ملخص
معاداة السامية إرث أوروبي روجت له نزعات كنسية قبل أن تدفع به النازية إلى أقصى درجات الوحشية
منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي وقت انفجار الحرب في قطاع غزة، راج من جديد مصطلح "معاداة للسامية"، والمقصود به العرب وغيرهم، ممن يتخذون مواقف سياسية تخص الأزمة المتفجرة، وتطال تلك التهمة عاملون في حقول الإعلام والسياسة وحقوق الإنسان، بل والدبلوماسية الأممية، وهي تقع تحت طائلة عقوبات دولية.
تبدو القصة ملتبسة، ما بين العداء للسامية، والموقف المخالف لإسرائيل أو لمرجعيتها العقائدية أي الصهيونية، وربما يحتاج بداية فك الاشتباك بين المفاهيم المختلفة، بقدر ما تسمح الأبحاث التاريخية، عن فكرة الأصل السامي، ومن ينتمي إليه، وهل الانتماء لغوي أم جيني، ثم بالرجوع إلى أضابير التاريخ، يمكن أن نقدم ردوداً عن موقف العالم العربي من اليهود، وهل عرف هؤلاء يوماً ما في خلال مسيرتهم الحياتية، أي شكل من أشكال "العداء للسامية"؟.
يقودنا المشهد إلى محاولة تقديم رؤية تاريخية كذلك عن فكرة العداء للسامية، أين وكيف ظهرت، والأسس التي قامت على أركانها هذه الفكرة التي باتت قوة طاردة في عالم السياسات الدولية، مع إلقاء الضوء على أنواع العداءات التي عاشها اليهود في أوروبا القرون الوسطى بنوع خاص، وهناك ولد هذا المصطلح الذي لا يمكن أن ينتسب إليه العالم العربي.
من أين يجب علينا البداية؟
الساميون من هم أول الأمر؟
يحتاج الجواب على هذا التساؤل إلى أبحاث معمقة، وقد كتب الأنثربولوجيون فيه كتب ومراجع، غير أنه باختصار غير مخل يمكن نسب الاسم إلى أكبر أبناء نبي الله نوح، عليه السلام، المسمى "سام"، الذي أخذ بركة خاصة من والده.
كان في تلك البركة أن عبادة الله الواحد الأحد، ستستمر في نسله، وهو الذي لم يكن له أولاد قبل حدوث الطوفان، لاحقاً ولد ابنه الأكبر المسمى "أرفكشاد"، حين كان عمره 100 سنة، بحسب ما جاء في سفر التكوين من التوراة، ثم رزقه الله بأولاد وبنات في السنوات الـ500 التي تلت ذلك حتى موته.
ظهر مصطلح السامية للمرة الأولى في القرن 18 الميلادي (1770)، من أعضاء مدرسة "غوتنغن" للتاريخ الذين اشتقوه من اسم "سام".
سكن سام ونسله من أولاده الخمسة في رقعة الأرض الممتدة من عيلام في غرب آسيا حتى شرق البحر الأبيض المتوسط، ومن نسل سام جاء العرب والآراميون والأشورويون واليهود، ولهذا السبب تدعى اللغات التي يتحدثون بها، اللغات السامية نسبة إليه، وفي مقدمها العربية والعبرية.
والثابت أن المشتغلين في علم الآثار يستخدمون مصطلح "السامية"، بشكل غير رسمي ليشيروا إلى نوع من الروابط التي جمعت الشعوب القديمة المتحدثة باللغات السامية.
كما يتضح وفقاً للمكتشفات الأثرية في مصر والعراق، أن الساميين هم أقدم الشعوب المعروفة على أرض فلسطين التاريخية، فمنذ الألف الرابع قبل الميلاد، كانوا يعيشون على شاطئ البحر المتوسط الشرقي.
ويذهب نفر آخر من علماء الإنسانيات، إلى أن سكان فلسطين الأصليين القدماء كانوا كلهم عرباً، وهاجروا من جزيرة العرب إثر الجفاف الذي حلَّ بها في حقب زمنية بعيدة، فعاشوا في وطنهم الجديد "أرض كنعان"، ما يزيد على الألفي عام قبل ظهور نبي الله موسى.
ولأن المساحة التاريخية من عند الطوفان ونجاة نوح وأبنائه، ومنهم "سام" الابن الأكبر، واسعة وشاسعة، ممتدة وضاربة في القدم، فإن الحقائق المطلقة في هذا السياق، تبقى مشوبة بنوع من أنواع الضباب، إلا ما وصل لنا من خلال الكتب السماوية، التي يذهب كل صاحب ملة أو نحلة إلى تفسيرها بحسب ما يروق له، ومن هنا تبقى في بعض الأحايين، تفسيرات مختلفة لقصة تاريخية واحدة، وهو شأن طبيعي في مسيرة الإنسانية.
هنا يعن لنا التساؤل: إذا كان هذا هو المنظور الجامع للشعوب السامية، أي وحدة الأصل البشري، فمن أين جاء مصطلح "معاداة السامية"، وهل نشأ شرق أوسطياً، أم إن سياقات تاريخية بعينها، هي من أطلقت هذه النغمة العنصرية ضد اليهود في العالم، وعلى قطاعات جغرافية بعيدة من العالم العربي مرة واحدة؟
ظهور مصطلح "معاداة السامية"
يربط كثيرون بين مصطلح "معاداة السامية" وما تعرض له يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، من اضطهاد بشع لا تقبله أي نفس بشرية سوية، لا سيما ما جرى في صورة المحارق أو "الهولوكوست".
غير أن واقع الحال يخبرنا أن اليهود في أوروبا قد عانوا من أشكال الاضطهاد هذا، قبل ذلك بقرون طويلة، مثل مجازر "راين لاند" التي سبقت الحملة الصليبية الأولى عام 1096، وعرفوا مرسوم الطرد من إنجلترا عام 1290 ثم شهد تاريخهم مذابح اليهود الإسبان عام 1391، ولا يمكن للمرء أن ينسى ملاحقات محاكم التفتيش الإسبانية وطرد المسلمين واليهود من الأندلس عام 1492.
ويمكن للباحث في ظاهرة كراهية اليهود في جهة أوروبا الشرقية، أن يرصد كذلك مجازر القوزاق في أوكرانيا في الفترة الممتدة من عام 1648 إلى 1657، وهناك كذلك مذابح اليهود العديدة في الإمبراطورية الروسية بين عامي 1821، و1906.
ولعل الرجوع إلى أوائل القرن 20، يضعنا أمام صورة ممجوجة لكراهية اليهود في أوروبا، تمثلت في قصة الضابط الفرنسي اليهودي "دريفوس"، الذي اتهم ظلماً بالتجسس لصالح الألمان وقضى نحو 20 سنة في السجن ظلماً.
لم يظهر تعبير "معاداة السامية"، بشكل واضح إلا في عام 1860 من قبل المفكر النمسوي اليهودي "اشتينشنيدر"، وقد بقي غير متداول حتى سنة 1873، حيث استعمله الصحافي الألماني "ويلهلم مار"، في كتيب عنوانه "انتصار اليهودية على الألمانية"، احتجاجاً على تنامي قوة اليهود في الغرب واصفاً إياهم بأشخاص بلا مبدأ أو أصل، وفي سنة 1879 أسس ما عرف بـ"رابطة المعادين للسامية".
ومع الوصول إلى نشوء وارتقاء الحزب النازي في ألمانيا، وفي أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية، بدا واضحاً أن هناك تقسيمات وتصنيفات عرقية عنصرية، من قبيل القول برفعة الشعب الآري، تسري في العروق الألمانية بنوع خاص، ومن هناك بدأت واحدة من أكثر علامات المعاداة الأوروبية للسامية، مما تشهد به محارق أوشفيتز وسجونها وغيرها من المدن الألمانية التي كانت شاهداً على ما جرى ليهود أوروبا في تلك الفترة الحزينة من تاريخ الإنسانية.
مع تولي الحزب النازي السلطة عام 1933، أمر الحزب بالمقاطعة المعادية لليهود، وبحرق الكتب المقدسة الخاصة بهم، كما أنه قام بتشريع القوانين المعادية لليهود، وفي عام 1935 حددت قوانين "نورمبرغ" اليهود بحسب دمهم، وصدر الأمر بالفصل الكلي بين "الآري" و"غير الآري"، مقننين من ثم التفاضل العنصري.
في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1938، دمر النازيون المعابد اليهود ونوافذ متاجرهم، في كل أنحاء ألمانيا والنمسا، وكان هذا الحدث هو بداية عهد الدمار، الذي أصبحت فيه الإبادة الجماعية هي شغل النازية الشاغل.
والسؤال الطبيعي هنا: هل كان هناك جذر لمسيحيي أوروبا الغربية، وليس مسيحيي الشرق العربي، في تأصيل معاداة السامية، على هذا النحو الذي تفشى في القرون الوسطى، وصولاً إلى منتصف القرن 20؟
المسيحيون وجذور معاداة السامية
هل كان العرب والمسلمون هم الجذر الرئيس في معاداة السامية يوماً ما أم إن أصل المأساة يمكن إرجاعه إلى بعض النصوص المسيحية، التي فهمها المسيحيون الأوائل في الغرب، بصورة عنصرية مخيفة، أفرزت كل آلام معاداة السامية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؟
تتمحور الإشكالية حول نصوص إنجيلية تلقي بتبعة "صلب المسيح" بحسب المفهوم الإيماني المسيحي على اليهود، بل إن هناك نصاً بذاته جرت به المقادير خلال مسيرة الآلام، صاح فيه اليهود أمام بيلاطس الحاكم الروماني في ذلك الوقت بالقول: "اصلبه... اصلبه... دمه علينا وعلى أولادنا".
من هذا المنطلق اعتبر مسيحيو العالم الغربي أن اليهود هم قتلة المسيح، وأن أولادهم ينبغي عليهم أن يدفعوا الثمن الباهظ جراء هذه الجريمة الشنعاء.
الذين لهم علم بتاريخ الأديان في أوروبا القرون الوسطى، يدركون بعضاً من أبعاد المآسي التي كانت تحدث لليهود في ذلك الوقت، فعلى سبيل المثال لا الحصر، جرت العادة في كل يوم "جمعة عظيمة"، التي فيها تذكار صلب المسيح، أن يقف يهودي في كل مدينة وقرية أوروبية، أمام باب الكنيسة، وأن يلطمه كل مسيحي خارج من الصلاة، كنوع من الانتقام الرمزي، مما فعله اليهود في مثل ذلك اليوم بالمسيح.
ولعل العلاقة السيئة للغاية تمثلت في مطاردة محاكم التفتيش في إسبانيا ليهود أوروبا عامة، ووصل الأمر في عام 1492، أن صمم يهود تلك البلاد على الهرب عبر البحر الأبيض المتوسط إلى الجانب الآخر، حيث تقع الدول العربية الإسلامية، وقد اعتقد هؤلاء أن معجزة جديدة، مثل معجزة نبي الله موسى، ستحدث، وأن البحر سينشق نصفين، غير أنه من أسف شديد، تعرض جميع هؤلاء للغرق، ومن بقي منهم في أوروبا أجبر على اعتناق المسيحية، ولو ظاهرياً، مما أفرز ظاهرة تعرف في التاريخ الأوروبي باسم "يهود المارانوس"، أي المؤمنين بالمسيحية ظاهرياً، وهم في عمق أعماق قلوبهم يهود أقحاح.
حاولت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لاحقاً، ومن خلال ما عرف باسم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965) التخلص من هذا العبء، وقد جرى ذلك باقتراح من الكاردينال الألماني "بيا"، الذي تحوم من حوله الشكوك حول انتمائه لجماعات ماسونية، وأخرى خارج سياق المفهوم الكاثوليكي، الذي قُدر له المساهمة في خروج وثيقة "حاضرات أيامنا" إلى النور، تلك الوثيقة التي رفعت أثر الجرم المشهود عن الأجيال اليهودية المعاصرة، وقد بدا الأمر أنه نوع من أنواع التعويض، من جانب أكبر مؤسسة مسيحية في العالم، في مقابل معاداة السامية التي ناصرتها الكنيسة في القرون الوسطى.
تعاطي المسيحيين الغربيين مع اليهود عبر الأجيال الماضية، يستدعي طرح علامة استفهام عن حال ومآل يهود العالم العربي، وهل عرفت معاداة السامية طريقها إليهم في يوم من الأيام، أم إنهم اعتبروا مواطنين عرباً لهم كامل الحقوق، إلا ما ندر من استثناءات في ظروف تعد طارئة؟
يهود من اليمن إلى مصر والمغرب
يحتاج الحديث عن يهود العالم العربي إلى قراءة مستقلة قائمة بذاتها، ذلك أن صفحات تلك العلاقة، تنفي عن العرب، أي علاقة بمعاداة السامية، هذا المفهوم الذي اصطك أوروبياً، وبقي كذلك لمئات السنين.
يختلف المؤرخون حول جذور يهود اليمن، وهناك من يرجع وجودهم إلى زمن الملك البابلي نبوخذ نصر، الذي سبى اليهود إلى بابل، وأرسل قسماً منهم إلى اليمن، غير أن هؤلاء طاب لهم المقام لاحقاً، ولهذا لم يفكروا في الرجوع بعد العودة من السبي البابلي في زمن قورش ملك فارس.
بعد انسحاب الأتراك عام 1918 من اليمن تولى الحكم الإمام يحيى الذي منح اليهود مزايا كثيرة ولم يفرض عليهم ضرائب وبحث بنفسه كل شكوى قدمها أي مواطن يهودي.
مارس اليهود طقوسهم الدينية بحرية تامة، وأقاموا دور عبادة في أماكن وجودهم، فقد كان في صنعاء عام 1930 نحو 39 معبداً يهودياً مقابل 48 مسجداً.
كانت حياتهم مشابهة تماماً لحياة باقي السكان العرب، وربما في بعض الأحيان أفضل لمهارتهم في أعمال التجارة.
وحال عبورنا البحر الأحمر إلى مصر، نجد قصة طويلة من الوجود اليهودي هناك، جرت عبر بضعة آلاف من السنين، فقد عاد كثيرون منهم إلى مصر بعد الخروج الكبير في زمن موسى النبي، لا سيما في زمن البطالمة، ثم الرومان، وصولاً إلى الفتح العربي لمصر.
ولعل تاريخ يهود مصر مميز بما قدر لهم من مساهمات في الحياة الحضرية المصرية، وقد قدرت بعض الدراسات الإحصائية عددهم وقت قيام دولة إسرائيل بنحو 80 ألف يهودي.
يمكن للسائح وسط القاهرة، وعدد كبير من المدن المصرية، أن يرى بأم عينيه، جمال المعابد اليهودية، في أهم النقاط الجغرافية المصرية، مما يعني حرية العبادة التي كان هؤلاء يتمتعون بها.
عطفاً على ذلك، فإن القارئ لتاريخ مصر في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 يدرك عمق مساهمة اليهود في الحياة السياسية، فقد وصل بعضهم إلى مرتبة الوزراء، إضافة إلى الدور الاقتصادي الذي لعبوه، ناهيك بالمساهمات في الحياة الفنية والثقافية.
وبالوصول إلى المغرب العربي، نجد أقرب نقطة تاريخية لجأ إليها يهود أوروبا في القرن 15 و16 هرباً من الاضطهاد الديني في أوروبا، وتحفل صفحات كتاب "ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب"، لمؤلفه المؤرخ اليهودي المغربي "حاييم الزعفراني"، بشهادات غير مسبوقة عن التعايش مع اليهود، والواقع المغربي اليوم، شاهد على سردية واسعة من التسامح والتصالح الواقعي، وحتى قبل ظهور مصطلح التطبيع السياسي.
ما الهدف من هذه الجزئية؟ بلا شك القطع بأن عيش اليهود في العالم العربي، لم يشبه عيش "يهود الغيتو" في أوروبا، ومن هنا يمكن القطع بأن تهمة العداء للسامية لا يمكنها أن تنسحب على العالم العربي وسكانه من المسيحيين أو المسلمين.
لكن هل يعني ذلك أنه لم تكن هناك في أوقات بعينها مظالم ومضايقات تعرض لها بعض من يهود العالم العربي، سواء في القرون الوسطى، وصولاً لحاضرات أيامنا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مظالم ومضايقات ليهود عرب
يعن لنا أن نختار بعض المشاهد من قلب العالم العربي قديمه وحديثه، وفيها بات جلياً أنه كانت هناك بعض المضايقات والمظالم لليهود في عدد من البقاع والأصقاع العربية، وقد وصل بعضها مع الأسف حد سفك الأرواح.
خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر، ما جرت به المقادير في عهد الخليفة الفاطمي، الحاكم بأمر الله (996- 1020)، الذي طبق على اليهود مثلما على النصارى في مصر، العهدة العمرية، مجبراً إياهم على ارتداء أجراس وأن يحملوا صورة خشبية للعجل الذهبي (فتنة السامري)، في الأماكن العامة، كما حدد إقامتهم في أحد شوارع مدينة القاهرة القديمة (حارة اليهود)، وقد بلغ به الشطط أنه حين سمع بسخريتهم منه، وقد كان غريب الطباع، أن أمر بحرق حيهم بالكامل .
أما في عهد المماليك، ورغم مشاركتهم في بعض الأحيان في صيانة المعدات العسكرية، فإنهم تعرضوا لمضايقات من قبل قضاة وعلماء مسلمين في تلك الفترة، ويذكر المؤرخ المقريزي أن سلطان مصر الظاهر بيبرس (1260- 1277)، ضاعف ضريبة أهل الذمة.
وبالوصول إلى مصر الحديثة، بدت أزمنة ما بعد ثورة 1952، حاملة كراهية لليهود المصريين، وقد حرقت بعض محلاتهم، وتم تأميم كثير منها، مما جعل غالبيتهم يغادرون ويتركون من ورائهم حقوق وممتلكات.
لم يتعرض يهود مصر للقتل، على العكس من يهود العراق الذين يعرف التاريخ مأساتهم المعروفة باسم "مذبحة الفرهود"، في الأول من يناير (كانون الثاني) 1941، حيث تعرض يهود بغداد لمذبحة عنصرية أودت بـ175 شخصاً، وجُرح فيها أكثر من 100، ودُمر نحو 900 منزل.
تصف الكاتبة خيرية قاسمية، في كتابها الشهير "يهود البلاد العربية"، أن "مذبحة الفرهود"، كانت "المذبحة المنسية للمحرقة" لا سيما أنها جرت في توقيت مواكب لهولوكوست هتلر.
وفي سبتمبر (أيلول) من نفس العام، بدأت حملة تفتيش واعتقال جديدة، وشرع رجال الشرطة بتعقب أفراد منظمتي الرواد والهاغاناه اليهوديتين السريتين، وجرى اعتقال كثيرين منهم وتعذيبهم، وعاشت الطائفة اليهودية في رعب مما أجبر معظمهم على مغادرة العراق إلى إسرائيل.
لم يكن يهود السودان أكثر حظاً، لا سيما بعد ثورة النميري، فقد أُجبر كثيرون منهم على مغادرة الخرطوم وبقية مدن البلاد الكبرى، وخلفوا وراءهم غالبية ما امتلكوه، وزادت المأساة بعد وصول البشير إلى الحكم .
ولعل آخر العلامات في هذا السياق، ما جرى في جزيرة "جربة "التونسية في مايو (أيار) الماضي، حين حدث هجوم بالقرب من معبد يهودي، أسفر عن قتل رجلي أمن واثنين من الزوار .
والمعروف أن موسم الزيارة السنوية لمعبد "الغريبة"، يرتاده كل عام المئات من يهود أوروبا، لا سيما ذوي الأصول العربية، وقد تعرض عام 2002 لهجوم بشاحنة من قبل أحد منتسبي "القاعدة"، مما أسفر عن مقتل 21 سائحاً غربياً وقتها.. هل من خلاصة؟
نعم لم يتعرض يهود العالم العربي لإبادة كما حدث لهم في أوروبا، لكن حياة كثيرين منهم، لم تكن صفاء زلالاً أو سخاء رخاء.
أسس الاتهام بمعاداة السامية
ما الأسس التي على قاعدتها يعتبر هذا الفعل أو ذاك ضرباً واضحاً صريحاً من ضروب معاداة السامية؟
يقدم لنا مكتب الشؤون العامة لوزارة الخارجية الأميركية عدداً من الأمثلة على معاداة السامية، بحسب المفهوم "الأميركي العصراني"، ومنها: "الدعوة إلى قتل أو إيذاء اليهود أو المساعدة في تبريره، وهو أمر يحدث غالباً باسم أيديولوجية راديكالية سلبية أو وجهات دينية ذات ملامح ومعالم أصولية".
ويعتبر كذلك من قبيل معاداة السامية، "إطلاق ادعاءات كاذبة أو مجردة من الإنسانية أو شيطنة أو نمطية عن اليهود أو الحديث عن قوة اليهود كجماعة أو سرديات تشيع حديثاً عن مؤامرات يهودية عالمية، ومن قبيل ذلك القول عن سيطرة اليهود الخفية على وسائل الإعلام في الغرب، أو على دوائر الاقتصاد".
ويبقى أيضاً من قبيل معاداة السامية، اتهام اليهود بالمسؤولية عن مخالفات حقيقية أو متخيلة ارتكبها أشخاص أو جماعة يهودية واحدة، أو دولة إسرائيل.
ويمكن كذلك اعتبار اتهام المواطنين اليهود بأنهم أكثر ولاء لإسرائيل أو للأولويات المزعومة لليهود في جميع أنحاء العالم، من ولائهم لمصالح لدولهم.
اختلاط المفاهيم
من المؤكد أن هناك خلط متعمد بين مفهومي معاداة السامية والصهيونية. ولا شك ان الأدبيات السياسية العربية، بمجملها، حرصت على التفريق بين اليهودية كديانة سماوية، والصهيونية كحركة أيديولوجيةـ وتاليا إسرائيل. على الرغم من أن هناك يهوداً ينتقدون سياسات الحكومة الإسرائيلية، مثل احتلال الضفة الغربية، وبناء المستوطنات، ومسار الجدار العازل، هؤلاء بديهياً لا يمكن بحال من الأحوال أن يتم اتهامهم بأنهم معادون للسامية.
هل باتت تهمة معاداة السامية تستخدم كسلاح، وبنوع خاص، في مواجهة العرب الساميين أصلاً؟
الجديد في هذا السياق هو ابتكار مفهوم جديد يسمى "العداء الجديد للسامية".
هذا المفهوم يعتبره الإسرائيليون تطوراً جديداً لشكل معاداة السامية القديمة، وقد طفا على سطح الأحداث في أواخر القرن 20 وأوائل القرن 21، وعند المتحدثين عنه أنه عادة ما تميل معاداة السامية الجديدة إلى إظهار نفسها على أنها متعارضة مع الصهيونية، ومن هنا يمكنها توجيه اتهامات للحكومات الإسرائيلية.
وقد عالج هذه المقولة المفكر اليهودي "كلود مونتفيوري" في بداية القرن 20، في نقده مسألة خلق الولاء المزدوج لليهود، ولكن الأمر يتجاوز ذلك، إذ جرى العمل على تكريس اعتقاد يقول بأن العداء للسامية مرض أبدي ابتليت به الشعوب التي يعيش اليهود بين ظهرانيها.
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد نما خلال العقود الأخيرة، تيار المصالحة مع إسرائيل من جانب العالم العربي، انطلاقا من أن إحقاق الحقوق الفلسطينية، يفتح الطريق لمزيد من الرؤى السلمية، وبداية بلورة مراحل جديدة من العلاقات الطبيعية على كل الصعد، وهذا بحد ذاته يعطي يقيناً بأن العرب منزهون عن فكرة معاداة السامية.
إذن، فإن المفاهيم التي كانت سائدة في أوروبا القرون الوسطى لا يمكن لها أن تمضي قدما، وبالقدر نفسه فإن محاصرة العالم بأفكار المعاداة للسامية، بات يستحق الكثير من المساءلات حول حقيقته وغاياته وجدواه.