Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ألغام اليمن والسباق بين الموت والحياة

مدير مشروع "مسام" أسامة القصيبي يروي لـ"اندبندنت عربية" وقائع الحيل الحوثية في تلغيم المدارس والمزارع والتضاريس المختلفة بكميات هي الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية

تعددت مآسي اليمنيين غير أن أشدها بشاعة تلك المتدثرة بتربة بلدهم التي وصفت قديماً بالأرض السعيدة لخضرتها ومنتجها الوفير، قبل أن تحيلها آلة الحرب الحوثية إلى حقول موحشة بذرتها بمئات الآلاف من الألغام والعبوات الناسفة التي تستهدف المدنيين في المقام الأول.

في هذا الحوار يكشف مدير المشروع السعودي "مسام" لنزع الألغام، أسامة القصيبي، النهج الحوثي غير المسبوق في نشر العبوات الناسفة التي تجاوزت العقل ونوازع الخصومة، وتفوقت عن المألوف عالمياً من ناحية العدد، وكذلك وسائل الإيغال المبتكرة في القتل، تارة بالخدع والتمويه والإخفاء، وطريقة دسها في أكناف مزارع ومنازل ومدارس المدنيين بإمعان شديد تارة أخرى، بدليل بعد غالب المناطق المفخخة عن جبهات الاشتباك والنزاع.

تربة اليمن المطمورة بمتفجرات الموت، قتلت حتى اليوم، نحو 10 آلاف ضحية مدنية وجرح وبتر أطراف آلاف آخرين في مختلف محافظات البلاد، وفقاً للمركز الوطني للألغام (حكومي) معظمهم يعانون ظروفاً إنسانية صعبة، بدءاً من صعدة مروراً بعمران وصنعاء وذمار وريمة (شمال) من ثم تعز وإب (شمال غرب) فالجوف ومأرب وشبوة (شرق) والحديدة وحجة (غرب)، وصولاً إلى عدن والبيضاء والضالع وأبين (جنوب)، كأثر باق يؤكد أن الميليشيات المدعومة من إيران مرت من هنا.

أسى محفوظ

في مقر "مسام" وسط العاصمة السعودية الرياض، استقبلنا القصيبي في مكتبه المزين بدروع وشهادات توثق أثر فريقه وعطائهم الدؤوب في غير جبهة وميدان.

ناقشناه حول الجهود التي يبذلونها بشكل غير ربحي ونجاحهم في تطهير ما يزيد عن 53 مليون متر مربع من الأراضي اليمنية حتى الآن، وآخر ما توصل إليه عملهم الإنساني الذي خلص اليمن من آلاف العبوات الآيلة للانفجار.

كانت ملامح الأسى والحزن تملأ تقاسيم وجه الرجل الذي يجتر تنهيدات الواقع الصعب في البلد الجار بعد أن هب وفريقه المثابر لنجدة أهله بعنفوان إنساني مغامر، ثم لا يخفي استغرابه وامتعاضه إزاء كل هذا الإصرار في تفخيخ اليمنيين من بين أيديهم ومن تحتهم.

طاف الرجل محافظات اليمن مدشناً المشروع الذي انطلق في فبراير (شباط) 2018، بتكليف من القيادة السعودية لتخليصه من آفة الألغام وتقليل عدد المصابين، ورأى بارتياع لا يزال محفوظاً تحت جفنيه، كيف دس الحوثيون بعناية وصفها بـ"الخبث" مئات الآلاف من العبوات المتفجرة مكان سنابل القمح والبن والبرتقال، والأنكى تمويه مفخخات القتل على هيئة ألعاب تستهدف الصغار الحالمين بالعودة المطمئنة للديار المهجورة، في سابقة لم يعهدها تاريخ النزاع في العالم.

فتسبب كل هذا الكم المهول بقتل المئات من الأطفال والنساء الفقراء والرجال عابري السبيل بحثاً عن فرص أخرى للحياة في مهن الرعي والزراعة وصيد الأسماك، في حين بترت أطراف من حسن حظه منهم، كما لم تسلم منهم المواشي التي سجلت الإحصاءات أرقاماً مخيفة في شأنها.

تفوق الحرب العالمية

في حديثه يصف القصيبي مشكلة الألغام في اليمن بالقديمة و"لكن بوجود الحوثي تفاقمت وتحولت إلى أكبر أرض زرعت فيها العبوات منذ الحرب العالمية الثانية".

يقول إن الحوثي لم يترك منقطة إلا وزرعها، سواء مزارع أو بنى تحتية أو مناطق رعي أو مدارس وشواطئ ولا ينسحب من منطقة إلا بعد زراعتها بالألغام والعبوات الناسفة.

في محاولة لجمع شتات هذا القدر الكبير، يشير إلى أن تلك "الكثافة مهولة جداً وبمقارنتها بما جرى في بلدان أخرى في العالم نجد أنها تفوقت كثيراً". وأجرى مقارنة بالاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان "فبعد أن انسحبت وطردت من لبنان سلمت خرائط العبوات الناسفة التي زرعتها لقوات الطوارئ الدولية يونيفيل وبعد 20 سنة احتلالاً اعترفوا بوجود 388 عبوة ناسفة تم زراعتها".

يضيف "عندما نقارن 388 عبوة بعد 20 سنة احتلالاً فلا مجال للمقارنة"، خصوصاً والحديث هنا "عن (مسام) فقط فهناك سلاح المهندسين اليمنيين والجيش وقوات التحالف ومنظمات أخرى".

للتدليل على الكم الهائل الذي ملأت به البلاد، يوضح أن "مسام" وحده فقط أزال خلال خمس سنوات ونصف السنة في اليمن أكثر من 8 آلاف عبوة ناسفة. وهنا يعود إلى المقارنة بين الـ388 عبوة خلال 20 سنة احتلالاً إسرائيلياً، و8 آلاف عبوة ناسفة زرعتها ميليشيات الحوثي لإدراك الحجم الضخم لعبوات القتل المنتشرة في معظم المناطق اليمنية.

ألعاب الموت

يكشف القصيبي عن إشكالية أخرى تتضمن عمليات التمويه، إذ تتشكل الألغام كأحجار مخبأة تحت الرمال، وألعاب تترصد ضحاياها الصغار.

بمقارنة أيضاً، يشير إلى أن الألغام المزروعة في مناطق النزاع في الخارج معروفة الشكل والاستخدام ولكن في اليمن تدس ألغاماً على هيئة ألعاب للأطفال، والصخور تحمل في جوفها القتل، وتحول الحياة إلى لعبة مرعبة لا يعرف فيها أطفال اليمن النصر من الهزيمة.

ويؤكد أن الحوثي ومن يدعمه يمارسون "الخبث المستخدم في العبوات الناسفة ونفس الحال في ما يخص الألغام".
 


عبوات الدبابات تفجر الأطفال

في إشارة إلى أنواع العبوات التي تنقسم لنوعين مضاد للأفراد وآخر للمعدات، أشار إلى أن اليمن موقعة على معاهدة "أوتوا" لحظر استخدام الألغام الفردية "ولكن الحوثي تمادى أكثر بأن أخذ الألغام المضادة للمعدات واستخدم دواسة كهربائية وحول الضغط اللازم لتفجير هذا اللغم لنفس الضغط الخاص بتفجير الألغام الفردية".

بمعنى تحويل "لغم المعدة الذي يحتاج إلى 150 كيلوغراماً فما فوق لينفجر، فبواسطة الدواسة الكهربائية نزل الضغط اللازم للانفجار إلى 10 كيلوغرامات فقط".

يضيف "لك أن تتخيل نتيجة انفجار هذا اللغم بشخص صنع أساساً لإبطال معدة عسكرية، لن يبقى شيء من هذا الشخص وسيتحول أشلاء".

وأردف أن الألغام زرعت داخل فصول المدارس وآبار المياه ومناطق الرعي والزراعة والسواحل


.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتساءل من المستهدف بهذه الألغام؟ وفي إجابته المستنكرة يشير إلى أن المناطق المزروعة "بعيدة من جبهات القتال ولا يوجد فيها سوى الأهالي وبخاصة الأطفال والنساء والرجال الرعاة والصيادين".

عن منهجية عملهم، يؤكد القصيبي أن "مسام" حرص على العمل بخطة طارئة تستهدف المناطق العالية التأثير في الأهالي.

وقال "ساعدنا كثيراً من السكان والأهالي النازحين على الرجوع إلى قراهم بعد تطهيرها، وساعدنا كثيراً من المزارعين على الرجوع إلى مناطق الرعي والصيادين على ممارسة مهنتهم".

ولهذا فهدف "(مسام) تقليل عدد الإصابات وضحايا الألغام والعبوات بأسرع وقت ممكن وبأكثر وسيلة آمنة لفرق (مسام) على الأرض".

سباق بين الموت والحياة

في قراءة لطبيعة المهام المنتظرة من هذا المشروع الطويل والشاق والخطر، يقول نحن اليوم في صراع مع الحوثي فهو لم يلتزم اتفاقية ستوكهولم بتسليم خريطة الألغام.

يتابع "نحن نعرف أن هناك كميات هائلة وهنا نعني الحقول الكبيرة لأن الزراعة العشوائية المحدودة قد لا توجد لها خرائط، ولكن الحقول الواسعة التي عملنا عليها في شبوة والساحل الغربي والجوف لا بد أن لها خرائط".

يتساءل: هل التزم الحوثي اتفاقية ستوكهولم؟ يجيب بأن "أي طرف نفى تسلمه خرائط الألغام المزروعة".

واتفاقية ستوكهولم 2018 هي اتفاقية بين الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وجماعة الحوثي، توصل إليها عقب مفاوضات جرت في ستوكهولم في السويد تحت رعاية الأمم المتحدة.

عن الهدف من نشر كل هذا الكم، يوضح أن "استخدام الألغام في المناطق السكنية هو نهج أول من استخدمه (داعش) في بداياته، ولكي يحكم المنطقة وسكانها يحكمهم بخوف ويحكم حركتهم ودخولهم وخروجهم، وهذا ما صار في اليمن".

يستدل بمناطق شكلت شرياناً حيوياً ومهماً للحوثي واستمات للسيطرة عليها، إذ "عملنا في بيحان وعسيلان لمدة ثلاث سنوات متواصلة حتى أوشكنا لإعلانهما منطقتين خاليتين من الألغام، ثم عاد الحوثي وسيطر عليهما مرة ثانية، وعقب طرده منهما، دخلنا مرة ثانية ولكن الألغام التي أزلناها في الأشهر الثلاثة الأولى من عملنا في بيحان وعسيلان وحريب (شرق اليمن) كانت أكثر من تلك التي أزلناها في السنوات الثلاث السابقة، حتى إن الألغام المستخرجة كانت جديدة وأكبر حجماً من سابقاتها في المناطق نفسها".

حتى المدارس لم تسلم

 يتطرق مدير "مسام" للإصرار الحوثي المستميت على تفخيخ كل فضاءات الحياة بعيداً من الأهداف العسكرية التي يمكن تفهمها في حالات النزاع المسلح، وكل مكان قد يحمل في طياته الموت والدمار الحقول والمزارع والمدارس والمستشفيات والأحياء السكنية كلها أماكن محتملة لوجود الألغام التي تنتظر ضحاياها.

يؤكد أن في "بعض المناطق لا يمكن للأهالي التحرك داخل القرى، ولا الوصول إلى مستشفى أو مصدر رزق والهدف من كل ذلك ليس عسكرياً".

يضيف "سنقدر إن كان هناك نزاع مسلح وأنك تضع ألغاماً على خطوط التماس لجيش مقابل جيش، ولكن ما الفائدة المرجوة من زراعة الألغام في مناطق مدنية وليس في هذه المناطق نزاع مسلح، وحتى لو كان هناك نزاع فلا يمكن أن تزرع عبوات ناسفة في مدارس أطفال وفي بستان وفي داخل بيوت نازحين في حال عودته ليفتح بابه ينفجر اللغم في وجهه".

يخلص باستغراب "هذا ليس هدفاً عسكرياً ولكنه هدف مدني بامتياز".

في مقابل كل هذا يرى أن "هذه جرائم ترتقي إلى جرائم الحرب".

في معرض حديثه يتساءل: هل الحوثي أوقف زراعة الألغام؟ ويجيب بالنفي مستطرداً "مع كل المعاهدات التي صارت وكل ما يتم الحديث عنه في شأن السلام لم تؤثر هذه نهائياً على موضوع الألغام، والأهالي يبلغون بأن زراعة الألغام مستمرة، وأخيراً صدر تقرير عن تكثيف الألغام في الحديدة ولهذا زراعة الألغام مستمرة".

وعلى رغم أن "(مسام) تمكنت حتى الآن من نزع أكثر من 427 ألف لغم وعبوة ناسفة وقذيفة غير منفجرة، لكن في المقابل تستمر الزراعة ولكن لا أحد يعرف الكمية النهائية".

بشيء من الإحباط الذي يقابل إصرار الحوثي على استمرار نشر المتفجرات، يتابع "عندما نسأل عن الألغام المزروعة في اليمن نقول الله أعلم، نحن قدرناها من مليون إلى مليونين، ولكن لا أحد يعرف الرقم الحقيقي حتى تنتهي الأزمة وتنتهي عمليات نزع العبوات".

يتطرق القصيبي إلى ما يعلنه المركز التنفيذي للتعامل مع الألغام التابع للميليشيات الحوثية في صنعاء وما يتضمنه من مغالطات تتضمن حديثهم عن سقوط ثلاثة ملايين قنبلة عنقودية على اليمن، في حين "صدرت تقارير أممية محايدة كشفت أنه خلال خمس سنوات في اليمن لا يوجد أكثر من خمسة آلاف قنبلة".

كما تطرق إلى التقصير الإعلامي الغربي مع اليمن في مواجهته الصعبة مع الألغام الحوثية التي فخخت كل مناحي الحياة.

وينفي الحوثي في التقارير التي يصدر التهم الموجهة إليه، ويلقي باللائمة على قوى الشرعية والدول المساندة لها، من دون أن يعطي أدلة للجهات الدولية على تلك المزاعم.

اقرأ المزيد

المزيد من حوارات