ملخص
أصدر الناقد المصري نجيب البهبيتي "تاريخ الشعر العربي" عام 1950، وزعم أن الدكتور ناصر الدين الأسد انتحل نتائجه في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي" الصادر في عام 1956، فيما عارضه آخر، ولا تزال المسألة بحاجة للمناقشة والتحقيق
منذ السنوات العشر الأولى للقرن العشرين، لم تكن جامعة القاهرة بكل كواليسها وهي الوليدة آنذاك، بمنأى عن أجواء المعارك والسجالات الأدبية التي دارت بين الرواد في الأدب والتاريخ والفن والفكر وغيرها بما اتسمت به من لغة عنيفة وأفكار تبلور حول بعضها أسئلة النهضة العربية فيما بعد.
وفيما كان للكثير من الأساتذة والباحثين والطلاب في الجامعة نصيب من هذا الإرث العلمي الجليل المتمثل في البحث عن المنهج والتوثيق والاستقصاء والنتائج، فإن بعضهم لم تكتب له النجاة من آفة "صراعات الولاء" من واقع المنافسة غير الشريفة، وقد تمحورت حول أصالة أو انتحال منجز ما.
هذه النزاعات والخصومات وإن دارت آنذاك همساً وباتت السر الذي يعلمه الجميع، فإن بعض كبار الأكاديميين وثقها في سيرهم مما جعلها ذائعة الصيت خارج أسوار الجامعة، مع التقدير لكافة الجهود العلمية الجادة التي قدمت آنذاك.
في هذا المناخ العام تدور مرويتنا هنا بين نجيب البهبيتي والدكتور ناصر الدين الأسد، تحديداً في عامي 1950 و1955. في التاريخ الأول أصدر البهبيتي كتاب "تاريخ الشعر العربي حتى القرن الثالث الهجري" بعدما مرّ بتراجيديا علمية في طريق الاعتراف بنتائجه الرائدة، إذ لم يكن الطريق ممهداً للرد على مغالطات المستشرقين وطه حسين، وهو سجال انتهى في نهاية الرحلة الشاقة لصالحه.
وفي التاريخ الأخير، بعدها بخمس سنوات، حصل ناصر الدين الأسد (1922 – 2015) على دكتوراه عن "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية"، وصدرت في كتاب عن دار المعارف المصرية في طبعتها الأولى عام 1956، وحظي بإجماع المثقفين وغيرهم وتوالت طبعاته حتى قيل، "في صحة الشعر الجاهلي ثمة قولان، قول طه حسين وقول الأسد".
في عام 1970 وثق البهبيتي في 34 صفحة، لم يذكر فيها اسم الأسد، واكتفى بعنوان الكتاب "مصادر الشعر الجاهلي"، ما مفاده أن النتائج الواردة به في انتحال الشعر الجاهلي وغيره من المسائل منتحلة بالأساس مما قدمه ونشره قبل ذلك بسنوات. وفقما رصد في مقدمة الطبعة الرابعة التي صدرت عن دار الفكر في بيروت ومكتبة الخانجي بالقاهرة، ودار الثقافة بالرباط عام 1982.
حديث البهبيتي عن انتحال الأسد نتائج دراسته، رد عليه الأكاديمي الأردني محمد إبراهيم حُـــوَّر، في دراسته "الشعر الجاهلي ومناهج بحثه بين كتابين"، ضمن مؤلف "قطوف دانية مهداة إلى ناصر الدين الأسد"، لمجموعة باحثين صدر في جزءين عام 1997 من بيروت.
غني عن القول ما لمكانة الدكتور ناصر الدين الأسد كعلم من أعلام الفكر العربي المعاصر، وما لكتاب "مصادر الشعر الجاهلي" من أهمية كونه دراسة تأصيلية لما دار من سجالات في شأن صحة الشعر الجاهلي، لكن الحقائق أيضاً تقتضي طرح ما ذكره البهبيتي، خصوصاً مع إغفال التعرض إليه بشكل أو بآخر باستثناء ما عده الدكتور محمد حور "موازنة" بين الكتابين، بالإضافة إلى أن "لغة الأرقام" وتاريخ النشر يعطيان أهمية قصوى لشهادة الرجل على قيمته، لنضع الرأي والرأي الآخر بين يدي القارئ.
بين أطروحتين
فيما يذكر ناصر الدين الأسد في "مصادر الشعر الجاهلي"، "أن كل رأي في هذا الكتاب قامت من بين يديه وفرة من النصوص قادت إليه وانتهت به، وأن النص هو الذي وجه البحث إلى ما فيه من آراء، وليست الآراء هي التي وجهت البحث إلى النصوص: يجتلبها، ويقتنصها، ويستكثر منها، ويقسرها قسراً لما يريد".
يذهب البهبيتي بعد تشعب واسع في عدد من المسائل في أن (تلميذه) في مادة الأدب الجاهلي التي أخرج فيها كتابه، "أخذه، موضوعاً، ومنهج بحث، وطرائق استدلال، ونتائج من كتاب (تاريخ الشعر)".
يضيف، "ثم إنه يصنع هذا وكتابي في السوق قبل أن يخرج بمنحوله بما يتجاوز الأعوام الستة، فلا يشير إلى الأصل الذي أصاب منه ما أصاب من قريب أو بعيد. يصنع هذا وهو الذي قرأ على محمود شاكر في داره بمصر الجديدة كتابي (تاريخ الشعر) وشرح له ما استغلق عليه، وأمده بما يعينه على إتمام رسالته حسبما أخبره شاكر".
يوضح البهبيتي في موضع آخر، "لم أغير في هذا الكتاب شيئاً، فهو يصدر اليوم (1970) على ما كان عليه يوم كتب لأول ما كتب، وطبع لأول ما طبع (1950)، ذلك أني أردت به إلى أن يظل صورة أمينة لطور من أطوار تفكيري، وانعكاساً صادقاً لمبلغ ما وصلت إليه نتائج بحثي يوم أتممته، ولكي يلبث مقياساً صحيحاً لمقدار ما تقدم الأبحاث التي تأتي بعده للتاريخ من جديد في الموضوعات التي عالجها. وقدر ما زادت من تراثنا الفكري بالعمل الذي اختاره أصحابها من ميدانه".
يتابع البهبيتي، "وإني تابعته مثابراً، مناضلاً، مواجهاً في طريقي الطويل الذي بدأته منذ فجر شباب ملاقياً في ذلك أشد العنت، وأعنف الخصومات، وأحط وسائل الكيد التي تمرس بها قوم ثقفوها، وعاشوا عليها، وبها، وأجادوها. وهم يعرفون أن ذلك لم يخفض من عزمي".
يذكر في سياق آخر، "لقد كانت ثمرة هذا النضال الرهيب العنيف الطويل كتابين اثنين (أبو تمام الطائي، وتاريخ الشعر العربي) إذا عدّت الكتب، وطائفة من المقالات نشرت في بعض المجلات العلمية والصحف اليومية فيما بين سنتي 1933، و1951، وطائفة أخرى لم تنشر حتى اليوم".
يعرج بالقول، "فلقد سلخت من هذا الكتاب (تاريخ الشعر العربي)، ومن صنوه (أبو تمام الطائي) كتب بتمامها. وما كان ذلك ليؤذيني، وما كنت لأضيق به أو أغضب له لو أن الأمور جرت مجراها الطبيعي المألوف من انتفاع المتأخر بثمار عمل المتقدم، وإضافة جديدة إلى ما أصبح عملاً علمياً محققاً في مكتبة الجامعة، لكن هذا النقل عن الكتابين خرج على صورة الانتحال، والغصب الناهب، والسرقة التي لا تكاد تتنكر، وتخفي وجهها الوقاح".
ويشير إلى أن "السرقة العلمية استحالت إلى وضع طبيعي مألوف، يقدم عليها صاحبها هادئ البال، مطمئن الضمير، ثم هو بعد ذلك واجد من يقدمه إلى الناس بوصفه صاحب محاولة "أنفق فيها صاحبها وقتاً طويلاً، وجهداً خصباً"، وأن الممتحنين أعجبوا بها إعجاباً شديداً وأهدوا إلى الدكتور الشاب خير ما تستطيع الجامعة أن تهديه من درجات التشريف العلمي".
بعدها يخص بالذكر "تاريخ الشعر العربي" فيقول عنه، "كان هذا الكتاب جديداً على الأجواء الرتيبة الآسنة التي غمرت قبله الدراسات الأدبية فأحدث هزة في النفوس، وبهراً في العيون، فافتتن به قوم وجدوا فيه ما يشبع حاجتهم، ويترجم مطالبهم، وانقض عليه صيادو الفرص وطلاب الكسب: حلالاً وحراماً يهتبرون منه جديداً يبنون به وجودهم الوظيفي".
يتابع، "لو ذكروا مأخذهم (مصدرهم) لسرني ذلك وأسعدني، فليس يرضي الكاتب شيء قدر أن تسود النتائج التي حققها ففي هذا كسب للعلم، وعون على تقدم ركب الإنسان. ولكن الأمر لم يقف عند النقل وإهمال الإشارة إلى المصدر".
هل لدى البهبيتي ما يوثقه؟
بعد هذا التمهيد المطول يذكر الرجل أن ما سجله شهادة للتاريخ، ثم يشرع بالتوثيق فيقول، "قلت إن هذا الكتاب سلخت منه كتب برمتها، وأن أصحابها لم يشيروا إلى الأصل الذي أخذوا عنه أيه إشارة، حتى كأن الكتاب لم يكن ولم يعرف. ومن هذه كتاب دعاه صاحبه: (مصادر الشعر الجاهلي)". في إشارة إلى صاحبه ناصر الدين الأسد.
يكشف، "انصب صاحب هذا الكتاب على الأبواب الأولى من الكتاب الثالث من بين الثلاثة الكتب التي قسمت إليها كتابي (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري): فأخذ من الباب الأول طلائع العصر العاطفي ما قاله عن (الشعراء الرواة). وما قاله عن الراعي وذي الرمة وعن جرير والفرزدق وغيرهما".
يبرهن البهبيتي، "يكفي أن تقرأ هذا الحكم الملخِص للنتيجة التي أدت إليها المعالجة التفصيلية المتناسبة مع الحكم الصادر فيها لتعرف من أين استقى الوحي فيما كتب؟ ففي الصفحة (189) قلت: (فهؤلاء الشعراء كانوا رواة للقديم، وكانوا يتأثرونه، ويجرون في مجاريه، وكانوا ناظرين فيه.)". ثم يحيل بعدها من يرغب في تحري القضايا الكاملة في الباب المذكور من كتابه "تاريخ الشعر العربي".
يتابع، "ستجد كل ما قاله عن كتابة الشعر الجاهلي متصلاً، دون انقطاع. وهو القسم الذي استبد بالشطر الأكبر من كتابه (مصادر الشعر الجاهلي) مستقى من الباب الثاني من هذا الكتاب الثالث نفسه (تاريخ الشعر العربي) فيما بين صفحتي (192 و203)".
يضيف، "وستجد في الصفحة (200) ما يلخص القضية الكبرى من هذا المبحث بعد استخلاصها من مقدماتها المنطقية نتيجة حتمية لها إذ أقول، (فالأمية في العرب أسطورة، والرواية الشفوية منفردة للشعر العربي أسطورة كذلك يكذبها ما بيّنا. وإنما كانت هذه مقترنة بالكتابة توضحها وتحفظها من أن يصيبها ما يصيب الكتابات من تغير المنطوق والمفهوم كما حدث في كتابات الأمم الأخرى)". وهي مسألة يشير البهبيتي إلى ما دار حولها من سجال بينه وبين ناقدة لم يسمها (ذكر الدكتور حُــوّر أنها بنت الشاطئ الدكتورة عائشة عبد الرحمن) على صفحات مجلة "الكاتب" في عددي يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من عام 1952، أي قبل دراسة الأسد بثلاثة سنوات، وفقما رصد البهبيتي بكثير من التفاصيل عن ما دار بينه وبين الناقدة في "تاريخ الشعر العربي".
يواصل، "في هذا الباب الثاني من أبواب الكتاب الثالث من (تاريخ الشعر) تتبع لنمو الكتابة العربية وتطورها يقع في الصفحتين (198 و199) لم يحسن (مصادر الشعر الجاهلي) استغلاله، ولقد حال بينه وبين إحسان ذلك أن الباب عندي جاء عملاً تلخيصياً لدراسة طويلة شاقة، كانت الاستفادة بها في مناسبة الحديث عن الكتابة استفادة جزئية ولذلك قنعت في الإشارة إلى مراجعي هناك بأقل القليل، ولو أنه نقل ما عندي في هذا التتبع منظماً لاضطر اضطراراً إلى أن ينقله على حاله، لذلك آثر الغثاثة (الضعف) وانتهت به محاولة التهرب هناك إلى الاضطراب، وهذا كان بالقياس إليه أسلم عاقبة وبه اختار أخف الضررين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يذكر أيضاً، "في الفصل الثاني من الباب الثاني من (تاريخ الشعر العربي) الواقع فيما بين الصفحتين (203 و213) بحث عن (مدرستين لبعث القديم: الكوفة والبصرة)، وهو الباب الذي أودعته أغلب ما جاء في حديثي عن هاتين المدينتين، والخصومة بينهما، ومنافستهما، وما أدت إليه من قيام أحكام تضاربت وتهافتت حتى أسقط بعضها بعضا، وزيف بعضها بعضا وكانت هذه الأحكام هي التي استند إليها الطاعنون على صحة الشعر الجاهلي فسقطت بها واحدة من أهم حججهم عند أنفسهم".
يجمل القول، "إذا قنع كتاب (تاريخ الشعر العربي) بتقديم الحكم الحاسم المدعم بالأدلة الجوهرية مركزاً كأن يقول (فالتقليد في رواية الشعر الجاهلي جرى على الكتابة أولاً والحفظ ثانياً. وربما ظهر أثر ذلك واضحاً في الخلاف بين روايات المعلقات الجاهلية فإنه خلاف قراءة لا خلف سماع). جرى كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) إلى الحكم المركز فاختطفه ثم راح يكدس عليه من الأمثلة التي تتبعثر في كل مكان فيعيده ويسود به الصفحات بعد الصفحات زعماً منه أنه بهذه الوسيلة سيثبت للأغرار أنه أول من سبق إلى هذه الجزئية من جزئيات حكم عام وهكذا".
يتابع، "(مصادر الشعر الجاهلي) يمضي كله في كبرى قضاياه وصغراها في متابعة أبواب وفصول وعبارات من كتاب (تاريخ الشعر العربي) متابعة نقل وتأثر لم يكشف صاحبه لنفسه عن حقيقة واحدة جديدة يمكن أن نضمها إلى ما جاء في الكتاب".
يرصد البهبيتي أيضاً ثغرة في مقدمة كتاب "مصادر الشعر الجاهلي" تتمثل في مخالفة المقدمة للنتائج عبر ما ذكره الأسد، وفق رأيه، فيقول، "يقول لنا في المقدمة إنه بعد أن تنبه إلى أهمية الشعر الجاهلي الذي هو (الأصل الذي انبثق منه الشعر العربي في سائر عصوره وهو الذي أرسى عمود الشعر وثبت نظام القصيدة وصاغ المعجم للشعر العربي عامة)، وعرف أنه (لا نستطيع أن نحكم على ما في شعر العصور الإسلامية من تطور وتجديد إذا لم نصل من أمر الشعر الجاهلي إلى مفصل نطمئن عنده)" ليعقب، "تقرأ هذا وتنتظر النجدة تأتيك من الرجل الذي قدر ذلك الأمر قدره، وتأتيك في رسالة يتقدم بها إلى الماجستير ليصل بها من أمر الشعر الجاهلي إلى مفصل نطمئن عنده، ويتمخض الجبل وتولد رسالة (القيان وأثرهن في الشعر العربي في العصر الجاهلي)".
ليتساءل، "ماذا عسى أن تحقق رسالة عن القيان الجاهليات من "أمر وضع الشعر الجاهلي عند مفصل نطمئن عنده؟، ومن أين هبطت هذه المعجزات على المؤلف للبحثين عند تأليف بحثه الثاني؟". ويعقب، "الجواب عن هذا السؤال قائم في أن هذا البحث الثاني قد وجد مصدره، ومادته، وموضوعه، ومنهجه في كتاب (تاريخ الشعر العربي)".
يتابع، "بل إنه حتى هذه المرحلة لم يكن قد تبين بعد كيف يساعد نفسه على تغطية الانتحال وتنكيره". إلى أن توصل لمتابعة "الأبواب الخاصة بكتابة الشعر الجاهلي في كتاب (تاريخ الشعر العربي) وبروايته والموضوعات المتصلة بهاتين على أن يتحري بقدر الإمكان شواهد غير الشواهد التي جاءت في الكتاب المنتحل، وأن يعدد من هذه الشواهد، وعلى أن يفصل في أجزاء القضية الواحدة. أما إذا لم يسعفه الحظ فلا مناص من أخذ النص الشاهد النادر من (تاريخ الشعر) ورده إلى مكان من المرجع الأصيل المبين في هامش الكتاب الذي تعرض لغارته".
يواصل البهبيتي، "وقد كان ذلك كله كفيلاً بأن يُسقط الرسالة، وأن يضع صاحبها موضعه الجدير به، ذلك أن ادعاءه (لو ادعاه) أنه لم ير كتاب (تاريخ الشعر) قط قبل أن يكتب كتابة علة موجبة في البحث الجامعي لإسقاط مدعيها، إذ إن الكتاب مطبوع وموجود في السوق من سنة 1950، أي قبل أن يختار موضوع رسالته للدكتوراه بسنتين على الأقل. وقبل ظهورها في كتاب بست سنوات، فهي رسالة قدمت إلى الجامعة التي حصل منها على الدكتوراه عن موضوعه".
يتطرق بعدها إلى الكتابة والنقوش ويضاهي القول بينه وبين الأسد على النحو ذاته ليصل إلى نتيجة مفادها، "كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) انتحال ممطط لما جاء في كتاب (تاريخ الشعر العربي) عن الشعر الجاهلي متصلاً بكتابته، وروايته، وطرق انتقاله، ووسائل التحقق من صحيحه على ضوء خصائصه. (مصادر الشعر الجاهلي) كتاب يمشي في أعقاب (تاريخ الشعر العربي) يتلمس مواقع قدميه، وليختطف بعض ما في يديه، ثم يحاول أن يهرب بالغنيمة متوهما أنه لن يناله القصاص. هو لم يأت بجديد ليضيفه إلى ما جاء في (تاريخ الشعر العربي)، يمكن أن يعتبر ابتكاراً أو زيادة في النتائج التي حققها كتاب (تاريخ الشعر) بل إنه قصّر تقصيراً كبيراً في سوق بعض ما أخذه من هذا الكتاب. ولم ينهج خطة جديدة أو مغايرة في تقديم القضايا والنتائج".
يختتم البهبيتي مرافعته فيشير إلى أن مرماه هو التنويه إلى ما أيقظه كتاباه (تاريخ الشعر) و(أبو تمام الطائي) في العقول خلال تلك المرحلة المبكرة من الدرس الأكاديمي، فيما أُنكر عليهما من اعتراف حتى لو تمثل في إشارة إليهما في أذيال مراجع الكتب التي عاشت بهما وعليهما.
ويشير ختاماً في سياق آخر، "ولقد سكت عن هذا التزييف طويلاً. وربما قنعت بالتلميح والإشارة آملاً أن تستقيم الطريقة، أو ينهض النقد في هذا المجال بوظيفته، ولكن لا التلميح أفاد، ولا النقد استفاد. ومضت موجة الانتحال طاغية حتى استحال التأليف تزييفاً".
موازنة بين كتابين
في المقابل، دافع الدكتور محمد إبراهيم حُـــوَّر، عبر دراسته التي عنونها بـ"الشعر الجاهلي ومناهج بحثه بين كتابين" عن كتاب "مصادر الشعر الجاهلي" للدكتور الأسد.
جاءت الدراسة التي عدّها صاحبها "موازنة بين الكتابين" في 27 صفحة، بهدف ونتائج محددة سلفاً بإنصاف الدكتور الأسد وأصالته وريادته، واستهل ردوده باستعراض ما جاء في "18 دراسة وباحثاً موزعة على سبعة أقطار عربية هي مصر وسوريا والعراق ولبنان والمغرب والأردن والسودان من أجيال مختلفة، ومدارس ثقافية وفكرية متباينة، ومع هذا فقد أجمعت على أصالة كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) وريادته في بابه وبالمقابل فإن كتاب (تاريخ الشعر العربي) كان مرجعاً ثانوياً وهامشياً لم يذكره إلا القليل منهم. وأن أياً من الدارسين لم يتعرض من قريب أو بعيد لمقدمة الدكتور البهبيتي، ودعواه، ولم يثر أي شبهة حول هذا الموضوع، مع أن عدداً من الباحثين كانوا مختلفين مع صاحب (مصادر الشعر الجاهلي) في جوانب أخرى. أما هذه القضية فلا". بعدها يورد آراء وملاحظات الباحثين كما جاءت في كتبهم، الأمر الذي استغرق من جملة دراسته 9 صفحات، أي ما يقرب من ثلثها.
وعبر 10 نقاط يواصل دفاعه، ومما جاء فيها ، أنه نفى أن يكون الدكتور ناصر الدين الأسد من تلامذة البهبيتي، أو أن يكون قد قرأ على يديه الأدب الجاهلي كما زعم.
أما عن قول البهبيتي بأن صاحب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي" قرأ على الأستاذ شاكر كتاب البهبيتي "تاريخ الشعر" وشرحه له الأستاذ وأمده بما يعينه على إتمام رسالته، فينفي الدكتور حُـــوَّر، ذيوع صيت الكتاب المزعوم لدى صاحبه على هذا النحو.
يضيف، "لا أعتقد أن الشيخ شاكر يقبل بما زعمه الدكتور البهبيتي ويكون في الوقت نفسه مقراً بفضل صاحب (مصادر الشعر الجاهلي) وعلمه وإفادته منه، وذلك حين أثنى على خمسة أعلام في مقدمته لتحقيق كتاب (طبقات فحول الشعراء) بينهم الأسد". يشير إلى أن، "تقدير الأستاذ شاكر استمر للدكتور الأسد إلى يومنا هذا، فقد أهدى إليه كتابه (نمط صعب ونمط مخيف) الذي صدر عام 1996".
ليختم بالقول، رحم الله نجيباً البهبيتي، وغفر له، فقد سيطرت عليه الأوهام، ومنها اضطهاد الدكتور طه حسين له، وتفضيل بعض طلبته عليه مثل الدكتور شوقي ضيف، بحيث تقدم هؤلاء التلاميذ في التأليف والمناصب الجامعية وتأخر عنهم طويلاً، فأفرغ ما في نفسه في مقدمة الطبعة الرابعة من كتابه، وخص كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) وصاحبه بالنصيب الأكبر لصلته بالدكتورين طه وضيف، ولولا ذلك لكتب نقيض ما كتب ولأنصف من ظلمهم من هؤلاء المؤلفين".
كان هذا هو المناخ الثقافي الذي دارت في فلكه المعارك والسجالات الأدبية لهذا الزمان بلغة لا هوادة فيها تصل أحياناً حد النزاع والخصومة على ما يتبدى من أخذ ورد، واتفاق واختلاف، لكنها في نهاية المطاف حركت على عنفها المياه الراكدة في نهر الثقافة العربية، وأزهرت على ضفافه وأسفل طبقاته أفكاراً مستنيرة تجلت بعد هدوء عاصفة المراجعات النقدية الحادة عن إرث وتاريخ موثق لوجه من وجوه الثقافة العربية القديمة لم يستثمر بعد في عصرنا الراهن.