Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصيدة عباس بيضون خليط متجانس من افكار وانطباعات وصور

"الحداد لا يحمل تاجا" ديوان التكاوين اللغوية والفنية

غلاف الديوان (دار الساقي)

"يحقّ لنا (إن شئنا) تحليل أي قصيدة أن نستدخل كلّ ما يتيح لنا معرفته عن بنيانها، ولا سيّما ما نعرفه عن تاريخها التحويلي..."  هذا ما يقوله تشومسكي، في كتابه "لغة، موسيقى، شعر" (دار سوي).

وفي التوطئة التي قبستها من تشومسكي، أبي النظريات التحويلية في اللسانية الحديثة، في مستهلّ كلامي على مجموعة عباس بيضون الشعرية الجديدة "الحِداد لا يحمل تاجاً" الصادرة حديثاً عن دار الساقي (2019)، قصدت أن أعاود النظر في ما سبق لي أن تناولت في أبحاث أكاديمية لسبع سنوات خلت، ولأضيف إلى ما أعرفه عن إبداعية الشاعر بيضون ما بان لي من جديد، وما استجدّ في لغته الشعرية واستراتيجياته وتقنياته ووجهات نظره وموضوعاته. ذلك أنّ لغة الشاعر عباس بيضون الشعرية، وإن اتّسعت مجالاً على مدى الأربعين سنة الماضية، أي منذ أن بدأ الشاعر مسار تجربته الشعرية وإصدار أعماله تباعاً، من "الوقت بجرعات كبيرة"(1982) و"زوار الشتوة الأولى"(1985) و"نقد الألم"(1987) و"مدافن زجاجية " و"صيد الأمثال" وصولاً إلى "ميتافيزيق الثعلب و" ب ب ب" ، و"بطاقة لشخصين" و"صلاة لبداية الصقيع" وانتهاء بـ"الموت يأخذ مقاساتنا"، فإنها لا تني تتّجدد وتضع في طريقها تشعّبات وغصوناً وفروعاً، من جذع اللغة (الشعرية) الأوّل الممتدّ عبر الزمن، لم يكن لها وجود من قبل، إلى جانب استيلادها بعضاً من الصيَغ على هيئة سابقاتها في أعمال مضت.

 لكنّ التوطئة السالف إيرادها لا تعني البتّة أنّ شعر عباس بيضون، كما أيّ شاعر، يقتصر أثره على الأشكال التي يحدثها في نوعه، وههنا نوع أو جنس قصيدة النثر التي ما زال الحديث عنها جارياً في ظهراني النقّاد، وأنّ لا أثر للموضوعات الفكرية والفلسفية والإنسانية البحتة والماورائية في آن واحد.

التأمل في الموت

إنما الحاصل أنّ قصائد النثر، بعامة، وقصائد عباس بيضون بصورة خاصة تفيض بهذه الموضوعات حتى ليمكن القول إنها مجال للتأمل المستفيض في الموت والشعر والبقاء والعدم واستطاعة اللغة بل عجزها عن التقاط اللحظة وإيقاف عجلة الزمن، وقدَرها أي قدَر الشعر أن يكون شاهداً على حياة قائله ومن معه من صحبه وأحبابه وأخوته: لا يفرد الشاعر قصيدة أو بضع قصائد لموضوع معيّن، وإنما يسع القارىء أن يجد في تضاعيف ما أسمّيه  الحيّز التأمّلي الذي هو القصيدة خليطاً متجانساً من الأفكار والانطباعات والصور الحاملة الدلالات والأشكال المشبعة بمعانٍ.

وبناء على الملاحظة التكوينية التي كنت قد استخلصتها، بعد إنجاز قراءة القصائد على نحو معمّق، يمكن تصنيفها بحسب الإستراتيجيات البنائية التي تقوم عليها. فعلى سبيل المثل، يمكن تصنيف قصيدة "شامة" على أنها "قصيدة لوحة" ما دام أنّ الشاعر يعتمد فيها استراتيجية التكوين الفني الخاصة بالرسم التكعيبي أو التجريدي: إذ يستهلّ القصيدة بثلاث عبارات أو شبه جمل ("علبة في الغيم/ثقب في القمر/وشامة على خدّي") يمكن اعتبارها خطوطاً أولى أو عناصر أولية لديكور القصيدة العام، تتوالى بعدها بروابطها الانطباعية البعيدة إلى أن تتشكّل لوحة القصيدة الكاملة: "يمرّ الليل/يترك إبرته.../أسكن خنصرك.../ أسقط من بين رموشك". وقد يعين على ذلك التكوين تكرار ظرف المكان "حيث" خمس مرات مصحوباً بكائنات اللوحة المتوالدة ("حيث البرق...، حيث المطر...، حيث الصباح، وحيث أغنّي/ وأحمل الساعات إلى المقبرة / أسكن في ربلة ساق خائنة...).

وقد تكون بعض القصائد الأخرى نازلة في قالب تفسيري شبه مكتمل، إذ تُستهلّ القصيدة ("قبور الشعراء" ص:9-10) الأولى في المجموعة بمسلّمة ("أنا شبهُ أب")، يعمد إلى تعليلها في أسطر شعرية لاحقة هي بمثابة أفعال يقوم بها المتكلّم، عنيتُ الكائنُ الشاعر (أترك...، أُضيف...، أربطُ...، أضعُ...) ليدلّ بها على تبطّله وفراغ الكائنات التي بات ينتظرها، في تبطّله، من مرجعها، وعدم استحقاقها بالتالي أن تكون ذات وجود حيّ كفيل بأن يحيل الشعر عليه.

"لن يكون هناك عشب كاف للرسائل

لا ترابَ يكفي للقصائد" (ص:10)

ويستكمل الشاعر تعليله الذي استند فيه إلى هشاشة الكائنات وندرتها وحريتها العبثية من دونه، ليخلص إلى استنتاج مفاده:

"أنا شبهُ أب

لكنّي أيضاً شبهُ شاعر

بعتُ روحي... / بساعة طيران واحدة"

ولا يحتاج القارىء المتنبّه إلى من يحذّره من تأويل كلام الشاعر، ههنا، بأيسر السبل؛ فهو، أي مقول الشاعر، ولئن كان أقرب ما يكون إلى خطاب الذات السيري، فإنه شبه خطاب، ولعبٌ آخر يستدرجه إليه بعد أستنفاده ألعاباً كلامية أخرى.

البرهنة والتعليل

في القصيدة ذات العنوان "ليس صحيحاً" (ص:30-32) يستكمل الشاعر بيضون إستراتيجية البرهنة والتعليل التي سبقت الإشارة إليها، وذلك من أجل المضيّ في تهشيم المبادئ التي لطالما قامت عليها الرؤية التفاؤلية والرومنسية، والتي لطالما نهل منها الشعراء والكتّاب تصوّراتهم ونظرتهم إلى الحياة والكتابة وما وراء الحياة. ولسوف ألمحه، أنا القارىء، يكرر سبع مرات، في مدى ثلاث صفحات "ليس صحيحاً".

"ليس صحيحاً أنّ حياة كاملة /انقضت فوقه..."

"ليس صحيحاً أنّ القادمين من هناك/ أرباع الشّجر..."

"ليس صحيحاً أنّ الكلمة تحيي..."

"ليس صحيحاً أنّ ثمة شيئاً وراء الكهف..."

وبعد أن يبلغ الشاعر منتهاه في دحض الآراء المغلوطة بأمثلة مصوغة في صور شعرية مناسبة، يخلص إلى استنتاج هو الطرح العدمي النقيض الذي يؤثره من منظوره الفكريّ السابح فوق التيارات الفائتة والناقصة:

"الحقيقة ليست أكثر من جيب

إنها فقط مؤامرة على السّماء..."

وقد يكون الخطاب الموازي للشعر أو ماوراءه، ماثلاً في العديد من قصائد المجموعة الشعرية "الحداد لا يحمل تاجاً"، نظير ما أجده في قصيدة "الضريح"(ص:36-38) التي تتناسل فيها صوَر الحرب المستعادة من ذلك النسيج الأكبر، عنيتُ التصوّر الفكري والفنّي عن آونات الصراع المستحضرة في لغته الشعرية، صوراً شعرية ومشاهدَ وأوصافاً ومقاطع سردية وانطباعات كفيلة بأن تصنع من القصيدة لوحة شعرية:

"الحربُ التي عادت/ لم تبردْ بعد..."

"الحيطانُ شبحيّةٌ وبلا ظلال/ الضريحُ شاهقٌ لكن فارغ..."

"الكلاب تدور حوله..."

"لا نعرف في أي تاريخ ارتحلنا إلى هنا..."

"أو كان يسهل تصفيد الشهداء/ وإرسالهم مقيّدين إلى العاصمة..."

"امرأة تخرج من الضريح/ وعلى وجهها دمغة..."

لا يسعني، أنا القارىء المتتبّع كتابات الشاعر عباس بيضون، أن أتجنّب الالتفاتة إلى المشقّة التي يتكبّدها قارىء هذا النوع من الشعر لاكتشاف المفاتيح التي تتيح له الدخول إلى عوالم قصائده غير المستغلقة، ولكن ذوات الكوى والأبواب الواطئة والممرات الموسومة بإتقان بحيث لا تلحظها العين من أول مرة، قصدتُ بها: التكرارات، وأسماء العلم، والتوازنات والمتوازيات، ولعب الأضداد، وأنواع الالتفات، والصور الشعرية المفارقة أصلها، والترابطات المنطقية في سياقات عامة، وغيرها الكثير مما لا يني يتضاعف ويتكاثر في لغة الشاعر وما ينبغي التنبه له.

ولكنّ ثلاثة نماذج أو أكثر من مجموعة شعرية تضمّ أربعاً وثلاثين قصيدة لا يمكن لها أن تدلّ على مجمل النتاج الشعري الجديد، وإن هي إلا ملامح عامة التقطها القارىء بعد كدٍّ ولأيٍ. مع ذلك يمكن لفت القراء إلى أنّ ثمة دفقاً غنائياً غامراً في قصائد المجموعة ناجماً عن مكابدة الشاعر مسألة الموت ووشك النأي عن المحبوبة ("دقائق من نور" ص:53-61) وتمنّي قربهما وأن "يعاد زرعنا / في واد آخر".

كما يمكن الالتفات إلى ثيمة الألم الناجم عن الهويّة والذي يستخلصه الكائن (الشاعر) في ذروة شعوره بتذرّره وانكفائه إلى أعضاء جسمه الواهنة، وسرابيّته إزاء حقيقة الألم والرعد.

"إبكِ، يوجد ألم حقيقي

لا يُصنّع الألم لأنه نظيف...

الألمُ بأرخص طريقة" (ص:63)

"ستكون أحياناً جرذاً

وقد تحلم بك امرأة

هذا يحتاج إلى سحر

لكن الرعد وحده حقيقي...

الألم حقيقيّ..." (ص:64)

وماذا عسانا نقول في مسألة رثاء الذات التي شكّلت، برأيي، قاسم القصائد المشترك والرابط الدلالي الذي يجمع أغلبها في ظلاله القاتمة. وما القصيدة -النشيد التي خصّها الشاعر بأخته المتوفّاة (كثير عليّ- رسائل إلى نجلا) سوى دليل ساطع على ما نقول. ذروة في الغنائية الصارخة، وفي بكاء الأخوّة، متبوعين بشعور طاغ بالوحدة والوحشة اللتين يصنعهما الانقطاع المطلق عن الوجود إثر موت العزيز والحبيب.

"صوتكِ الذي تقطّع بعدما ابتعدتِ/ جعلني بصوتين..."

"ماذا غير الحفرة التي كانت في يوم أخاً وأبناً/ ماذا غير الصور التي تركها منتحرون..."

"حضرتُ ولادتكِ وفكّرتُ أني ولدتكِ..."

"وأنا الذي صدّقتُ أن لا شيءَ بعد/ سوى نقلة بين سريرين/ لم أعلمْ أني متُّكِ" (ص:102)

بالتأكيد، تحتاج قراءة المجموعة الشعرية الجديدة لعباس بيضون إلى المزيد من الإضاءة على مفاصلها وبنيانها وثيماتها المتصلة برؤية الشاعر، بمثل الإضاءة على لغته الشعرية النامية باطراد بيّن.


 

المزيد من ثقافة