ما إنْ يستهويك البحث عن الكاتب الفلسطيني والأكاديمي الأميركي إدوارد سعيد إلا وتجد نفسك تقف أمام سيرة مثيرة للفضول، امتدت لعقود من الزمان، وتجاوزت القارات والثقافات واللغات، إذ ترجمت مؤلفاته من الإنجليزية، التي كتب بها، إلى العربية واليابانية والتركية والصربية والماليزية بجهد علمي فريد، لكن اللافت حقاً أنه ورغم هذا الحضور الأكاديمي المهيب، تظل سيرة الغياب مهيمنة على الوجه الإنساني الثري في حياة إدوارد سعيد إلا من شذرات مبعثرة هنا وهناك، قليلاً ما ترصد العلاقة الكاملة بين الكاتب وعالمه، كأن قدره أن يكون منفياً "خارج المكان"، وفقاً لسيرته الذاتية التي تحمل العنوان ذاته.
ولعل من المفارقات أن مولده في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1935، جاء على يد قابلة يهودية بالقدس، كانت حريصة على زيارة أسرته المرة تلو المرة، لتطمئن على نموه، وتعانقه عناق الأحبة، وفقما سجل في مذكراته. لم تكن "السيدة باير"، ذات الأصول الألمانية، تدرك بالطبع ما تخبئه الأقدار لهذا الوليد، الذي ستضعه إحدى المنظمات اليهودية المتطرفة في الولايات المتحدة على قائمة الاغتيالات وهو في الثلاثين من عمره، بعدما أدى دور راوي الملحمة الفلسطينية وصحح مسار الأساطير التي سعت إسرائيل إلى ترسيخها في أذهان العالم عن الأرض والشعب؛ "كانت فلسطين أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض، أما الشعب فلم يكن هناك من فلسطينيين!".
محاولة ترسيخ هذه المروية الإسرائيلية ونظائرها في أذهان العالم، جعلت إدوارد يسطر رواية شعبه التاريخية، ليمسي صوتاً رصيناً لفلسطين، يتدفق بعقلانية في الإذاعات العالمية، ويثير جدلاً متواصلاً على صفحات الصحافة الغربية، بلغة هي لغتهم، ومنهج يستند إلى المنطق الذي يدركه عقلاؤهم؛ ليدحض أكاذيب المرويات الإسرائيلية بإسقاط القناع عن وجه خرافتها بما جرت به وقائع الأيام. وبصرف النظر عما آل إليه الأمر الواقع لأرض وخريطة فلسطين، لكن تاريخ الرجل يروي كيف أرقت كتاباته في ستينيات القرن العشرين المروية الإسرائيلية عن "أرض الميعاد"، وفق الأدبيات العبرية. لعلنا نستطيع هنا أن نلملم شتات الأبعاد الدرامية في الصورة الإنسانية التي تخفت وراء سيرته العلمية، ونعيد رصد التفاصيل التي غابت عن حياته الثرية، فماذا تروي السيرة يا تُرى؟
البداية من "خارج المكان"
قدّم إدوارد سعيد مذكراته في طبعتها العربية بقوله، "بعد سنوات من حياتي خارج العالم العربي؛ هي سنوات دراسة وتعليم وعيش وكتابة كلها باللغة الإنجليزية، اتخذت قراري بُعيد حرب 1967، بأن أعود سياسياً إلى العالم العربي، الذي كنت قد أغفلته خلال سنوات التعليم والنضج الطويلة تلك. ولكن ما عدتُ إليه، لم يكن له أن يكون عالم طفولتي؛ تلك الطفولة التي دمرتها أحداث عام 1948، والثورة المصرية، والاضطرابات الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1958".
يتابع، "كان العالم العربي الجديد عالماً سياسياً وثقافياً، على الصعيدين الشخصي والعام، يتكوّن من عناصر عديدة، لكن علاماته الفارقة عندي كانت الهزيمة العربية، وانبثاق الحركة الفلسطينية والدروس الخصوصية في اللغة والأدب العربيين التي كنت أتلقاها يومياً، خلال عام بأكمله على يد الأستاذ أنيس فريحة، المَعين الذي لا ينضب من اللغات السامية كلها. إلى ذلك نما لديَّ شعور متزايد بأنه إذا كنت أشعر بوجود هوة من سوء التفاهم تفصل بين عالمَيَّ الاثنين؛ عالم بيئتي الأصلية وعالم تربيتي، فإن مهمة تجسير تلك الهوة إنما تقع عليَّ وحدي دون سواي. كان عليَّ أن أعيد توجيه حياتي لتسلك حركة دائرية تعيدني إلى نقطة البداية، مع أني كنت قد بلغت نهاية الثلاثين من عمري، اخترت أن أستعيد هويتي العربية".
يستطرد قليلاً ويسجل، "إنها صورة شخصية غير تقليدية لتلك العلاقة التي تنطوي على قدر من التوتر والتركيب، الذي يُظهر سيرة عربي أدت ثقافته الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى تأكيد أصوله العربية، تلك الثقافة التي تلقي ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، وتفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات". هنا يظهر الانتماء الإنساني لإدوارد سعيد؛ "فيؤيد هجنة الهويات، ويدين صراع البشر القائم على الأصول والأعراق وحدود الجغرافيا"، بحسب توصيف فخري صالح في كتابه "إدوارد سعيد دراسات وترجمات" (2009). ربما كان هذا هو المفتاح الرئيس في حياة إدوارد الذي جعل منه إنساناً استثنائياً مسافراً بين الثقافات؛ لا حاجة له إلى جواز سفر ولا ختم عبور بين الحدود والألسن التي ترجم إليها.
فضول الروائي
في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1991، كشف إدوارد سعيد، في أحد حواراته الإذاعية المتعددة مع ديفيد بارساميان لراديو "البديل" الأميركي، عن سيرة الوجع في نكبة فلسطين بقوله، "ما قَتلنا طوال السنوات الأربعين الماضية هو الإنكار، وحقيقة أنهم غير مسؤولين؛ لذلك نبدو وكأننا أيتام؛ كأنه ليس لدينا أصول، ولا حكاية، ولا سلالة كشعب، إن ما نتحدث عنه هو الاعتراف بالتاريخ، هذه هي المسألة الأولى. أما الثانية فإنها تضعنا على الأقل على قدم المساواة مع الإسرائيليين".
عناية إدوارد بمدونة التاريخ وغياب الوثائق الثقافية، بما فيها الأدب، كان لها دور أعمق في كتابيه العمدة، "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، إذ يقول، إن "الرواية تلعب دوراً مهماً على نحو استثنائي في المساعدة على خلق مواقف إمبراطورية نحو بقية العالم". فماذا عن المؤثرات الفكرية التي أوحت إليه بهذا الاستنتاج، لدرجة أن كَثُر استشهاده ببعض الأشعار والمقاطع الروائية إلى جوار المنطق والمنهج العلمي بالطبع داخل أطروحاته؟
بالعودة إلى المؤثرات الفكرية في نشأته، يشير إدوارد إلى هناك؛ حيث الطفولة وبداية السيرة، ويكشف في حوار له، أن الرواية كانت الأكثر تأثيراً في طفولته المبكرة، إلى جوار الموسيقى. يقول، "قرأت تشارلز ديكنز ووالتر سكوت، وروائيي القرن التاسع عشر من أمثال كونان دويل وجون باكان وإدغار رايس بوروز مؤلف طرزان، وألكسندر دوما، والروايات المسلسلة"، ولم يفته بالطبع أعمال شكسبير. لكن من بين كل الروايات التي أثرت فيه كان أهمها رواية (إيفانهو) لـ"والتر سكوت"، التي قرأها في الثانية عشرة من عمره، بعدها جاءت رواية "روبنسون كروز"، سالفة الذكر، إضافة إلى تأثره في ما بين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من عمره بفلوبير ومارسيل بروست، وكُتب الفلسفة التي تعرّف إليها ما بين عاميه الواحد والعشرين والثاني والعشرين من عمره، ولكنه يعود فيجزم، "يبقى التأثير الأطول في حياتي بأسرها من اليفاعة وحتى الآن للروائي جوزيف كونراد"، مشروع أطروحته للدكتوراه وأول كتبه.
في سن مبكرة، يحددها ما بين الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمره، (كان هذا بين عامي 1947 و1948)، فكّر إدوارد أن يكتب القصة أو الرواية، عقب تأثره برواية الكاتب البريطاني دانييل ديفو الشهيرة "روبنسون كروزو"؛ وهي سيرة ذاتية تخييلية، يقول عنها، "كنت مسحوراً بفكرة روبنسون كروزو بأسرها؛ ثيابه، والببغاء، وشخصية (جمعة). تلك التي كانت لغزاً تاماً بالنسبة لي، ولم أتمكن من التماهي معه، أو فهم الكائن الذي عليه؛ لأنه ببساطة صامت في الرواية".
يضيف، "الحكاية جذبت انتباهي، وأذكر أنني حاولت تقليدها وكتابة قصص شبيهة. وذات مرة فكرت في كتابة قصة عن كتاب؛ مغامرات كتاب يُقرأ، ويتنقل من شخص إلى آخر، ثم يُنسى في قطار. وأعتقد الأمر كان فانتازياً حول نفسي، وأنني قد أكون في يوم ما قادراً على التحول إلى كاتب". ولكن هل حقاً حال القدر بين إدوارد سعيد وسرد الحكاية، أم قُــدِّر له أن يروي سيرة المنفى والشتات الفلسطيني في مدونة السرد التاريخي على نحو مغاير، ويفسح المجال في مروياتها لصوت "الضحية" ليكون صوتاً موازياً يكشف التدليس في الرواية الإسرائيلية لما اقترفته إسرائيل بحق فلسطين، الأرض والشعب.
إدوارد سعيد وعالمه
طفولة إدوار كانت أرستقراطية إلى أبعد حد؛ طفلٌ وُلد في القدس عام 1935 وغادرها في الثانية عشرة من عمره إلى القاهرة عام 1947، مع أسرة ميسورة الحال ترعاه على أكمل وجه، نشأ بين أحضان الروايات والمسرحيات العالمية، يعزف على البيانو من وقت إلى آخر، ويشاهد المسرح والأوبرا بالقاهرة. وحين وصل إلى الثانية والعشرين من عمره درس بالولايات المتحدة الأميركية، ونال درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 1962 عن الروائي البولوني جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية، فهل ثمة علاقة بين إدوارد وعالمه؟
أول خيوط عوالمه نتلمسها هنا في العلاقة بينه وبين كونراد صاحب رواية "قلب الظلام"، وكتابه الأول الصادر عام (1966)، إذ تتمثل في الإشارات الكثيرة إليه في منجزه، بل واعترافه المباشر بالدَّين له، بل لعل استهلالَ إدوارد سيرته الذاتية "خارج المكان" به في مقدمة الطبعة العربية الصادرة عام 2000 دلالةٌ ذات مغزى.
يقول إدوارد، "غادر كونراد وطنه عام 1874 وهو في السابعة عشرة من العمر. عاش في فرنسا وعمل قرابة أربع سنوات في البحرية التجارية الفرنسية، وفي عام 1878 جدّد حياته فجأة؛ فعمل بحاراً في البحرية البريطانية إلى عام 1895 عندما نشر روايته الأولى (جنون ألماير)".
يعقب إدوارد على هذه المسيرة بقوله، "سحرني في الرجل أنه كتب باللغة الإنجليزية أعماله العديدة من روايات وقصص ومذكرات، وكلها يغرف من حياته الغنية على نحو مستبعد التصديق بوصفه بحاراً ومكتشفاً ومغامراً. ومع ذلك كانت الإنجليزية لغته الثالثة بعد البولونية والفرنسية".
يذكر، "في كتابي عنه ظل يثيرني، بل إني مهووس به من نواحٍ عديدة. وأحاجج أنه عاش تجاربه في اللغة البولونية لكنه وجد نفسه مَسوقاً إلى الكتابة عن تلك التجارب في لغة ليست لغته، فإذا النتيجة كاتب متفرد في الأدب العالمي من حيث الأسلوب والمحتوى معاً، فما من أحد له نبرة كونراد، وما من أحد حقق تلك الآثار الكابوسية والمقلقة كالتي حققتها كتبه. وأعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى شعور كونراد بوجود تفارق دائم بين تجاربه وبين اللغة التي استخدمها لوصف هذه التجارب، فكأنه عاش في لغة، وكتب في أخرى. وإذا إدراكه لذلك الاختلال المربك هو في الصميم من كل أعماله"، ولعل في هذه التفاصيل ما يصنع تماساً واضحاً بينهما، خصوصاً أنه عقد بشخصه مقارنة بينهما بشأن عامل اللغة هذا، بل ربما يكون هذا وجهاً من وجوه اختياره لكونراد موضوعاً لأطروحة الدكتوراه.
تأثر إدوارد بكونراد والإشارة إليه على هذا النحو، دفع أكثر من باحث ومؤرخ للتعمق في صلة المقارنة هذه؛ فعَقد أستاذ الأدب الإنجليزي محمد شاهين، شبهاً بين تجربة إدوارد سعيد بالقضية الفلسطينية بنظيرتها لدى "مارلو"، بطل رواية كونراد "قلب الظلام"، عن مغامرته في الكونغو، إذ يروي الأخير قصة الاستعمار على مسمع أربعة من رفاقه بظهر السفينة "نيللي"، التي كانت راسية في مياه نهر التيميز تنتظر هبوب الرياح المواتية لتقلع، وجاهد مارلو لنقلها في شكلٍ روائي؛ لكي يفهمها ويجعلها مفهومة للآخر، فوجد نفسه يروي قصة رحلته إلى الكونغو لإحضار كورتز؛ موظف الشركة السابق، الذي أصبح إلهاً عند الأفارقة وطريداً عند الشركة؛ قصة معقدة ومأساوية وجدت تعبيراً لها في تلك الصيحة الشهيرة التي أطلقها كورتز عندما تراءت له ممارسات الاستعمار البشعة، فلم يجد غير كلمتين. اعتبرهما مارلو التعبير الأدق عما جهد إليه دون طائل في محاولة التعبير عنه؛ "الرعب، الرعب"، وفق ما سجل في مقدمة كتاب "إدوارد سعيد: الثقافة والمقاومة" (2007).
يتابع، "إدوارد هنا مثل مارلو؛ يجهد في تطويع اللغة من أجل الوصول إلى أدق تعبير يصف به القصة المعقدة. وهو مثل مارلو أيضاً يتوجه إلى مستمعيه بين الفينة والأخرى مستفسراً عن قدرته اللغوية في توصيل خبايا الرواية وأجندتها المعقدة إليهم من خلال أقصى درجات التعبير، التي تتسنى للراوي أثناء العملية الروائية. إن الرواية عند إدوارد سعيد هي الثقافة التي تحصّن أصحابها وتحميهم من الذوبان في منظومة الهيمنة التي تُملى عليهم من الخارج".
ثمة من يفتح أمامنا أوراقاً أخرى من سيرة إدوارد سعيد، المفكر الذي قيـّــد سرد الروائي، إذ يخبرنا بروفيسور العلوم السياسية في كلية هامبشير الأميركية إقبال أحمد، عن سطوة الروائي الأوكراني ذي الأصول البولندية جوزيف كونراد في حياة صاحبنا: "كان كونراد منفياً شأن سعيد. هو لا يقول ذلك، ولكنه يتحدث عن دَين فكري لكونراد، ويصفه بأنه واحد من أهم الشهود الاستثنائيين على دور الثقافة في الإمبراطورية، وعلى مركزية الأفكار في صنعها والحفاظ عليها. لقد فهم كونراد أكثر مما فهم أي روائي آخر كيف أن الإمبراطورية لم تصب بالعدوى أولئك الناس الذين خضعوا لها فحسب، ولكن الذين خدموها أيضاً. لقد فهم الإمبريالية وقوتها الداخلية وجانبها المظلم، كان يتمتع بحس الدخيل؛ لأن أوروبا كانت ذاتاً محتومة بمعنى من المعاني بأن تكرر هذه الدورة من المغامرة الأجنبية والفساد والانحدار، ولكنه رأى ذلك على أنه أمرٌ لا مفر منه. لقد ترك إدوارد الأمر إلى الكاتب الأفريقي والكاريبي والآسيوي ليتخيل البديل ويبدأ بكتابة الماضي. فإدوارد بين الأوائل الذين دفعوا بهذا البحث إلى ما وراء القومية والدولة إلى ما بعد الاستعمار، عابراً الحدود ليفسر العالم والنص بناء على المعادل. كما قد يقول (كثير من الأصوات تنتج تاريخاً)". "إدوارد سعيد: القلم والسيف" (1998).
القضية الفلسطينية وميراث الخسارة
الخامس من يونيو (حزيران) 1967 في حياة إدوارد سعيد، ابن الاثنين والثلاثين عاماً آنذاك، جعل منه إنساناً غير الذي كانه، فحتى هذه السن انكب على البحث والدراسة، إلى أن شاهد آثار الهزيمة العربية أمام إسرائيل على التلفاز، وهو في مقر إقامته بالولايات المتحدة، ولمس بمعايشته الفرحةَ الغامرة التي اجتاحت الولايات المتحدة إثر النصر الإسرائيلي، لتتصارع بداخله ذكريات مركّبة تضعه على خط المواجهة ليغير المسير والمصير، ويدخل المعترك السياسي بمقالته الأولى "صورة العرب" عام 1968.
في عام 1969 أطلقت رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير تصريحاً، جاء فيه، "لم يكن الأمر وكأن هناك شعباً فلسطينياً. إنهم لم يوجدوا"، أصاب سهم مائير سيرة الوجع بداخل إدوارد، فقرر "دحض ما ذهبت إليه، الذي يمازجه شيء من مُنافاة العقل، والشروع بإنطاق تاريخ الخسارة والفقدان الذي ينبغي أن نبوح به، ونحرره دقيقة بدقيقة، وكلمة بكلمة، وإنشاً بإنش"، وفقاً لإدوارد.
يتلمس طرف الخيط ليعيد بناء المرويات التاريخية التي استفزه تلاعب إسرائيل بها حد التزييف عبر تصريحات قادتها، تسبقها بالطبع كتابات وتحليلات كتــّـاب ومتخصصين في الصحف ووسائل الإعلام العالمية، تمهيداً لفرض سيرة تاريخية مزيفة وموازية تخدم أهدف إسرائيل الاستراتيجية لتضرب عقول وأذهان العالم في مقتل.
انتبه إدوارد لـ"خطورة الحَكي"، والأهداف البعيدة المدى لهذا النوع من المرويات، ووقف ليروي للعالم كيف بدأت الحكاية ويدحض أباطيل وأسمار المروية الإسرائيلية بتاريخ البلاد وجغرافيا المكان وطبيعة سكانه، وما الذي كان وأصبحت عليه الأمور.
تزييف المروية التاريخية هذه، كان وراء كتابه "المسألة الفلسطينية" (1979)، الذي سجل فيه، "عقب انتهاء الحرب الأولى التي دارت بين العرب والإسرائيليين، توسعت الأراضي التي كانت إسرائيل تحتلها، حيث زادت عما كانت نسبته 56 في المئة من أرض فلسطين الانتدابية، التي مُنحت لإسرائيل بناء على توصية الأمم المتحدة، إلى 78 في المئة من الأراضي الفلسطينية"، اشتملت على كامل الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.
ولعل منطق سردية الخسارة هذه، يفرض التنويه إلى أنه في الوقت الراهن تقلصت أراضي خريطة فلسطين إلى 4 آلاف كيلو متر مربع من إجمالي 27 ألف كيلو متر مربع قبل قيام دولة إسرائيل، بما نسبته 15 في المئة من إجمالي مساحة فلسطين، وفقاً لخطة السلام الأميركية الأخيرة التي هندسها غاريد كوشنر مستشار ترمب وصهره، وأقرها الأخير استناداً لسياسة الأمر الواقع.
من المفارقات هنا أن الرقم "67" سيجسد في حياة إدوارد سعيد علامة فارقة لتاريخ الخسارة فيما هو عام وشخصي، فهو التاريخ المجسد للهزيمة العربية أمام إسرائيل الذي استنهض منه الكاتب السياسي، وهو في الآن ذاته العمر الذي تُوفي فيه، لينتهي به المآل من حيث بدأ. ومع هذا لم يدخر جهداً في أن يقولها ويمضي. فهل كان إدوارد يروي حقاً تاريخ الخسارة التي كان يخشى مواجهتها دائماً، ليكون راوي الملحمة ويصرخ بصوت المهمشين والمنفيين البائسين في الرواية؟ لعل سؤالاً كهذا يكون جوهرياً، خصوصاً إذا نظرنا لما جناه من مسيرته هذه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صوت إدوارد في الإذاعات العالمية لم تكن تضلّه الآذان، وكتابته باللغة الإنجليزية في وسائل الإعلام لم تكن تخطئها الأعين، وكلاهما كانا مقنعين إلى أبعد حد في "حق الضحية بإعلاء صوتها". كان حديثه وجيهاً في مَنطقه، لم يُقم حداً فاصلاً ذات يوم بين الثقافة والمعرفة واشتباكها مع أزمات المجتمع، رغم سَيره ضد التيار السائد. صحيح أن حديثه لم يكن مرغوباً لدى كثيرين، وثمة محاولات متعددة استهدفت تهميش آرائه في الشأن الفلسطيني عبر المنع من الظهور عبر وسائل الإعلام العالمية ليكون صوتاً موازياً. ورغم هذه وتلك فإن منجزه كان أكبر من تجاوزه أو تجاهله، وأسهم في وأدهما معاً.
كل هذا جعل من إدوارد المتحدث باسم القضية الفلسطينية بالولايات المتحدة، وقد دفع لمواقفه هذه ثمناً باهظاً، ذكر بشأنه، في أحد حواراته الشهيرة مع بارساميان، "فلسطين قضية غير مجزية. فأنت لا تأخذ شيئاً مقابل التزامك بها سوى الازدراء والاضطهاد والنبذ، كم من الأصدقاء يتجنبون الخوض في هذه المسألة؟! وكم من الزملاء لا يرغبون في سماع أي خطاب فلسطيني؟!"، في المقابل، "كم يصرف الليبراليون المتحمسون من الوقت في الاهتمام بقضايا البوسنة، والشيشان، والصومال، ورواندا، وجنوب أفريقيا، ونيكاراغوا، وفيتنام، والحقوق الإنسانية والمدنية في أي مكان على وجه البسيطة، لكنهم لا يفعلون شيئاً من ذلك عندما يتعلق الأمر بفلسطين أو بالفلسطينيين؟".
لم يتوقف الأمر في حياة إدوارد عند العبء النفسي فحسب، بل علت وتيرته، "فوُصم بـ(بروفيسور الإرهاب)، ودعته قائمة الدفاع اليهودية بـ(النازي)، وتم إحراق مكتبه بجامعة كولومبيا في نيويورك، وتلقى هو وأفراد عائلته تهديدات بالموت". وحتى هويته الفلسطينية "الحزينة"، كان هناك من يقف لها بالمرصاد في محاولة لنزعها عنه وتجريده منها.
ويبدو أن عنوان سيرته الذاتية "خارج المكان" لم يكن مجرد وصف لسيرته بقدر ما كان إلهاماً من القدر لإدوارد كثّف فيه مأساة المنفى، فعقب صدورها في نسختها الإنجليزية عام 1998، شنت ضده حملة تبنتها مجلة أميركية تدعى "كومنتري" عام 1999، تشكك في هويته الفلسطينية عبر مقالة مطولة، بلغت 20 صفحة لمحامٍ يهودي وباحث إسرائيلي يدعى جستوس رايد فاينر.
ادعى فاينر فيها أنه استعان بمئة باحث للتفتيش عن كل ما يتصل بعائلة إدوارد سعيد وأملاكها وأعمالها في فلسطين ومصر ولبنان، ليبرهن في نهاية المقال، أن إدوارد ليس لاجئاً فلسطينياً وأنه "اختلق قصته"؛ في إشارة إلى تشويه سمعته وتزييف سيرته الذاتية، للوصول إلى أن الفلسطينيين يكذبون في ما يتعلق بنفيهم واقتلاعهم، شأنهم في هذا شأن إدوارد، الذي يحمل قضيتهم على كاهله، ويتحدث إلى الإعلام الغربي، ويؤلف الكتب عنهم. إنهم يختلقون وقائع لم تحدث. لقد غادروا فلسطين، ولم تخوّفهم العصابات الصهيونية بمذابح وعمليات قتل جماعي، قامت بها في الطنطورة، ودير ياسين، وقبية، وكفر قاسم، وعددٍ آخر من المجازر، التي أجبرتهم على الرحيل خوفاً على أطفالهم من الذبح وبناتهم من الاغتصاب والذبح أيضاً! وفقاً للناقد فخري صالح الذي ترجم مقال فاينر، وعقب عليه بالنقد والتحليل في كتابه "دفاعاً عن إدوارد سعيد" (2000).
لعل هذا ما دعا صديقه محمود درويش أن يرصد مأساة إدوارد الإنسانية في رثائه له على لسان إدوارد سعيد، "أنا من هناك، أنا من هنا، ولستُ هناك ولستَ هنا. ليَ اسمان يلتقيان ويفترقان. ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم؟ لي لغة إنجليزية للكتابة طيّعة المفردات، ولي لغة من حوار السماء مع القدس فِضيّة النبر، لكنها لا تطيع مخيلتي".
ظلم ذوي القربى
وإذا كان هذا هو حال إدوارد في الولايات المتحدة، فإن الأمر لم يختلف كثيراً بين أبناء جلدته، فلم تشفع مأساته لدى القوميين العرب في الشرق، ولم يقيموا وزناً لكونه صوت فلسطين في آذان العالم من مقر إقامته بأميركا منذ عام 1968، ومناهضاً للجرائم الإسرائيلية على الصعيد السياسي الدولي، فقسوا عليه بنقد صارم لدفاعه عن "فكرة التعايش بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين العرب، بعدما أدرك ألا مكان للخيار العسكري الذي لم يخلف أي تقدم سياسي للقضية الفلسطينية، ولم يُرِق سوى دماء الأبرياء". الأبرياء فحسب! وكان آنذاك عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني لأكثر من عقد من الزمن.
عن هذا كتب إدوارد، "كنت أوجّه نقداً صارماً لاستخدام الشعارات والكليشيهات نحو (الكفاح المسلح)، ولروح المقامرة الثورية التي نجم عنها موت الأبرياء، في وقت لم تسهم فيه بإحراز أي تقدم للقضية الفلسطينية على الصعيد السياسي".
وحتى بعدما استقال من منظمة التحرير الفلسطينية عام 1991، وعارض علناً ياسر عرفات في توقيعه على اتفاقية أوسلو، وأدرك المغزى تماماً، وسماها "فرساي الفلسطينية". والأخيرة هذه معاهدة وُقعت في شمال فرنسا عام 1919 وتضمنت اعتراف ألمانيا بمسؤوليتها عن الحرب العالمية الأولى (1941 -1918)، وخسارتها بعض أراضيها ومستعمراتها، وفُرضت عليها ضوابط عسكرية بشأن جيشها، والأخطر إلزامها بتعويض الأطراف المتضررة مالياً بمبالغ ضخمة، أثقلت كاهل اقتصاد البلاد، وضيقت أحوال الألمان، ما أدى إلى إشعال فتيل الحرب العالمية الثانية على يد المستشار الألماني هتلر.
على هذا النحو، شبّه إدوارد الأمر، فكان جزاؤه أن حظرت وزارة الثقافة في الضفة الغربية مؤلفاته مدة عام بمرسوم رسمي، وإن جرى تداولها خِفية وعلى نحو مُستتر، أجبرهم على استئذانه في نشر كتبه بعد قرار الحظر بعام، وهو المغزى الذي أربك الرجل في فهمه، وفقاً لتعبيره عام 1999. التضييق نفسه انطبق عليه فترة فهُمش سنوات، وتجاهلته وسائل الإعلام بشكل متعمد، لكن رؤيته وآراءه كانتا أكبر من تجاهله، فدُعي على نحو متزايد في النيوزويك والنيويورك تايمز ومحطة الإذاعة الوطنية والـ"بي بي سي" ووسائط أخرى، خصوصاً مع اتخاذ القضية الفلسطينية منعطفاً تلو الآخر، على نحو سريع وخطير.
رصد إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق" استراتيجية الاستعمار ودور المثقفين والباحثين في تمهيد أراضي المستعمرات أمام المخططات التوسعية البريطانية والفرنسية في الشرق الأوسط، ما وفر لغزوهم تلفيقاً ارتدى مسوح العلم والمنطق. وسجل أيضاً مخططاً مشابهاً وقع بشأن القضية الفلسطينية، خصوصاً في الولايات المتحدة وإسرائيل.
يقول إدوارد عن هذا الشأن، "هناك بالفعل (الولايات المتحدة) ولا تزال في دولة إسرائيل منذ البداية في عام 1948، طبقة من المستشرقين؛ (المستعربين) كما يسمونهم، وكانت وظيفتهم العمل مع الحكومة على تهدئة السكان العرب الفلسطينيين المحليين والسيطرة عليهم وفهمهم والتحكم بهم. وهم موجودون في الضفة وغزة، هم أشخاص متخصصون في التاريخ والحضارة الإسلامية، يعملون مع حكومة الاحتلال العسكري كمستشارين".
يضرب مثالاً فيضيف، "إن (مناحم ميلسون) الذي كان مدير إدارة الضفة الغربية حتى عام 1983 هو في الحقيقة بروفيسور في الأدب العربي، لذلك هناك استمرار مباشر بين الاستشراق الكلاسيكي والإمبراطورية الغربية في العالم الإسلامي وفي أمكنة أخرى، وكذلك بين الاستشراق الإسرائيلي والإمبراطورية بالمناطق المحتلة. في الولايات المتحدة هناك ظاهرة مشابهة".
يوضح، "لديك كادر كامل مما يسمى بالخبراء في الوقت الحاضر، وأنا أسميهم (المستشرقين)؛ تكمن مهمتهم في أن يقدموا عبر خبرتهم بالعالم الإسلامي والعربي إلى وسائل الإعلام والحكومة، ما أسميه الاهتمام المعادي بالعالم العربي، هناك مجموعة كاملة من هؤلاء الناس يبلغ عددهم الثلاثين أو الأربعين يتم استنفارهم كلما كانت هناك أزمة؛ أزمة رهائن، أو خطف طائرة، أو مجزرة من ذلك النوع أو غيره. لإظهار الرابط الضروري بين الإسلام والثقافة العربية والشخصية العربية، بالنسبة إلى هؤلاء المستشرقين يتجلى دورهم في فهم وتفسير ثقافة الإسلام والعرب. وهي ثقافة يكسبون منها معيشتهم، ولا يتعاطفون معها، إنهم يتعاملون من موقف عدائي ومعارض، وهم بهذا عبارة عن موظفين ورهائن بالفعل لسياسة الحكومة الأميركية المعادية بعمق للقومية العربية والثقافة الإسلامية".
يتابع، "لقد ربط هؤلاء القوم خبرتهم العلمية بالإسلام إلى عَربة الأغراض الإمبراطورية للولايات المتحدة، ولديهم إمكانية الوصول إلى وسائل الإعلام الرئيسة، يستطيعون الكتابة في (نيويورك تايمز) و(ذا نيو ريبابليك) وغيرهما. وهناك في آخر الأمر تلك الإدانات الشاملة للعرب في مقالات وبيانات تكتبها مجموعة معادية ليس أمامها ما يعيقها، صحيح أن لدى الأشخاص الذين هم من أصحاب قناعة مشابهة لقناعتي أو قناعة تشومسكي أو غيره، إمكانية محدودة جداً للوصول إلى وسائل الإعلام هذه، لكنها لا تعادل أبداً تلك الإمكانية المتاحة لأولئك الآخرين الذين يستطيعون الاستفادة من مصادر (نيويورك) أو (سي بي إس) أو (بي بي إس) دون جهد يُذكر".
يرسم إدوارد سيناريوهات المسألة الفلسطينية في المدونة الصحافية والأكاديمية العالمية بعد مرور اثنين وأربعين عاماً من التناول والتحليل، (كان هذا في عام 1991) فيقول، "يبدو أنهم منقسمون إلى ثلاث فئات. هناك الكذابون الصريحون الذين يقولون إنه ليس هناك فلسطينيون، والقضية الفلسطينية لا وجود لها هكذا ببساطة. لقد غادروا في عام 1948 لأنهم أُمروا بذلك، أو أنهم لم يكونوا هناك فعلاً في الأصل، فقد جاءوا من دول عربية أخرى في عام 1946 ليغادروا عام 1948. هناك حكاية كاملة وراء هذا، بعبارة أخرى إنهم شتات من الناس الموجودين في الضفة الغربية وغزة، إنهم عرب من فلسطين ولكنهم ليسوا فلسطينيين هذا هو خط الليكود".
و"الخط الثاني يتبناه (المفكرون الطيبون)، إنهم يتبجحون ويهذرون ويستمرون في الحديث مطولاً حول جنوب أفريقيا والديمقراطية الليبرالية في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا والصين ونيكاراغوا. إنهم ديمقراطيون ليبراليون، ولكنهم لا يقولون أي شيء حول فلسطين إطلاقاً. إنهم لن يقولوا أي شيء. وهذا هو كل ما في الأمر".
"ثم هناك الفئة الثالثة، أولئك الذين يتحدثون عن فلسطين ولكنهم يمنحون إسرائيل استثناءً، إذا طرحت عليهم القضية وقلت حسناً، هناك كل هذا. بالإضافة إلى جنوب أفريقيا وفيتنام وغيرها هناك فلسطين، فيقولون، أجل هناك فلسطين. ولكن إسرائيل ليست مثل الطرف الآخر، عندها تصبح المسألة في الفئة الثالثة من هو المسؤول إن لم تكن إسرائيل؟! إن لم يكن هناك ظلم فظيع تقوم إسرائيل بإدامته بدعم من دولارات الضرائب الأميركية، فمن المسؤول؟ في النهاية يقولون إن الخطأ يقع على الفلسطينيين. إنهم مسؤولون والعرب الآخرون مسؤولون".
ثمة أمر لافت في تصريحات إدوارد هنا، فرغم أنه كان المتحدث باسم القضية الفلسطينية في الغرب، فإن "جنون العظمة" لم ينل منه. وبينما ألقت به قناعاته ومواقفه وآراؤه تحت وقع التهديد بالقتل، فإنه لم يُضبط متلبساً ذات يوم بالمزايدة لا بهذا ولا بذاك، بل قال ذات يوم، "لا أمثل أحداً، بل قمت بهذا على نحو شخصي". وفي موضع آخر روى، "أبذل قصارى جهدي لأحافظ على الجدل الدائر بشأن القضية"، وحينما سئل عن رد فعله ومخاوفه بشأن التهديدات المتكررة التي تواجهه قال عنها، "لا أفكر بالأمر كثيراً، فالخطر الذي يواجهه المواطن العادي الذي يقطن في (أبر ويست سايد)؛ حيث أعيش في مانهاتن، وهو يعبر الشارع يعادل الخطر الذي يواجهك حين يهددك متعصب مجنون يريد أن يطلق النار عليك".
يتابع، "أعتقد أنك لو أمعنت النظر في أي مشكلة من هذا النوع عندها فإن أسوأ شيء يمكن إنجازه هو تجريدك من قوتك. لقد اعتدت الأمر، لقد هددتني مجموعات عربية أيضاً؛ أنا على نصف دزينة من لوائح الموت في الشرق الأوسط، أعتقد أن الأمر الأساس هو أن يستمر المرء ويتذكر أن ما يقوله ويفعله يعني أكثر بكثير من كونه آمناً أم لا؟".
الاستشراق والسباحة ضد التيار
حتى عام 1970 لم تكن علاقة إدوارد سعيد بالثقافة العربية، لغة وأدباً، على ما يرام، فقد نسيها بعدما هجرها طويلاً، يَروي أنه في عام 1970 حصل على إجازة بهدف البحث والكتابة قضاها في بيروت، وصفها بأنها "في غاية الأهمية"، وأرجع ذلك إلى أنه قرر مراجعة اللغة العربية التي كان قد نسيها لإقصائه عنها فترة طويلة منذ دخوله نيويورك، فتردد على صديق قديم لوالده هو أنيس فريحة، الذي كان آنذاك بروفيسوراً متقاعداً في اللغات السامية بالجامعة الأميركية في بيروت، استمرت المراحل الأولى ثلاثة أشهر طوال أيام الأسبوع من السابعة صباحاً وإلى العاشرة.
بدأ دراسة العربية من الصفر على نحو مغاير للتعليم، إذ كان مدخله إليها من بوابة "علم اللغة المقارن"، فتعلم كل مبادئها بمنظور مقارن؛ (أي مع لغات أخرى إلى جانب العربية)، فقد كان فريحة يجيد اللغة العبرية والآرامية، وبعد ثلاثة أشهر بدأ بقراءة النصوص، حينها حدث ما لم يكن يتوقعه.
يقول إدوارد عن هذا، "أحد الأشياء التي أذهلتني، لأنني لم أكن أعرف عنها شيئاً، كانت عندما قرأت لنجيب محفوظ والغزالي وابن خلدون، قرأت لكل العظماء الكلاسيكيين من أمثال طه حسين وغيره، أدركت أن حتى فكرتي الشخصية عما كنا عليه، كانت تنم بشكل أساس عن جهل بالواقع الذي كان أكثر تعقيداً وإثارة مما ظننت".
وهو إحساس شغله كثيراً أثناء تقديم طرحه في كتابه "الاستشراق" عام 1978، الذي سيصنع فارقاً جوهرياً في الثقافة العالمية، إذ بعد هذه التجربة، "كنت أقول كيف تطرّق هؤلاء المستشرقون لهذا الموضوع، حتى إن أفضلهم وهو المستشرق البريطاني (هـ. جيب)، عامل الأدب كما لو كان مكتوباً بواسطة أموات، بدلاً من معاملته كعبارات حية صادرة عن بشر، وهذا ما كان حال معظمه في الحقيقة. حتى أكثر الأعمال كلاسيكية كشعراء العصر العباسي والغزالي وغيرهم. إذن فقد كان تقريباً محتوى كتاب الاستشراق، بالرغم من أنني لم أضع أي مراجع له، عدا إدراكي أن للمرء القدرة على الحديث عن التقاليد التي تقبع خارج النطاق الغربي بالاهتمامات ذاتها؛ الاهتمامات الوجودية والإنسانية التي كانت مهمة بالنسبة لي".
فكرة الإرث الثقافي للاستعمار استهوت إدوارد سعيد، فظل يبحث عن جذوره ورجع به الأمر إلى القرون الوسطى، بل وإشاراته في التراث اليوناني ووصفهم العرب بـ"البرابرة"، وكشف عن الصلة بين المعرفة الغربية عن الشرق والسلطة التي ترددت على لسان من أدى دور المستشرق في لعبة الاستعمار، وأفاد بأنه "إذا كنا (يقصد الدول الغربية التي سعت لتكوين الإمبراطوريات الاستعمارية) نريد حقاً السيطرة على دولة فيجب علينا فعل ذلك بالمعرفة؛ يجب أن نتعرف على السكان الأصليين، وأن تحيط بهم علماً لئلا نحدث اضطراباً أكثر من اللازم في نمط حياتهم فيثورون ضدنا. لندعهم يواصلون ما هم عليه".
وفي عام 1978 نشر إدوارد كتاب "الاستشراق" الذي ارتبط باسمه ارتباطاً وثيقاً بعدما اقتحم بالمعرفة قلاع إمبراطوريات السلطة المترامية الأطراف عبر التاريخ، وكشف زيف المرويات عن أهله الشرق الذي جاء من بينهم، ويكون ضميرهم الحي، ويرفع الستار أمام العالم عن زيف "الاستشراق" الذي أمسى في أذهان الكثيرين بعده كـ"حصان طروادة" الذي يسبق الغزو، بعد أن زلزل إدوارد كيانه المعرفي، وقدمه كجسر رئيس يمده المستعمر كاستراتيجية للسيطرة على عقول ضحاياه، من أهل الشرق وغيرهم، قبل أن يدوس بأقدامه أرضهم، عبر تحليل خطابه وهدم سطوته وسلطته معرفياً، لدرجة أن "أمسى مفهوم (الاستشراق)، بعدما قدمه إدوارد، ليس كما كان قبله"، وفقاً لتوصيف المؤرخ الأميركي وليام هارت، وإلى حد تحول وصف "مستشرق" من توصيف يجعل من صاحبه "بطلاً جاء لينقذ الشرق من مهاوي الغموض، والعزلة، والغرابة" إلى وصف يتوارى كي لا يوصم به.
ولعل معايشته كواليس وتفاصيل القضية الفلسطينية، وزاده المعرفي الذي تشبَّع به عبر أطروحة الاستشراق هذه، جعلاه يعلن حق الضحية في رفع صوتها لتكشف عن جريمة الجلاد، بعدما كشف آليات المستعمر من تصدير صور نمطية عن الشرق؛ استهدف بها غرس جذور دونية الأخير وتبعيته في طبقات الوعي، لتترسخ بداخلهم ذهنية الاستعباد وتمنحهم ميراثاً من المذلة، بينما ينتشي الغرب باستنزاف ثرواتهم بدم بارد، ويعلن أنهم بحاجة إلى مساعدته للارتقاء بهم إلى مصافي الحضارة، وهو المسؤول الرئيس عن جعلهم "ضحايا" على هذا النحو بالأساس.
انتقد إدوارد فكرة "إلقاء اللوم على الضحية"، ليكون صدى الضمير الإنساني للمهمشين والمشردين من أوطانهم، ويعزف منفرداً وسط جوقة من نخب العالم في وسائل الإعلام والأدب والسينما، آثرت ترسيخ فكرة التمييز والعرق عبر التلاعب بالتاريخ وتكرار متون الزيف على المسامع ليل نهار كادت تمسي حقائق نسفها في كتابه "الاستشراق"؛ ليصير بياناً يؤرق ضمير العالم في الربع الأخير من القرن العشرين، ويغير به مسار الأحداث، ويكون "البطل الملحمي الأخير الذي يدافع عن حق طروادة في اقتسام الرواية"، عبر إفساح المجال لصوت الآخر متمثلاً في "الضحية".