Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نجيب البهبيتي... إرث موسوعي في ذاكرة النسيان (1 - 4)

قدم سردية عربية للتاريخ والأدب القديم في مواجهة الاستشراق فيما لف الغموض سيرته و"الإسلام السياسي" اختزل مشروعه العلمي

الناقد المصري الراحل نجيب البهبيتي  (أرشيف العائلة - اندبندنت عربية)

ملخص

وقف الناقد المصري نجيب البهبيتي ضد التيار في مواجهة ما روجه المستشرقون عن التاريخ والأدب العربيين خلال السنوات الثلاثين الأولى من القرن العشرين وقدم منجزا رائدا، وهذه أسباب الخصومة بينه وبين أستاذه طه حسين

عام 1936 كانت مصر تئن سياسياً تحت وطأة الاستعمار البريطاني، بينما طائفة من المستشرقين أطلقت يد العبث في التاريخ والأدب العربيين وغيرهما للنيل من الإرث الحضاري العريق لشعوب الشرق، التي وقع أغلبها فريسة الاستعمار، على سبيل "الحرب الفكرية" ونظيرتها النفسية وإشاعة مناخ من التخلف الاجتماعي يسهم بدور فاعل في صناعة إنسان مقهور يسهل معه الهيمنة والترويج للحضارة الغربية وتبرير أطماعها التوسعية وغيرها.

في العام ذاته وداخل أروقة جامعة القاهرة وسط مناخ عنيف اتسمت به السجالات والمعارك الأدبية في مصر آنذاك، ظهرت خصومة تاريخية وأدبية بين طه حسين وتلميذه نجيب محمد البهبيتي بعدما أنجز الأخير أطروحة رائدة في هذا الزمن المبكر، ترد بالأدلة والبراهين التاريخية بعض مغالطات العميد والمستشرقين من قبله طوال العقود الثلاثة الأول للقرن العشرين.

لم يكن عام 1936 سوى البداية لسلسلة من حلقات الخصومة بين طه والبهبيتي بعدما دفع الأخير على إثرها 14 سنة تبددت من سني عمره في طريقه الشاق للبرهنة على ما توصل إليه من نتائج في التاريخ والأدب العربيين تكللت بحصوله على الدكتوراه لتزيد أوار الخصومة بينه وبين أستاذه صاحب المركزية الثقافية آنذاك.

في عام 1955 بدأ التحول الدرامي لتاريخ هذه المعركة بعد وصول البهبيتي للعراق ومنه إلى المغرب الذي عاش فيه ما يزيد على نصف قرن ودفن به. ورغم الجهد الموسوعي الذي قدمه للتراث العربي فإن مدونته النقدية تكاد تكون مجهولة، ناهيك عن الاضطراب والتأويل الذي نالا من سيرته وهويته واستثمره مؤرخو تيارات الإسلام السياسي لأغراض شتى. وهو ما استقصت "اندبندنت عربية" أثره عبر مرويته التي أبى أن يرحل دون أن يدونها للتاريخ، ولقاء مع نجله عمر البهبيتي المقيم وأسرته في المغرب، بالإضافة إلى ما دار من سجال له خطورته التاريخية بينه وبين أستاذه طه من جهة. وبين البهبيتي والدكتور ناصر الدين الأسد، وكلاهما سقطت بشكل أو بآخر من مدونة سجالات ومعارك القرن العشرين.

البداية

ما إن تقع عيناك على منجز الأكاديمي المصري الراحل نجيب محمد البهبيتي إلا وتجد نفسك أمام أفكار ورؤى مغايرة في الأدب والتاريخ العربيين لم تعهدها لا في الرواية الرسمية، ولا فيما طالعته من التاريخ الثقافي في كتابات كثير من رواد النهضة العربية خلال القرن العشرين.

أهمية المدونة النقدية للبهبيتي (1908 – 1992) تتمثل في المحاولة الرائدة لإعادة النظر في التراث العربي والتاريخ القديم والسعي نحو تقديم سردية عربية للوقائع في مواجهة نظيرتها الغربية بما تضمنته من مغالطات تعصب لها بعض المستشرقين في مقدمتهم نولدكه ومرجليوث بداية القرن العشرين، اتسمت بـ"قليل من العلم وكثير من التصورات"، وفق رصد عبد المنعم تليمة خلال مؤلفه "في الشعر الجاهلي الكتاب والقضية".

لكن صدى ما روجه المستشرقون من شك حقاً وباطلاً كان قد استشرى، وتردد رجع الصدى لدى علماء العرب المحدثين بينهم صادق الرافعي وطه حسين، الذي "حث هو لا غيره على إعادة النظر فيما توصل إليه من نتائج عن تراث العرب، تاريخاً وتحقيقاً وبحثاً ونقداً، وصنع الأمر ذاته في كتاباته المتأخرة".

مفترق الطرق

ثمة مفارقات عديدة في مسيرة البهبيتي، لعل أولها معاناته إثر خصومة مع أستاذه طه حسين، بحسب روايته، في سبيل البرهنة على أصالة منهجه ودقة النتائج المبكرة لمنجزه النقدي في التراث العربي الذي سعى خلاله لتقويم مغالطات ما ذهب إليه بعض المستشرقين وغيرهم تجاه تاريخ اللغة والثقافة العربية القديمة، وجرت إعادة النظر النقدي والتاريخي بها خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

بعض ما استخلصه البهبيتي برهنت عليه غربلة المحققين، وجهود الباحثين المحدثين، وعلماء اللغة والتاريخ وغيرهم، الذي كان في طليعتهم. ولعل صنيع المؤرخ جواد علي الموسوعي في تاريخ العرب قبل الإسلام، بالإضافة إلى ما قدمه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" وغيرهما عبر مناهج ما بعد الاستعمار ليس ببعيد.

 

أما الثانية، ففيما كان البهبيتي يدافع باستماتة عن آرائه ويواجَه بقسوة بددت الكثير من سنوات عمره في سبيلها، يحظى رجع صداها النقدي في مدونة بعض الأكاديميين باستقبال الفاتحين من دون الإشارة إليه، على نحو ما حدث مع الناقد الراحل وتلميذه ناصر الدين الأسد في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية"، وفق رصد البهبيتي في الطبعة الرابعة من كتابه "تاريخ الشعر العربي حتى نهاية القرن الثالث الهجري"، الصادر في طبعته المصرية عن مكتبة الخانجي (1961)، ودار الفكر (1970)، وفي طبعته المغربية (1982)، وهو ما ورد في شأنه رد في كتاب "قطوف دانية مهداة إلى ناصر الدين الأسد" سنتعرض له في سياقه.

وتتمثل الثالثة في التساؤل عن سر طي الإرث المعرفي للبهبيتي، ولماذا صمتت الأقلام تجاهه ولم يأخذ حظه الواسع من الانتشار الذي يستحقه كما أقرانه الذين ملأوا السمع والأبصار؟

وتأتي المفارقة الرابعة والأخيرة في أن الجهد الموسوعي والعلمي لمنجز البهبيتي النقدي كان عصياً على الاندثار فلم يسقط اسم صاحبه، رغم الغموض الذي لحق بمسيرته. وعبر هذا الغموض تسرب كتّاب تيار الإسلام السياسي وسمموا جانباً من سيرته باستغلالها أيديولوجياً، وسلبوا الرحلة المعرفية للبهبيتي القيمة. فلم يعد الرجل يُعرف سوى بالخصومة النقدية مع طه حسين، وكاد علمه يضيع هباءً منثوراً، لولا ما تركه وراءه من مؤلفات حفظ لنا أرشيف الإنترنت بعضاً منها.

 بدخولك عالم البهبيتي فأنت تقرر أن تنقب داخل الصفحات المطوية في التاريخ الثقافي المصري، إذ سرعان ما تكتشف أنه أحد تلامذة العميد، وفي رواية أخرى ضحية من ضحاياه، وفق سردية الراحل التي رصدها في مؤلفاته، على نحو ما سيمر بنا.

مدارات البهبيتي النقدية

والسؤال الآن علام استند نجيب البهبيتي فيما قدمه للثقافة العربية وأي منهج اتخذ خلال تلك المدونة المبكرة في العلوم الإنسانية التي لم تكن يومئذ بلغت ما نحن عليه اليوم؟

لعل معاصرة البهبيتي دوائر المستشرقين دارساً وباحثاً وأستاذاً في جامعة القاهرة، وما كان يروجونه من آراء ومذاهب لم تكن دقيقة، ناهيك عن عدم نزاهة بعضها عن الغرض الذي كُشف عواره تحت وقع المعارك الأدبية الطاحنة آنذاك، وعلى موازين علم الجرح والتعديل، وما قدمه منصفو المستشرقين من بينهم، ومحققو تراث العرب، جعلته حذراً وواعياً من جملة النتائج والمناهج الوافدة التي بدأت تتسرب إلى الثقافة العربية. أضف إلى هذا ما أتقنه من لغات متعددة فتحت أمامه مدارات نقدية مغايرة.

في ضوء ما سبق جاء المشروع النقدي للبهبيتي في ثلاثينيات القرن العشرين ليرصد العلاقة الوطيدة بين النص الأدبي ونظيره التاريخي، إذا كان يرى في الأول وثيقة للأخير يوثق عهداً رائعاً من عهود جزيرة العرب، فلجأ إلى التاريخ استنطق صامته، وطرق بابه فوجد تجاوباً عجيباً بينهما تمثل لديه في أن التاريخ السياسي والاجتماعي إطار يعيش فيه الأدب. ولا يفهم أحدهما دون فهم الآخر، فهما روح وجسد لا يفترقان وانتزاع أحدهما من شطره قاضٍ بدمارهما جميعاً، وفق ما سجل في "المعلقة الأولى".

 

يوضح البهبيتي في سياق آخر طبيعة منهجه فيسجل عبر كتابه "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين"، أن صنيعه على سبيل المثال في دراسة "تاريخ الشعر العربي استند إلى أرض صلبة من الدراسة الصوتية للفظ في دلالتها على معناه، وفي مساندتها المضامين الشاملة للجملة والمضمون العام للموضوع، ومن دراسة النص في ضوء التساند بينه وبين التاريخ لفتح تطبيقات ذلك المنهج الجديد".

رؤية البهبيتي هذه تلتقي في فروعها النظرية مع توجهات رواد المنهج التاريخي على رأسهم غوستاف لانسون، الذي حدد مقاييس شكّلت بؤرة اشتغال "المنهج التاريخي" لديه، وتماست مع مناهج المحققين العرب ورواد علم الجرح والتعديل في جانب منها خصوصاً مع ما تضمنته من التذوق الأدبي في مكاشفة النصوص، وعبرها وبخصوصية رصد البهبيتي آراءه وأعاد كتابة تاريخ الأدب العربي.

 لعل أهم المقاييس التي رصدها لانسون تلك المتعلقة بالنص، إذ اعتمد النص على ما عداه بعد التحقق والتوثيق من نسبته، وهو أمر بالطبع استلزم الاستناد إلى النص الأصلي وتقديمه على نظيره الوسيط، مع فهمه وتحليله في سياقه التاريخي وإعادة بنائه وتركيبه بهدف الوصول إلى الحقيقة التي هي غاية البحث، بحسب رصد حنان الصلحي في دراسة عن الرؤية والأداة في منهج البهبيتي لدراسة تاريخ الأدب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غاية القول، أسفر المنهج الذي اتخذه البهبيتي عن التنقيب بعيداً في بطون الشعر والتاريخ ليصل إلى بعض الحقائق التي تأكد بعضاً منها عبر عقود القرن العشرين، بينها رصده عن العلاقة بين الفلسفة اليونانية والثقافة العراقية والمصرية القديمة ونقل الأولى الكثير من علوم الأخيرة ونسبها إليها. وهو أمر كان قد تناوله المؤرخ والمفكر الأميركي جورج جيمس (1893 – 1956) عبر كتابه "التراث المسروق" الذي صدر بالإنجليزية عام 1954 وترجم إلى العربية عام 1996. وأقر به الدكتور أحمد عتمان أحد الرواد الراسخين في الآداب اليونانية والكلاسيكية بشيء من الحياد فلم ينكر على أثينا إسهاماتها ومنجزها في التراث الإنساني وإن أثبت التأثير والتأثر بطبيعة الحال.

رصد البهبيتي من بين ما رصد تعصب المستشرقين للمروية الغربية للتاريخ العربي، ناهيك عن لعبة تهويد التاريخ لسيادة المروية اليهودية، بالإضافة إلى منهج الشك الذي سطر فيه كتاباً كاملاً جاء تحت عنوان "الغزالي: حياته وفلسفته تنحلان لديكارت"، وعبر سبعة أبواب ناقش مسائل تاريخية وفلسفية برهن خلالها على ما ذهب إليه. بينها مقارنته بين منهجي الغزالي وديكارت وكشف مواطن ما نقله الأخير عن الأول مشوهاً. وآراء أخرى كثيرة سنلقي عليها الضوء في محاولة لإزاحة الضباب عنها.

تساؤلات مشروعة

ما سبق يطرح بدوره العديد من تساؤلات في شأن من يكون نجيب البهبيتي المختلف على سيرته حتى في كتب الأعلام، وسير وتراجم المحدثين؟ وهل حقاً كانت السياسة وراء خفوت صوت سيرته وسط النقاد العرب رغم مجهوداته التي لا يستطيع منصف تجاهل منطقها؟ وما الذي جرى بينه وبين العميد؟ وماذا عن حديث السرقات العلمية لمنجزه التي وثقها توثيقاً دقيقاً؟

تساؤلات كثيرة من واقع معطيات سيرة البهبيتي جميعها يبرهن أننا أمام أوراق مهمة كادت تسقط من التاريخ الثقافي للقرن العشرين بطريقة أو بأخرى، ينبغي استدراكها والإشارة إليها ولو اختلفنا مع بعض طروحاته.

"اندبندنت عربية" تحققت من تفاصيلها الذاتية عبر لقاء مع نجله عمر البهبيتي، بالإضافة إلى طبيعتها المعرفية بالتنقيب في مدونة المؤرخ الأدبي، المولود في مستهل القرن العشرين والمتوفى آخره، ليكون شاهداً على أحداث ثقافية في عصر النهضة العربية بما حملته عقودها من انتصارات وانتكاسات وهزائم عبر القرن العشرين المليء بالاضطراب.

خارج الكادر... البهبيتي وشاكر

لعل أقرب صورة بإمكاننا أن نقرب خلالها المشهد الذي نقف أمامه تتمثل في الإشارة إلى ما جرى بين طه حسين وتلميذه محمود شاكر، وما دار بينهما خلال معركة "الشك في الشعر الجاهلي" خلال عشرينيات القرن العشرين، وما كان من تبعاتها من مغادرة الأخير صفوف الدرس بالجامعة.

معركة "الشك في الشعر الجاهلي" (1926) وبعدها "المتنبي" (1937) وغيرهما أُرخ لهما كثيراً بتفاصيلها كافة، وثمة حسم لأمرهما في مسيرة سِجالات القرن العشرين التي سقطت منها مدونة البهبيتي سقوطاً مدوياً رغم ما يبدو لها من دور فاعل. وحين يشار إليها من قبل كتـّاب تيارات الإسلام السياسي تقدم على نحو مختزل ومبتور ومن وجه واحد تضيع معها قيمتها العلمية النفيسة.

 

لعل مطالعة كتابه "المعلقات سيرةً وتاريخاً" وتأمل مدارات نقده لكتاب صادق الرافعي "تاريخ آداب العرب" قد ترفع الستار عن جانب من البراهين العلمية والبنية المنطقية التي يدور في فلكها منجز البهبيتي، وتؤكد أننا أمام باحث له أصالته وطريقته العلمية الفريدة في التحقق من المسألة المعنية بالبحث، وإن اتسم طرحه بالحدة المفرطة أحياناً، شأنه في هذا شأن "خطاب المساجلات" الذي دار في هذا الزمان.

البهبيتي وشاكر وإن اختلفا في شأن تقدير مجمل آراء الرافعي، فإن لكليهما، إلى جوار غيرهما بالطبع، يد بيضاء في حسم عدد من المسائل النقدية والأدبية صوبا بها مسار الأدب والتاريخ العربيين بعدما ردا شبهات المستشرقين والمحدثين عن الثقافة العربية القديمة خلال الأعوام الثلاثين الأولى من القرن العشرين بمنهج متفرد له أصالته، كل على طريقته.

جمعهما أيضاً أنْ نالت منهما خصومة طه حسين بالجامعة المصرية آنذاك، وإن حصل الأول على الدكتوراه ولم يطل الأخير المقام بالجامعة، بعدما طاولهما الاغتراب الذهني والروحي لمدة طالت إلى أن استقرت أحوالهما.

قصة شاكر قد تكون معروفة لدى الكثير. أما مسيرة البهبيتي، الذي عاش 84 سنة، بينها 55 في المغرب ودفن بها فكاد يطويها النسيان، رغم ما مر به من حياة حفلت بالمؤلفات الموسوعية والمعارك الأدبية والمحاضرات في رحاب الجامعات المصرية والعراقية والمغربية.

على الطريق

ذهبنا نستقصي أثر السيرة المجهولة لمؤرخنا الأدبي إلا من مؤلفاته الستة الموسوعية التي يزيد عدد صفحات بعضها على الألف، وما إن تغرق في تفاصيلها إلا وتجد بعضها  كتاباً ضخماً يتضمن ما بين ثلاثة إلى خمسة أجزاء.

كما لا يوجد عنه سوى بضعة مقالات تزيد المشهد ارتباكاً بتناقضات هنا وهناك، تستند إلى ما تضمنته مؤلفاته عن خصومته مع طه حسين، وهو حق لا ينكره عليه منصف.

يزداد الأمر تعقداً كلما اقتربنا من البحث عن الرجل، وسط إتاحة سيرة مقتضبة لا تتناسب بوجه من الوجوه مع ما قدمه من منجز معرفي، فضلاً عما تتسم به من تضارب من معلومات جعلت منه مغربيَّ الجنسية وليس مصرياً.

في مقدمة هذا التضارب يأتي ما ذكره أحمد العلاونة في قاموس التراجم المعنون بـ"ذيل الأعلام" الصادر عام 1998، وفيه ترجم لـ436 عَلماً من أعلام الثقافة العربية منذ عام 1976 حيث انتهى الزركلي من كتاب "الأعلام".

 

من دون تحديد لتاريخ ميلاد البهبيتي، سجل العلاونة ما نصه، "أديب وناقد مغربي. عمل أستاذاً في جامعات القاهرة وبغداد ومحمد الخامس وفاس ومراكش، من مؤلفاته (المعلقات السبع)، و(تاريخ الشعر العربي حتى نهاية القرن الثالث)، و(المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين) وفق مجلة الفيصل". وختم بالقول، "وليس لدينا عن صاحب الترجمة إلا ما تقدم".

ما سبق تضمن خطأ استدركه اللغوي المصري الراحل محمود الطناحي في "مجلة الهلال" من العام ذاته وصدر في كتاب تضمن مقالاته عام 2002.

من بين ما جاء في جملة استدراكات الطناحي قوله، "ذكر (العلاونة) في ترجمة (نجيب البهبيتي) أنه مغربي، والصحيح أنه مصري". لكن الطناحي زاد، "قصته طويلة وفيها جانب مأساوي. وخلاصة أمره أنه أخرج من الجامعة المصرية أوائل ثورة يوليو (تموز) بقرار مما كان يسمى يومئذ لجان التطهير".

 

في السياق نقب الكاتب والباحث السعودي علي العميم في هذه الأوراق وكتب استدراكاً في غاية الأهمية بمقالين على صحيفة "الشرق الأوسط" عام 2023. وبعد البحث والتقصي نفى، وهو محق، ما أثبته الطناحي في شأن أن البهبيتي أخرج من جامعة القاهرة في "لجان التطهير".

وهو الأمر الذي يعطي لمنجز البهبيتي وجهاً آخر لسيرة تاريخية، وجهها البعض على نحو أيديولوجي فقط لـ"صنع بروباجندا وإضفاء حبكة درامية لتصفية طه حسين معنوياً". والذي لم يكن معصوماً بالطبع، لكنه ظاهرة الاختزال والتسطيح هذه، بالإضافة إلى ثقافة التصفية والحاكمية أسقطت بدورها قيمة المدونة النقدية لنجيب البهبيتي وكأن منجز الراحل لم يتمثل سوى في هذه الخصومة، وضيعت ما سجله من معارف على أهميتها.

خروج علمي لا سياسة فيه

في مارس (آذار) عام 1954، أصدر مجلس قيادة ثورة يوليو (تموز) في مصر قراراً عرف بقانون "حملة التطهير"، كان من تداعياته طرد عدد من أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة وبالفعل تم إقصاؤهم لمناصرتهم الديمقراطية والحرية.

أدرج البهبيتي على سبيل الخطأ حيناً، والغرض أحياناً، ضمن الأساتذة الذين طردوا إثر القرار، خصوصاً ممن أرخوا لهذه الحقبة من تيارات الإسلام السياسي بينهم أنور الجندي في مؤلفه "كتّاب العصر تحت ضوء الإسلام" الصادر عام 1997. امتدت المروية على هذا النحو وزاد بعضهم أنها كانت سبباً لرحيله إلى جامعة بغداد، ومنها لجامعة محمد الخامس بالعاصمة المغربية الرباط. وهو ما نفاه لنا نجله.

 

يقول عمر البهبيتي، البالغ من العمر 58 سنة، "في عام 1955 انتدب نجيب البهبيتي من مصر إلى العراق، وعقب انقلاب الجيش على المملكة العراقية الهاشمية بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وآخرين ممن عرفوا بـ(الضباط الأحرار) خلال يوليو 1958، انتهى الانتداب بالطبع، وعاد الأب إلى جامعة عين شمس بالقاهرة".

يضيف، "بعد عامين، انتُدب الراحل إلى المغرب في 9 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1961، واستمر لـ4 سنوات في عدد من جامعاتها أبلى خلالها بلاءً حسناً فطلب منه أن يواصل رحلته العلمية. طاب له المقام هناك، فطال عهده بالرباط لمدة وصلت 55 عاماً إلى أن تقاعد عن عمر بلغ 81 سنة".

العمر الطويل لنجيب البهبيتي في الرباط، أوحى للبعض حصوله على الجنسية المغربية، على نحو ما مر بنا، وهو أيضا ما نفاه عمر البهبيتي.

"عاش البهبيتي عمراً مديداً بالمغرب وسط تلامذته ورفاقه، ورزق بابن وبنت، أولهما عمر، والأخيرة هالة، عمل الأول بالصحافة وتخصصت الأخيرة في الهندسة"، وفق عمر، الذي يتابع، "كان الطفلان يكبران فيما فرص تعلمهما في الخارج أكثر حظاً، فآثر الأب البقاء بالرباط بالنظر إلى مستقبل ابنيه، فنال الابن شهادته من الولايات المتحدة وحصلت الأخيرة على تخصصها في الهندسة من إسبانيا. أما عن الجنسية المغربية فقد نفى الأمر من واقع آخر جواز سفر أصدره الراحل من السفارة المصرية بالمغرب عام 1987 قبل وفاته، حتى الابن والابنة لم يحصلا على الجنسية المغربية، وإن بات الأحفاد بالطبع مغاربة بواقع القانون المغربي".

ليس ثمة ما يغري بالإطالة في مسألة الجنسية هذه، لكن لزم القطع بها تصويباً للمسألة  من جهة وسط قصة ملتبسة التفاصيل، زاد تأويلها ولم تتنزه عن الغرض.

سيرة أخرى

نجيب محمد البهبيتي، ولد في 17 مارس (آذار) عام 1908 بقرية بهبيت الحِجارة في محافظة الغربية بدلتا مصر، حصل على ليسانس اللغة العربية بكلية الآداب عام 1933 وكان يبلغ من العمر آنذاك 25 سنة.

في الثامنة والعشرين من عمره، وفقاً لرصد السنوات، حسبما ذكر البهبيتي في "تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري، "فإنه فرغ من أطروحته للماجستير تحت عنوان "أبو تمام الطائي حياته وشعره" عام 1936.

ومن أسفٍ حصل على الماجستير بعدها بتسع سنوات عام 1945، وكان قد بلغ السابعة والثلاثين من عمره آنذاك، ويعود السبب وفقما ذكر الراحل إلى خصومة مع العميد تسببت في إلقاء الأخير الأطروحة في أدراجه طوال هذه المدة إلى أن نوقشت، وأصدرها البهبيتي في كتاب خلال العام ذاته.

كان البهبيتي بحاجة إلى 5 سنوات أخرى ليحصل على الدكتوراه عن أطروحة "تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري"، التي صدرت في 5 طبعات تنوعت ما بين المصرية واللبنانية والمغربية أعوام 1950 و1961 و1967 و1979 و1982. حسب رصد الكاتب السعودي علي العميم، ونثبت هنا تاريخ الطبعات لما لها من حديث في شأن اتهامه لأعلام كبار بالسرقات الأدبية سنتعرض لها.

 

في الثالثة والخمسين من عمره وكان هذا عام 1961 وصل البهبيتي الرباط، من هناك واصل مشروعه العلمي، ما بين إنتاج جديد وإعادة طباعة لمجمل مؤلفاته، بينها "المدخل إلى الأدب والتاريخ العربيين". و"المعلقة العربية الأولى – أو عند جذور التاريخ" صدر في جزءين تجاوزا الألف صفحة عام 1981. ليقدم بعدها ما يشبه جزءاً ثالثاً جاء تحت عنوان "المعلقات مذهباً وتاريخاً" عام 1983، وفيه اختص كتاب "تاريخ آداب العرب" للرافعي بالنقد.

وفق عمر البهبيتي ثمة كتب للراحل لم تر النور بعد، بينها أيضاً كتاب رابع عن المعلقات معنون بـ"المعلقات السبع عرضاً وتفصيلاً". كما أشار لنا عن ترجمة الراحل لكتاب يرصد أثر الموسيقى العربية الشرقية والعربية الإسبانية خلال القرون الوسطى في الموسيقى الأوروبية الحديثة". في إطار مشروع له عن الشعر الأندلسي والغنائي منه. وزودنا بمخطوطة منهما.

من واقع سيرة ومسيرة نجيب البهبيتي بإمكاننا حقاً أن نعده أحد المؤرخين الأوائل للشعر العربي خلال القرن العشرين الذي اتسم بالاضطراب والوقائع الشائكة، كما أنه أحد الذين تعرضوا مبكراً لتداعيات جدلية الحضارة الغربية والثقافة الشرقية القديمة وسط خريطة استعمارية ألقت بظلالها على كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والجغرافية ولا يزال أثرها ممتداً حتى زمننا الراهن.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات