Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طه حسين والبهبيتي... معركة لم تسقط بالتقادم (2 - 4)

باتت مدارات ونتائج الأخير في التاريخ والأدب العربي معترفاً بها بعدما عطل العميد مسيرته 14 سنة

جمعت خصومة أدبية عنيفة بين طه حسين ونجيب البهبيتي لم تهدأ بمرور السنوات    (اندبندنت عربية)

ملخص

وثق نجيب البهبيتني ما مر به من تراجيديا علمية مع المستشرقين وطه حسين وغيرهم، وهذه هي التفاصيل

قبل أن نذهب بعيداً في رصد ما دار بين طه حسين ونجيب البهبيتي نرى لزاماً علينا التنويه إلى أنه لم يكن لإسهام أو لمشروع نقدي من إسهامات الثقافة العربية الحديثة أن يقع في دوائر الإشكال والاختلاف والتأويل بقدر ما كان لمشروع طه حسين النقدي.

 فمنذ "ظهر طه حسين في نهاية الربع الأول من القرن العشرين، وكأنه سهم افترع عذرية الخمول التي يحتمي بها الفكر العربي، وأفضت إلى ظهور (قراءات) متضادة لفكره ورؤيته ودوره في الثقافة العربية، وانتظم حوله مع الزمن ضربان من القراءة: قراءة أولى اعتبرته مهدداً لمنظومة القيم الدينية والفكرية والأدبية الموروثة، وقراءة أخيرة مضادة تماماً أدرجته ضمن مشروع التحديث واعتبرته ممثلاً لحركة التنوير في الثقافة العربية وقرأته في ضوء المقولات التي شاعت في أوروبا إبان القرنين الثامن والتاسع عشر وهي الحقبة التي عرفت بعصر التنوير باعتباره ثمرة الفكر العقلي والتجريبي ضد الكنيسة منذ بداية عصر النهضة". وفقما يرصد الدكتور عبد الله إبراهيم في كتابه "الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة".

ومع هذا، فإن ثمة أوراقاً مطوية، وشهادة يبدو أنها سقطت من مدونة التاريخ الثقافي للقرن العشرين على أهميتها لما بذله صاحبها من جهد موسوعي في مواجهة ما قدمه المستشرقون وطه حسين، وقد كان أحد تلامذتهم الذي جاهد كثيراً ضد التيار ليدحض مغالطاتهم بجهد ريادي، توافقت المرجعيات الأكاديمية مع مجمل رؤاه في ما بعد، وإن أغفل بعضها الإشارة إليه.

وثق نجيب البهبيتني ما مر به من تراجيديا علمية مع المستشرقين وطه حسين وغيرهم، ولأسباب عدة، مرت بنا في الحلقة الأولى وسنزيد عليها هنا، باتت مجهولة، إذ انطفأ وهجه العلمي في الثقافة المصرية، وأنار في العاصمة المغربية الرباط التي عاش فيها ما يزيد على نصف قرن وتوفي ودفن بها.

 ولأن للرجل رحلة معرفية شاقة ومثمرة في الثقافة العربية قديمها وحديثها عبر فروعها التاريخية والأدبية واللغوية، وشهادة رفض أن يرحل دون أن يسجلها وإن طال أمد طيها بين مؤلفاته المركبة معرفياً، كان علينا تسليط الضوء عليها رغم بعثرتها بين طرحه الموسوعي، إذ تتألف كتبه ما بين 3 إلى 5 أجزاء ويبلغ عدد صفحات بعضها ما يزيد على الألف صفحة.

ومع تقديرنا لمنجز طه حسين على ما به من بعض المغالطات عن الثقافة العربية، فإن دورنا هنا سيتوقف عند الأمانة التاريخية التي عرض بها البهبيتي مرويته، من دون أن نغفل الإشارة إلى الرأي والرأي الآخر كما عهدنا قراء "اندبندنت عربية".

 صدام المرجعيات

ظهرت الخصومة التي وقعت بين طه حسين وتلميذه نجيب البهبيتي إلى النور عام 1936 بعدما أنجز الأخير أطروحته للماجستير عن "أبو تمام الطائي حياته وحياة شعره"، ولم يحصل عليها إلا بعد ما تراوح بين ثماني وتسع سنوات من إتمامها.

صدرت الأطروحة في كتاب عام 1945. ومع ما كانت عليه سطوة طه حسين ومركزيته في الحياة الثقافية أشار البهبيتي إليه دون تسميته آنذاك قبل أن يعود ويصرح به في كتب أخرى ويصب عليه جم غضبه حقاً وباطلاً.

يذكر البهبيتي في مقدمة الكتاب ما نصه، "هذا بحث قد حبسته عن الناس تسع سنوات مؤامرة قبيحة، وأنا غير آسف لهذا التأخير وإن لم يأت عني اختياراً، فلو قدر له أن يظهر يومئذ لكان ذلك مصانعة من الزمان لصاحبه أن يأذن لكتاب له بالظهور في وقت لم يكن يظهر فيه كتاب لشاب إلا أن يدين بالتبعية المطلقة لصاحب حول أو طول، وهذا الكتاب غريب في معدنه، بريء من ذلك المركب لأنه ينفخ في غير هذا البوق، ولا يتصم بالتبعية، ولا يحترم إلا العقل ولا يلين في الحق".

والبهبيتي محق في توصيف صنيعه ومنهجه في هذا الكتاب بالريادة قياساً بما كانت عليه دراسات تاريخ الأدب ونظيرتها اللغوية في السنوات الثلاثين الأولى من القرن العشرين، خصوصاً أن أقدامه وطأت أرضاً بكراً لم تكن قد مهدت بعد، وسط ثورة الشك التي أطلق شرارتها بعض المستشرقين في التراث العربي وغيره، دون سند ولا برهان علمي، أو قل بحسب ما أتيح لهم من معرفة آنذاك على أحسن ظنٍ وتقدير، بينها على سبيل المثال نسب وديانة أبي تمام موضوع بحث البهبيتي الذي صوبهما وحسم أمرهما عبر أطروحته.

 

عد البهبيتي صنيعه في الدراسة بـ"ثورة في المنهج والترتيب والتبويب والموضوعات والأبواب"، وقد يكون محقاً، لكن شهادته في حق صنيعه على هذا النحو من "الصراحة الجافية"، وفق توصيفه هو لا غيره، تبدو بحاجة إلى نظر وقد انتبه بدوره إلى هذا. وأرجع ذلك إلى "ما لقيه من محن وبلايا أورثته إحباطاً مؤقتاً بعدما عصفت بكيانه". نازعته خلاله نفسه بالكف عن مسعاه، فقاومها "ولم يقصر في تضحية، ولم يتردد في بذل". ليعود ويسجل في سياق آخر هي "ثمرة جهد لا أزكيه ولكني أجد الغبن في ألا أنبه عليه وأسميه".

يشير البهبيتي إلى جانب من المصاعب التي مر به فيقول، "كان من جراء هذه الثورات (منهجه وتحقيقه ونتائجه في أطروحة أبي تمام الطائي) غضبة حاقدة مكبوتة من أحد أقطاب المدرسة القديمة (يعني طه حسين وفق ما كشف في مؤلفات لاحقة) فأخذ يحتال ما استطاع ليحول بين هذا الكتاب وبين الوصول إلى أيدي الناس، فطلب مني أصوله بحجة طبعها، فسلمتها له، فظل يحبسها عنده ثماني سنوات"، كانت خلالها "نهباً مقسوماً فنشر بعضها ممسوخاً مشوهاً دون إشارة إلى مصدره". حسبما ذكر في "أبو تمام الطائي".

المتنبي يلوح في الأفق

وسط سجالات المعارك الأدبية التي كان يدور رحاها في الأفق الثقافي، وبالعودة إلى عام 1936 الذي أنهى البهبيتي فيه أطروحته، نجد أن العام ذاته شهد في مستهله صدور عدد كامل من مجلة "المقتطف" بالقاهرة، تضمّن دراسة عن "المتنبي" كتبها إمام المحققين محمود شاكر "لذكرى ألف سنة مضت على مقتل أبي الطيب".

في يناير (كانون الثاني) من العام الذي يليه صدر للدكتور طه حسين كتابه "مع المتنبي" وفيه شكك في نَسبه وعده لقيطاً لا يعرف أباه، ما أثار حفيظة شاكر فعاد وكتب "بيني وبين طه" بصحيفة "البلاغ" في فبراير (شباط) عام 1937.

وقد جمع شاكر وطه ود إنساني، وخلاف علمي حامي الوطيس في شأن تراث العرب، على العكس تماماً مما جرى مع البهبيتي من جفاء إنساني وعلمي، يتجلى عبر ما كاله للعميد من اتهامات بالعمالة وغيرها، وقد بلغ به السخط مبلغه، وحمّل مسيرة طه حسين العلمية تجاه التراث العربي ما لا تحتمله.

 

 ولعل ما جرى به المذهب النقدي لطه حسين وتطوراته تبرهن على ذلك، وأقصى ما يقال عن مرحلته المبكرة مع التراث أنها نتائج جانبها الصواب وفق مناخ ثقافي لم يكن الدرس الأدبي والتاريخي وغيرهما قد كشف بعد عن أسراره كافة، بما تضمنه ذلك من جهود المحققين والباحثين، ليظل لطه حسين فضل "إثارة العقول للبحث والنظر" في مسائل التراث، وفق ما ذكر ذات مرة في سياق إجابته عن ردته الفكرية عن مجمل آرائه.

بالعودة إلى المتنبي، فلم تكن معركته الأدبية بين شاكر وطه حسين هي الأولى من نوعها، فقد اشتبكا قبلها بسنوات طوالٍ، تحديداً عام 1926، بعدما شكك العميد من قبل في الشعر الجاهلي، وكانت خصومة تسببت في مغادرة شاكر صفوف الدرس بالجامعة ودخوله في "عزلة غريبة أصبحت هي طابع حياته"، بحسب توصيفه، وقد صدرت دراسته عن المتنبي في كتاب بعد 42 سنة في عام 1977. وفيه ضم الكتاب الصادر بمجلة "المقتطف" وما كتبه في صحيفة "البلاغ" من تعقيب على كتاب طه حسين وجاءت تحت عنوان "بيني وبين طه".

بين مدرستين

الطرح الجمالي والساخر في آن لشاكر يكشف بجلاء الغضب الذي اتسم به أسلوب البهبيتي، خصوصاً في القضايا الشائكة التي دار حولها ما دار من سجالات ومعارك أدبية.

 لا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليلحظ ماذا وراء الخصومة التي تشكلت بين البهبيتي وبين طه حسين، وتمثلت في التباين الشاسع بينهما في المرجعية الثقافية والتوجه المنهجي وما ترتب عليهما من نتائج رجحت الدراسات الحديثة كثيراً مما ذهب إليه البهبيتي في التاريخ والأدب العربيين. بالإضافة إلى وقوف كل منهما على ضفة المواجهة تجاه ما قدمه المستشرقون في الأدب العربي.

 

سنوات البهبيتي التي تبددت تحت وطأة خصومته مع طه حسين، وبلغت 14 سنة حسب ما ذكر، لم تهدأ ثورتها في نفس الأول، ولم يترك مسألة ذات صلة أو موطناً في أي كتاب له، فيما بعد، بإمكانه توجيه النقد للعميد إلا وفعل بحدة بلغت به حد التشويه، الأمر الذي استغله كتّاب تيار الإسلام السياسي للنيل من طه. بالإضافة إلى ما ألقى به هذا النقد الغاضب من تداعيات سلبية صرفت الانتباه عن منهجه وجهوده الجبارة ومنجزه النقدي النفيس التي انحسر لتتصدر خصومته مع العميد سيرته ومسيرته العلمية.

ولو أن نقد البهبيتي توقف عند الحد المعرفي ورصد مغالطات طه التي دعا، هو لا سواه إلى إعادة النظر فيها، لأخذ منجز البهبيتي النقدي مدارات أخرى شأنها شأن ما جرى بين شاكر وطه. لكن يبدو أن المعارك الأدبية كان لا تزال تلوح في ذهنه رغم انتهائها، فعمل على تصفية طه بلا هوادة.

الإبحار ضد التيار

في عام 1950 ظهرت الطبعة الأولى من "تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري" وهي أطروحته للدكتوراه التي استغرقت خمس سنوات من عمره وصدرت في ما يزيد على الـ500 صفحة. وفيه أشار على استحياء إلى صنيع طه حسين، وهو ما سيصرح به في الطبعات التي تليها سواء في الطبعة المصرية التي صدرت عن "الخانجي" (1961) أو دار الفكر  (1970)، أو نظيرتها المغربية عام 1982 من الرباط.

 في الطبعة الأولى من "تاريخ الشعر العربي" عرج البهبيتي إجمالاً على "العقبات الرهيبة" التي تشير في طياتها إلى اختلاف مرجعيته المعرفية عما ترسخ في الأذهان تحت وقع ما ذهب إليه المستشرقون وبعض المحدثين بينهم طه حسين، الذي لم يسمه في طبعته هذه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وسط بحث شاق يقول البهبيتي، "ولما أخذت في دراسة القديم وجدته يصور أشياء كانت تلوح لي من خلف تلك الأخبار المتوارثة كما تلوح الأشعة الخافتة، تتبدى من وراء الظلمات الكثيفة، ووجدت ما كنت أدركه بكد الخاطر وشق النفس يتضارب تضارباً تاماً مع ما هو مقرر في الأذهان، متواضع عليه في الأخبار عن ماضي هذا الشعر وعن خصائصه".

يشير في موضع آخر "كان علي أن أتكئ على نفسي فلم يكن تقدم من البحوث في هذا الباب ما يعبّد (يمهد) السبيل لمثل هذه الدراسة الفنية المتصلة الأواصر بحياة الأمة التي أنتجت الشعر، وبذلك اتسعت آفاق البحث اتساعاً لم أكن أتصوره عند البدء فيه واستغرق التهيؤ لذلك العمل والقيام به أعواماً".

يتابع، "وقد اعترضتني في البحث نظريات فجة وأحكام مبنية على سوابق موهومة لماضي الأمة ولشعرها، ومن دعاوى زيفت وصنعت وطال الزمن على الدعوة لها حتى ثبتت على مرور الأجيال، وأصبحت أشبه بالسمعيات المقررة يؤخذ بها دون جدال، أو يفاضل بينها دون محاولة النظر إلى سواها مما عسى أن تؤدي إليه الاتجاهات العلمية المتحررة من أغلالها، كدعوى تأثير اليونان والفرس في الشعر العربي والحضارة العربية، فوجدت الأمر يدعو إلى إحقاق الحق فيها وقد فعلت".

يلوّح مرة أخرى من وراء الكلمات إلى مذاهب المستشرقين وغيرهم في محاولة لإنصاف آرائه فيقول، "وستجد في هذا الكتاب منهجاً جديداً ونتائج جديدة وستطلع من دنيا الحياة العربية في جاهليتها وإسلامها على غير ما اعتدت أن تطلع عليه منها، فلا يأخذك الاعتزاز بالقديم على زيفه فتضطرب في قبول الجديد على صدقه".

يفصّل القول نسبياً، "ستجد ارتباطا بين المدارس واتصالا في التيارات الفكرية وتآلفا في سياق الأمور بين الماضي وما تلاه، وبين الأثر السابق والأثر الذي يأتي بعده ولم أكن في هذا متجنياً ولا متعنتَ الأحكام، ولا مُرغِماً للفكرة على أن تخضع لغير واقعها السليم، إنما أظهرتك في التاريخ على الأمور متصلة اتصالها في الحياة، متآخذة تآخذها في الواقع، متعانقة حيث يجب أن تتعانق ومتفارقة حيث يجب أن تتفارق".

يوضح، "كان العثور على الطريقة (المنهج) التي يمكن أن يقرب بها الباحث (البهبيتي) بين الموضوع على الورق وبينه في الحياة أمراً شاقاً جداً، وقد تستطيع أن تتصور بعض مشقته وأن تقاربه إذا قرأت الكتاب في ضوء الفهرست الموضوعي (للكتاب)، في ترتيبه الذي يشبه المتحف الضخم".

 

لعل من الخير البرهنة بذكر مسألة تاريخية استهل بها البهبيتي كتابه الرائد، تتمثل في "عمر الشعر الجاهلي" وما أفضت به إلى "معركة الشك" التي دارت رحاها في عشرينيات القرن الماضي ورفع رايتها طه حسين "في الشعر الجاهلي".

 رصد البهبيتي عبر المنهج التاريخي الخطأ الجسيم الذي ذكره أبو عثمان الجاحظ عن "عمر الشعر الجاهلي" إذ عاد بالشعر على أهميته الوجودية في تخليد مآثر العرب إلى قبل مجيء الإسلام بـ150 أو 200 سنة على أقصى تقدير، ليرد الأول زعم الأخير بالقول، "وهو رأي لا يقوم لما تدل عليه جميع الكشوف التاريخية في بلاد العرب. فمدينة العرب أقدم من ذلك بكثير، وحضاراتهم في الجنوب والشمال وفي شرق الجزيرة وغربها ودولهم أعرق من ذلك بكثير". في إشارة إلى مأرب وصنعاء ومعابد اليمن واليمامة والحضر والساطرون ومعابد شبه الجزيرة التي ذكرها مؤرخو اليونان بينهم ديودورس واسترابون وغيرهما، وفق ما سجل البهبيتي إلى جانب براهين مطولة عن موقع جزيرة العرب بين الحضارات القديمة.

يواصل البرهنة أيضاً من واقع جمالي وفني بالقول، "النمو الطبيعي للقصيدة العربية، أوزانها وموضوعاتها، واللغة ونحوها وأساليبها وإيجازها، يستدعي أن تكون مرت قبل زمن امرئ القيس ومن بعده بأطوار كثيرة" حتى بلغت هذا المستوى من النضج الفني. وقد أطال إمام المحققين محمود شاكر النظر في مسألة "عمر الشعر الجاهلي" ووقف أمام ما ذكره الجاحظ واتفق من طريق "التحقيق" مع ما ذهب إليه البهبيتي عبر الاستقراء التاريخي. ليوقفا معاً مد "ثورة الشك" التي سنتعرض إلى تفاصيلها بين البهبيتي وطه حسين في الحلقة التالية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات