورة الذكاء الاصطناعي وطغيان المعلومات الزائفة تضع البشرية أمام سؤال الوجود والمصير

يبدو أحد الأسئلة الجوهرية التي تتقاطع مع حاضر بشريتنا في منتصف العقد الثالث من القرن الـ21 موصولاً بمآلات الإنسانية في ظل التقدم التكنولوجي، والثورة المعرفية، والانفجار المعلوماتي، عطفاً على قادم الأيام، حيث الانتقال من خانة الذكاء الاصطناعي إلى صفوف السوبر ـ ذكاء، ومن عالم الإنترنت إلى مدارات الميتافيرس، إضافة إلى ما يستجد من نوازل مبتكرات واختراعات حكماً ستغير الأوضاع وتبدل الطباع الكونية للعنصر البشري.

هنا علامة الاستفهام الحيوية والجوهرية: هل هو تقدم للأمام أم تراجع للخلف، بل، أهو صعود للأعلى أم هبوط وربما من دون دراية كافية إلى غيابات الجب؟

علامات استفهام قد تبدو غريبة أو عجيبة، فكيف للبشرية أن تتراجع بعدما بلغت شأناً عالياً من المخترعات والتقدم التكنولوجي، وقد غادرت البر والبحر، وباتت تستوطن الفضاء عبر محطات دائمة؟

في مؤلفه "عصر مظلم جديد"، يخبرنا جيمس برايدل الكاتب والفنان البريطاني، بأن "العتم تكاد تغشى الأرض، وأن التقنية والمعرفة ربما باتا يمثلان نهاية المستقبل".

منذ عصر التنوير، هيمن على العالم الغربي منطق ثقافي يفترض أن مزيداً من المعلومات يؤدي إلى اتخاذ قرارات أفضل، غير أن الحقيقة تقودنا إلى القطع بأن عصر المعلومات يحيل العالم أشد التباساً، وأن قدرتنا على استيعاب هذا العالم تتضاءل في وقت يتفاقم فيه تعقيده التقني، وأن من لديهم المقدرة على تجميع المعلومات يستغلون هذا العجز عن الفهم في تعزيز مصالحهم.

أتكون المعلومات فرانكشتاين عصرنا، على رغم أن البعض اعتبرها السلعة البديلة عن النفط؟

ربما يكون المدخل من قصة يرويها برايدل بنفسه تثبت أن عصر العتم الكوسمولوجي، يكاد يبز عصر التنوير الذهني، وهذه هي المفارقة المؤلمة التي تجد البشرية ذاتها في مواجهتها... ماذا عن ذلك؟

النيجيري وطائرة عيد الميلاد

ربما لا يوجد اهتمام بالمعلومات أكثر من اهتمام أجهزة الاستخبارات العالمية، لا سيما أنها تحمي أرواح البشر من خلال قطع الطريق على فاعلي الإثم شرقاً وغرباً.

في مقدم تلك الأجهزة تأتي استخبارات الولايات المتحدة الأميركية، الدولة التي لا تزال متقدمة بقية دول العالم، في سياق أعمال التجسس، انطلاقاً مما يتوافر لها من معلومات فائقة الكثرة، شديدة الدقة والأهمية.

غير أن بعض التساؤلات لا تزال معلقة بحثاً عن أجوبة، ومنها: هل كثرة المعلومات هو ما يعوق الاستفادة منها، أم ندرتها؟

لا توجد اليوم ندرة، بل وفرة، ويكفي أن يتطرق الحديث عن وكالة مثل "وكالة الأمن القومي الأميركي" NSA حتى يدرك كيف لواشنطن أن ترصد دبيب النمل حول العالم، مما يعني أن المعلومات الفائقة تنير الطريق وتبدد العتم.

غير أن واقع الحال قد يحمل لنا قراءة في المعكوس، وتأخذنا للسير في اتجاه مخالف... كيف ذلك؟

الثابت أنه عشية عيد الميلاد عام 2009، حاول شاب نيجيري تفجير شحنة ناسفة على متن طائرة أميركية كانت في رحلة بين أمستردام وديترويت، غير أن بعض ركاب الطائرة تمكنوا من السيطرة على الشاب وإحباط محاولة التفجير.

لاحقاً وبعد أن بدأت التحقيقات الموسعة حول الاختراقات الأمنية التي سمحت بصعود مثل هذا الشاب على متن الطائرة، اعترف الرئيس الأميركي وقتها، باراك أوباما، بأن المشكلة لم تكن في نقص المعلومات، بل في زيادتها المفرطة. وقال "لم يكن هذا إخفاقاً في جمع المعلومات، بل كان في استيعاب المعلومات التي كانت بين أيدينا بالفعل والتأليف بينها".

تبدو الخلاصة التي يخرج بها برايدل من مؤلفه الكبير أن هناك أزمة عالمية حقيقية في دائرة المعرفة المعلوماتية، ثم التقنية أممياً، فعلى رغم أن العالم الغربي سيطر عليه منذ عصر التنوير منطق ثقافي يفترض أن مزيداً من المعلومات يؤدي إلى اتخاذ قرارات أفضل، فإن الحقيقة الرابضة اليوم على الأرض تفيد بأن عصر المعلومات يجعل من العالم أشد التباساً، وأن قدرتنا على استيعاب هذا العالم تتضاءل في وقت يتفاقم فيه تعقيده التقني، وأن من يمتلكون السلطة يستغلون هذا العجز عن الفهم في تعزيز مصالحهم، ولهذا نشأ عصر مظلم جديد يشهد ظهور مزيد من الأصوليات والسرديات التبسيطية ونظريات المؤامرة وسياسات ما بعد الحقيقة.

هل يمكننا القطع بأن هناك من يتلاعب بعقول البشر معلوماتياً؟

عن زمن المتلاعبين بالعقول

عام 1973 وباكراً جداً، أصدر عالم الاجتماع والمؤلف والناقد البروفيسور الأميركي هيربرت شيللر، كتابه المهم "المتلاعبون بالعقول"، وفيه حذر من اتجاهين رئيسين، الاستيلاء الخاص على الأماكن والمؤسسات العامة في الداخل (داخل الولايات المتحدة)، وهيمنة الشركات الأميركية الكبرى على الحياة الثقافية في الخارج.

فتحت كتب شيللر الثمانية ومئات من مقالاته، أعين العالم على الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في المجتمع الحديث.

أطلق شيللر مصطلح "الإعلام المعبأ"، أي ذاك الذي يحاول أن يخلق في أذهان الناس صورة معينة، تخدم أصحاب المصالح الخاصة، لا سيما أصحاب الشركات الكبرى ورؤوس الأموال الهائلة المتنقلة بين الداخل والخارج.

كانت شركة AT&T في ذلك الوقت والقائمة في مدينة نيويورك تهيمن بصورة أساسية على النشر والتلفزة والتسجيلات والأشرطة وصناعة الأفلام.

في "المتلاعبون بالعقول"، يحدثنا شيللر عن فكرة "صناعة الوعي المعلب"، والوعي هنا لا يقوم إلا على الترويج لأفكار بعينها، وعنده أن الهدف الأساس للقائمين على تلك الشبكات المعرفية والمعلوماتية، هو محاولة الوصول إلى حالة من استقرار الوضع المناسب الذي يضمن الاستمرار في تحقيق مصالحهم، ولأجل الوصول إلى ذلك يتعين خلق حالة من السلبية العامة عبر وضع حاجز بين العزم والفعل بواسطة الهجمات الإعلامية الممنهجة.

يعن لنا أن نتساءل اليوم: إذا كان هذا حال المتلاعبين بالعقول في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وقد كان الإطار محدوداً ومحصوراً في الإذاعة والتلفزة والصحافة، فكيف يضحى حال المشهد اليوم في ظل هذا الانفجار المعلوماتي من إنترنت ووسائط تواصل جعلت العالم يتحول من قرية صغيرة كما قال مارشال ماكلوهان عالم الاجتماع الكندي في ستينيات القرن الماضي، إلى صندوق صغير متمثل في "الهواتف الذكية"؟ ثم خذ إليك قادم الأيام من عالم الذكاء الاصطناعي إلى الميتافيرس والسوبر ذكاء؟

هل طوفان المعلوماتية بات نذير شؤم على البشرية، لا سيما بعد فقدان المقدرة على التمييز بين الحقيقي والزائف؟

التزييف وانتخابات الرئاسة الأميركية

تبدو البشرية اليوم وكأنها أمام رافد معلوماتي غير مسبوق، فقد باتت مصادر التجميع هائلة، لا سيما في زمن التكنولوجيا الفائقة التي تمثل الأرض الخصبة لعالم الذكاء الاصطناعي.

لكن التساؤل المثير: من يضمن دقة وصحة ورجاحة ما تطرحه تلك الميكانيزمات الحديثة من معلومات؟

خلال حديثه عن أخطاء الذكاء الاصطناعي المتصلة بالمعلوماتية في شهر مايو (أيار) الماضي، لفت رئيس شركة "مايكروسوفت" براد سميث، إلى قضية باتت تحظى بأهمية بالغة في الآونة الأخيرة، وتتمثل في ظهور ما يعرف بتقنيات التزييف العميق... ما الذي يعنيه هذا المصطلح الذي يتردد كثيراً في عالمنا المعاصر؟

باختصار غير مخل، يفيد بأن هناك محتويات معلوماتية تنير الشاشات على أنها حقائق مؤكدة، لكن في الواقع هي تخلق ظلاماً شديداً، ذلك أنها من فرط حرفية صياغتها، تبدو وكأنها حقيقية، في حين أنها منحولة، ولا تمت إلى الواقع بصلة وإنما هي محض تضليل وتزييف وتشويه الحقائق كلها.

على بعد أشهر معدودات من الانتخابات الرئاسية الأميركية، احتل جدل المعلومات المزيفة مساحة عريضة من نقاشات واشنطن، نخبة وعوام، لا سيما أنه هناك في الخلفية أزمة موصولة بانتخابات الرئاسة الأميركية في 2016 بين المرشح الجمهوري دونالد ترمب، ومنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.

وقتها كال الديمقراطيون الاتهامات للروس، بأنهم تدخلوا في سير العملية الانتخابية ونتيجتها، بعد أن اخترقوا أجهزة الحواسيب الخاصة بحملتهم الانتخابية.

هذه المرة، أي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، حيث الضبابية تخيم بقوة فوق سماوات أميركا، ربما لا يكون التلاعب المعلوماتي من خارج البلاد بل من داخلها، مما يعني أن الأزمة محلية وأن إطفاء أنوار الحقيقة مصدره الحدود الأميركية وليس خارجها.

أخيراً تحدث الرئيس التنفيذي لشركة Open AI المبتكرة لبرنامج "تشات جي بي تي"، سام ألتمان، أمام مجلس الشيوخ الأميركي، عن قلقه الكبير من أن يؤثر استخدام الذكاء الاصطناعي في نزاهة الانتخابات.

هل هذا وارد بالفعل؟

بكل تأكيد ذلك كذلك، لا سيما بعد أن جاءت "ثورة الذكاء الاصطناعي"، لتسهل من برامج استنساخ الصوت والنماذج اللغوية الكبيرة، وبرامج توليد النصوص وكذلك صور، فضلاً عن إنشاء المحتوى المضلل... هل من أمثلة على مثل هذا التضليل؟

مؤكد هناك مئات الأمثلة، والمعركة الانتخابية الرئاسية في القلب منها، فقد ظهرت على السطح مقاطع للرئيس جو بايدن تظهر كيف يقضي نهاره، ويبدو التعليق الصوتي في الفيديو وكأنه بايدن بالفعل، على رغم أن العمل كله مزيف لكن بطريقة احترافية لم يكن من الممكن حتى عقدين سابقين الوصول إليها على هذا النحو من الدقة.

لم يخل الأمر من تزييف عميق بالصوت والصورة والمعلومات، طاول الرئيس السابق ترمب، الذي أظهرته بعض المشاهد وكأنه مقبوض عليه.

أما رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، فأظهرته بعض المواقع في صور تجمعه برئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، خلال حفل زواجهما!

حديث المعلومات المضللة والزائفة ربما لا يحتاج إلى ذكاء اصطناعي... كيف لأدوات أخرى أن تتفاعل سلباً؟

"فيالق الحمقى" ووسائط التواصل

هل انفجرت بالونة المعلوماتية، وجاء انفجارها كارثياً على النور، وملاذاً للعتم، ذاك الذي يمكن أن يختبئ بين حناياه وثناياه المزيفون والحمقى؟

غالب الظن أن هناك أزمة عميقة محدثة، لم يكن العالم يدانيها حتى عقدين من قبل، حين كانت مسارب المعلوماتية محدودة، وفكرة الترويج لما هو غير حقيقي، قابلة للسيطرة، أما اليوم فغالب الظن أن التحكم والهيمنة قد تواريا مرة وإلى الأبد.

ربما أفضل من وصف أزمة المعلوماتية وعصور التزييف، الفيلسوف الإيطالي الراحل إمبرتو إيكو (1932- 2016) الذي تكلم غير مرة عمن أطلق عليهم لقب "فيالق الحمقى"، أولئك الذين يروجون ما شاء لهم أن يروجوا من أخبار.

إيكو في حديثه تذكر حال العالم من الأربعينيات حتى التسعينيات، حين كان أولئك الحمقى يدخلون الحانات لشرب كأس من النبيذ.

حين كانت الكؤوس تتلاعب بمقدراتهم العقلية، ويبدأون في الثرثرة غير الخلاقة، كان العقلاء يعمدون إلى إسكاتهم بالنظرة تارة، والزجرة تارة أخرى، فيلوذون بالصمت أو يغادرون بالخزي مطأطئي الرؤوس.

فتحت مسارب التقنية المعاصرة لمثل هؤلاء أبواباً جهنمية يلجون منها إلى العتم ويشوشون على الحقائق، إذ يكفي أن يمتلك أحدهم هاتفاً ذكياً، مما يجعل منه مالكاً لصحيفة أو أكثر، وصاحب شبكة إذاعية أو ما يزيد، ناهيك بحيازة محطة تلفزيونية تطوف بالعالم شرقاً وغرباً.

لم يعد التحكم في فيالق الحمقى أمراً في المقدور أو المستطاع، مما يعني أن القضية المعلوماتية لم تعد متعلقة بالذكاءات الاصطناعية فحسب، بل بأدوات التقنية التي باتت ملازمة لسعي الإنسان المعاصر، ولم يعد من الممكن الاستغناء عنها.

غير أن هذا لا يعني أن مدارات الذكاء الاصطناعي بدورها لم تعد تمثل خطراً معرفياً، قائماً وقادماً على الحقيقة المضيئة، إذ يقطع الثقات في محيطها بأنها تحمل في طياتها مخاوف مرعبة، تجعل عالم المعلوماتية أكثر هولاً من أزمنة الحروب التقليدية... لماذا وكيف؟

جيفري هنتون وندم أوبنهايمر

تبدو متناقضات حياة العظماء من المخترعين محزنة، لا سيما بعد أن تنفتح أعينهم على ما في مخترعاتهم من كوارث هائلة أدت وتؤدي وستؤدي حكماً إلى عوالم كارثية.

في نهايات حياته، ندم المهندس والمخترع السويدي ألفريد نوبل على صناعته للديناميت، فعلى رغم أن الاختراع الحديث سهل كثيراً من الأمور الحياتية لا سيما في مجال الصناعة، فإنه وجد طريقه إلى ساحات الحروب، وأدى إلى موت الآلاف ثم الملايين، وربما من هنا جاء تعويضه عبر تكريس جوائز نوبل للسلام.

الأمر عينه ينسحب على المخترع الأميركي روبرت أوبنهايمر، صاحب المجهود الكبير في طريق الوصول إلى أول قنبلة نووية تم تجربتها في صحراء نيومكسيكو.

هل انسحب الأمر بالفعل على الرجل الذي وقف طويلاً وكثيراً وبقوة وراء ثورة الذكاء الاصطناعي؟

هذا ما حدث بالفعل، ففي أوائل شهر مايو (أيار) 2023، أعلن الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، جيفري هنتون، استقالته من شركة "غوغل"، وانقلابه على اختراعه الذي غير الأوضاع وبدل الطباع.

أهمية هنتون تتأتى من كونه عمل طويلاً على تطوير الشبكات العصبية الصناعية، أحدث ثورة في عالم التكنولوجيا الحديثة، وتعتبر أعماله حجر الأساس لتطوير آلات شبيهة بالدماغ البشري، وتتميز باستقلالية عن مبرمجيها في المستقبل.

في الكلمة التي ألقاها لمناسبة استقالته، عبر هنتون عن ندمه جزئياً على العمل في مجال الذكاء الاصطناعي، محذراً من أخطاره التي قد تصبح في ما بعد خارج نطاق السيطرة.

كارثة الشبكات العصبية تتمثل في أنها قادرة على تحويل الخيال إلى واقع. فعلى سبيل المثال: في عام 2017 صدم العالم بما فعلته إحدى شركات "تركيب الكلام"، وتدعى "ليريبيرد"، حين أصدرت تسجيلات لمحادثة مزيفة مذهلة في مطابقتها للأصل بين باراك أوباما وهيلاري كلينتون ودونالد ترمب.

هل أدرك جيفري هنتون أمراً ما يطابق في كارثيته ديناميت نوبل ونووي أوبنهايمر جعله يشعر بفداحة ما جادت به قريحته؟

غالب الظن أن هذا ما حدث بالفعل، إذ واجه نتيجة مستقبلية كارثية تتمثل في إمكانية انقراض البشر من جراء طفرة ووفرة الذكاءات الاصطناعية.

يكاد الحديث يأخذنا إلى مناطق الخيال العلمي، التي تضحى يوماً تلو الآخر حقيقة مزعجة، تأخذنا من منطقة تزييف المعلومات، إلى الاستغناء عن العنصر البشري، وفي مرحلة لاحقة الانقلاب عليه.

تبدو مسيرة الذكاء الاصطناعي ماضية لجهة المرحلة الثانية، ومع الوصول ستنطلق المسيرة نحو المرحلة النهائية المعروفة باسم "الذكاء الاصطناعي الفائق"، وفيه سيصل مستوى هذا الذكاء إلى ما يفوق معدلات الذكاء البشري.

هل ستقصي الروبوتات الخليقة من فوق سطح الأرض، وهل هذه هي التقنية التي ابتدعها البشر لتسهيل حياتهم، ومن ثم انقلبت عليهم وتكاد تنهي وجودهم فوق الكوكب؟

الجواب عند الفيلسوف وخبير الذكاء الاصطناعي بجامعة أوكسفورد، البروفيسور نيكولاس بوستروم، وهو أن الذكاء الاصطناعي ربما تكون نهايته جنونية في علاقته مع البشر، ويشرح ذلك بالقول "لكي يصبح الإنسان مهندساً أو ممرضاً أو محامياً يتعين عليه أن يدرس لفترة طويلة، أما المشكلة مع الذكاء الاصطناعي فهي أنه يمكنه تطوير نفسه باستمرار".

هل الذكاء الاصطناعي بشكله المعاصر قادر بالفعل على امتلاك القدرة الكافية على تحقيق هذه الأخطار؟

مرة أخرى يطفو على السطح جيفري هنتون، ففي حديث له مع "بي بي سي"، يحذر الرجل من تعليم الآلات التجربة، ويؤكد أننا نقترب من هذه المرحلة، ويقطع بقوله "في الوقت الحالي، الآلات ليست أذكى منا بقدر ما أستطيع أن أرى، لكنني أعتقد أنها قد تكون قريبة من تحقيق ذلك".

من هنا تتبدى المخاوف الرهيبة من تضافر مثالب المعلومات المتفجرة من ثغور العولمة، وبخاصة حال اتحادها مع الذكاءات الضارة إن جاز التعبير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

زمن العتم وبنى الشبكات الممنهجة

تبدو أزمنة العتم تخيم على عالمنا من جراء استلاب عقول البشر، وبخاصة عبر استخدام أدوات التواصل الاجتماعي، إذ تستخدم البنى التي تم تشييدها من أجل توسيع نطاق الاتصالات والخطابات الإنسانية، ضد الجميع بطرائق منهجية ومؤتمتة.

هل هناك تواطؤ على سبيل المثال في إساءة استعمال "يوتيوب" و"غوغل" مع أصحاب رؤوس الأموال وكبار مديري الشركات العالمية، ناهيك بعتاة السياسيين؟

يكفي أن يتابع المرء المعركة التي نشبت من جراء حرمان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب من حسابه على "تويتر"، ومدى تأثير الأمر على تواصله مع مؤيديه لندرك مقدار الظلام الكامن في أحشاء تلك الوسائط.

ولعله من نافلة القول إن هناك من يغزل غزلاً سيئاً للغاية عبر تلك الأدوات للتأثير في عقول الأجيال القادمة، فعلى سبيل المثال فإن البنية التي تم تشييدها لاستخلاص أقصى ربح من فيديوهات الإنترنت يخترقها اليوم أشخاص مجهولون من أجل الإساءة إلى الأطفال، عن قصد أو عن غير قصد، لكن على نطاق واسع يمكن القطع بأن أصحاب هذه المنصات يتحملون مسؤولية مطلقة عن التعامل مع هذا الوضع، كما يتحملون مسؤولية التعامل مع إصابة الشباب اليافعين بفيروس الراديكالية من خلال فيديوهات تحمل أفكاراً متطرفة، لكنهم لم يكشفوا حتى الآن عن أي استعداد لتحمل تلك المسؤولية، وهو أمر حقير لكنه غير مفاجئ للأسف. أما السؤال عن كيفية الاستجابة من دون إيقاف الخدمات نفسها، وكثير من النظم التي تشبهها، فليست له إجابة سهلة.

لم يعد هناك مجال للإنكار لجهة القول إن التقنيات التكنولوجية الحديثة قد باتت السيد المتحكم في تصريف المعلومات، مزيفة كانت أو حقيقية، وأنها المسؤولة عن تخليق فجوة بين الأجيال السابقة واللاحقة، مما يصنع تغيرات جذرية في طريقة الحياة، إما سلبية أو إيجابية.

وفي غالب الأمر فإن التلاعب بالمعلومات عبر التقنيات، حكماً سيفرز نوعاً من الأجيال المتفردة، وغالباً سيخلق نوعاً من المشكلات التي لم نفكر فيها من قبل، وربما لم يتخيلها العقل البشري.

هذه الحقيقة تثير اليوم جدلاً بين علماء النفس وعلماء الأعصاب، وكذا علماء البيولوجيا، كما أحدثت شرخاً كبيراً في تركيبة المخ البشري، بشهادة المتخصصين في تلك الحقول المعرفية.

وفي الخلاصة، فإنه حين سرق برومثيوس النار من موكب الآلهة، وأعطاها للبشر بحسب الميثولوجيا اليونانية، كانت نيته أن ينير العالم، ويبدد عتمة الأجواء المحلقة فوق البشر.

غير أن النيران سرعان ما تسببت في الحرائق والحروب بأكثر مما استخدمت في الرخاء والتقدم... هل الأمس شبيه باليوم؟

ربما يحتاج الجواب إلى قراءات معمقة، لكن المطلوب على وجه السرعة، هو وضع "كود أخلاقي" لمنع تكرار مأساة برومثيوس، الذي دفع ثمناً غالياً من حياته حين عاقبته آلهة الأوليمب.

المزيد من تحقيقات ومطولات