Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ليالي بدر تروي الشتات الفلسطيني من وجهة نظر أنثوية

"على يمين القلب" تقدم حكايات أخرى عن العائلة والزواج والذكورة

مدينة أريحا الفلسطينية التي تستوحيها أحداث الرواية (اندبندنت عربية)

ملخص

"على يمين القلب" تقدم حكايات أخرى عن العائلة والزواج والذكورة

في خريطة زمنية تربط بين الذات والأماكن وذاكرة بعيدة، تمضي الكاتبة الفلسطينية ليالي بدر في عملها الروائي الأول "على يمين القلب" عائدة بذكرياتها إلى مدينة أريحا مسقط رأسها، ثم ترتحل إلى عمان فالكويت ثم مصر. تتبع حياة بطلتها غرام في مراحل عدة، تروي حكايتها بضمير المتكلم، كي تتمكن من تقديم بوح حميم عن الذات الحاملة آلاماً عتيقة، تعود لسنوات الطفولة، تكبر وتتسع مع كل اغتراب في الروح والمكان، كي تشتبك العودة لسنوات الطفولة وبدايات الصبا، مع طفولة الوعي العربي والتحولات الكبرى التي شهدتها أرض فلسطين وأدت إلى احتلالها.

قسمت الكاتبة روايتها إلى فصول صغيرة، حمل كل فصل منها استدعاءً لأحداث ظلت راسخة في ذاكرة البطلة الساردة. تبدأ مع مشهد أليف بين الأم وابنتها، يحكي عن التطريز، وكأن بدر عبر فعل الحياكة الواقعي، تسعى إلى حياكة سردية موازية، بصبر واشتغال وإيمان بالذات القادرة على نسج حكايتها وحريتها. فالخيوط الطويلة التي تغزل منها غرام فستان عرسها، هي عينها الموجودة في مخيلتها، التي تدفعها إلى استعادة ماضي أسرتها العريقة في مدينة أريحا، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بكل ما يختزله ذاك الماضي من تعقيدات سياسية واجتماعية بين العرب واليهود، وبين الفلسطينيين أنفسهم، في سعيهم إلى مواكبة التقدم الحضاري والفكري الذي بدأ ينتقل إلى المجتمعات العربية. تقول "لعل أهم ذكريات سطح بيتنا كانت تليسكوب بابا الأبيض الكبير. كان أول عربي ينحت مرآة تليسكوب بيده. على سطح منزلنا شاهدت للمرة الأولى فيلم رسوم متحركة لوالت ديزني. علق والدي قماشة بيضاء لتصبح شاشة كبيرة، وشغل آلته السينمائية"، ثم تحكي في فصول أخرى، عن العلاقة مع الأفلام المصرية ومع الراديو و"صوت العرب" من القاهرة، وعن الثقافة التي يحرص الأب على نقلها إلى بناته، ثم أثر كل هذا الدفق المعرفي في تشكيل وعيها الفكري، وتحولها في ما بعد نحو الإبداع.

فصام المثقف

تضع ليالي بدر في روايتها إشارات كثيرة تكشف عن ازدواجية المعايير الفكرية للمثقف في المجتمعات العربية، ونظرته الدونية للمرأة. تستدعي الرواية مقولة سيمون دو بفوار في كتابها الجنس الآخر: "لا تولد المرأة امرأة إنما تصبح كذلك". هذه المقولة لها صدى جلي في أكثر من موضع، منذ تشكل وعي البطلة في الطفولة مع تلك الروح الحرة المنطلقة، التي يتم أسرها وحصارها تحت تسميات شتى من العادات والتقاليد. تتغير شخصية غرام، بخاصة بعد زواجها وخضوعها لزوج متسلط يعرف أنها تحتاج إلى الحنان والعطف، لكنه يضن عليها بهما، وينزعج حين تنجب له بنتاً، يقول لها بلا مواربة: "كنت أفضل صبياً".

لنقرأ هذه الجملة البالغة التعبير والألم في إنكار الذات الأنثوية، تقول "ولأني واجهت كثيراً في ما بعد، واحتجت مزيداً من القوة، بدأت أقنع نفسي بأني رجل، وعليَّ أن أتخلى عن المرأة التي في داخلي".

لا تأتي هذه القناعة بعد الزواج فقط، بل من جذور التشكيل العائلي الأول. كان والد البطلة طبيباً معروفاً في أريحا، يختار لاحقاً الانتماء إلى الحزب الشيوعي الأردني، مما عرضه إلى اعتقالات متتالية أثرت في حياة الأسرة ككل، بيد أن هذا الرجل المثقف والمناضل حمل في داخله فصاماً عميقاً في نظرته للمرأة، فقد ظل ينظر إلى بناته على اعتبار وجودهن عبئاً ثقيلاً عليه، يود التخلص منه.

هذا الأب الشيوعي الذي كان يخاطب بناته عبر لغة الشعر، ويتحدث عن الديمقراطية والعدالة، يرى أن النساء ناقصات عقل ودين. هو عينه الذي تصفه البطلة بأن العلم والمعرفة والشعر والفكر كانت جزءاً لا يتجزأ من حياته، يجتمع ببناته وهن صغيرات، كي يحكي لهن عن الاكتشاف العلمي الخارق للثقوب السوداء. وعلى رغم كل هذا يمارس التسلط على حياة زوجته وبناته. حين تهجره زوجته، بسبب رفضه نشاطها السياسي وخياناته الكثيرة لها، يعاقبها بحرمانها من رؤية بناتها. تصف البطلة الساردة بحزن كيف أن الكلام عن الأم كان ممنوعاً في البيت. لقد شكل هذا الخواء فراغاً عاطفياً حفر في قلب البطلة غرام جوعاً نفسياً مريراً، واحتياجاً أبدياً للمحبة، لكنها في المقابل بعد رحلة العمر غدت واعية لهذا الأمر، لكنها عاجزة عن التحرر منه.

المرأة والكتابة

تتعرض المرأة على مدى السرد لحالة من قمع، يبدو ظاهراً أنه غير مباشر في أسرة، من المفترض أنها تمتلك وعياً ثقافياً، لكن واقعياً واجتماعياً، يؤدي الاضطهاد الأسري والنفسي الممارس على البطلة إلى حالة مزمنة من الاحتياج العاطفي المضني، الذي يسفر عن انكسارات وهزائم نفسية، تودي بها إلى الاكتئاب الذي ظلت تشتكي منه لسنوات. في البداية بسبب الزواج المبكر من أحد أبناء العمومة، وهي في الـ16 من عمرها، قبل أن تنال الشهادة الثانوية. وسرعان ما تدرك مدى فداحة ما حصل في حياتها، وأنها تحتاج إلى الحب لا الزواج. هذا الإدراك بحد ذاته ستدفع ثمنه فادحاً، وتكتشف أن هذا ما يحدث مع نساء كثيرات، يتزوجن وهن طفلات، فيمتلك الآخرون القدرة على أذيتهن. لكن غرام تحاول أن تتمسك بروحها الحرة فتقوم بالكتابة، تحكي في قصة قصيرة عن زوجة تطلب من زوجها أن يقبلها كل يوم قبل ذهابه إلى العمل، لكنه ينسى، إلى أن بدأ الملل يتسرب إلى قلبها، ثم ترسل القصة إلى النشر في صحيفة "الوطن" الكويتية. هذا الحدث يفجر أزمة في العلاقة مع زوجها. وحين تتجرأ وتطلب الطلاق تواجه برفض كبير من العائلة، فيتساءلون جميعاً: "ماذا أريد أكثر من شاب كريم وغني، كنت أريد الحب، ولا شيء آخر. كان طلاقاً عسيراً، لكنه كان".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا توجد في النص نبرة عالية للحديث عن النسوية، أو التغيرات الاجتماعية التي حصلت على مدى عقود طويلة، استطاعت فيها المرأة أن تمضي خطوات في نيل قسط من حريتها، بل تسيطر على النص حالة من اللوعة والأسى الخفي، الذي يمكن رؤية ملامحه في كل العلاقات بلا استثناء. تعري الراوية غرام كينونتها الداخلية في علاقتها مع كل من حولها: الأم والأب والأخوات والزوج والابنة. وفي كل هذا تبدو كما لو أنها توجه لنفسها لوماً خفياً يتجلى على شكل أسئلة، عن السبب في عدم نجاح هذه العلاقات المحورية في حياتها. ولعل الأكثر إيلاماً لها، علاقتها مع ابنتها، التي تسألها بعد سنوات من جلد الذات: "هل كنت أماً جيدة؟". هذا السؤال يكشف عن ألم غائر، لروح رهيفة ترغب في الحصول على الرضا ممن تعتبرهم أحق بمحبتها. ولعل ما ينبغي الإشارة إليه هنا أن ما تعرضت له بطلة ليالي بدر لا يبدو فردياً أبداً، إذ يحمل في ثناياه أصداء أصوات نساء أخريات سيجدن في هذا النص مواساة لهن.

زاوية القلب

تربط الكاتبة في فصول عدة بين علاقة المكان بالأنثروبولوجيا الدينية، تحكي مثلاً عن مدينة الخليل أن اسمها ارتبط مع اسم النبي إبراهيم الموجود ضريحه على أرضها، هو وزوجته سارة التي تعتبر من أجمل نساء الأرض، وقد عاشت معه في الخليل، وتوجهت بدعائها إلى الله بأن تكون كل نساء الخليل بمثل جمالها.

تتوقف بدر أيضاً عند محطات مفصلية في حياة الشتات الفلسطيني، حرب 1967، والتهجير نحو عمان، ثم الانتقال إلى الكويت، ثم كيف درست في مدارسها، وتعلمت هناك درس الديمقراطية الأول، حين تتظاهر الفتيات من أجل عودة معلمتهن الأبلة فتحية، التي تم طردها بسبب خلاف في الرأي مع شخصية مهمة في الوزارة.

 تحكي أيضاً عن مرحلة تاريخية سابقة من التعايش السلمي بين العرب واليهود، حتى عام 1929، تعطي نموذجاً للصداقة في علاقة الجدة مع جارتها اليهودية راشيل، حين قامت الجدة بإنقاذ راشيل وابنها إثر خروج اليهود في تظاهرة ضمت أكثر من 6 آلاف في تل أبيب، هتفوا "الحائط لنا"، ويقصدون حائط المبكى عند اليهود، وحائط البراق عند المسلمين، حينها خرج الفلسطينيون في تظاهرة مقابلهم، ثم تحولت التظاهرات إلى اشتباكات بينهم، راح فيها العشرات من القتلى.

في كتابة ليالي بدر التي عملت لسنوات في مسار السيناريو وإعداد الأفلام، ولها أكثر من عمل سينمائي، تحضر المخيلة البصرية بقوة، وتشتبك مع حواس أخرى تمنح حيوية للوصف المكاني. وتبدو جملتها السردية قصيرة ومكثفة في اختزالها لرؤية نفسية حميمة في العلاقة مع الأماكن، ووصفها من جانب ذاتي يتعلق في جزء منه بطبيعة المكان، وفي جزء آخر في حضوره داخلها، تقول "كل الأماكن لها روائح عندي. لأريحا رائحة البرتقال. رائحة أشجار السرو تعني القدس، أما دمشق فالياسمين يعلن عن نفسه بنزق. القاهرة لها رائحة الشوق. إنه النيل الساكن المضطرم شوقاً في آن".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة