ملخص
بعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كالينينغراد هل ثمة بوادر لنشوب حرب بين موسكو و"الناتو"؟
تحدثت تقارير إعلامية عن أن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جيب كالينينغراد أول من أمس الخميس أثارت المخاوف جدياً من نشوب حرب مع حلف "الناتو" من خلال تهديد دول الاتحاد الأوروبي المتاخمة لهذه المنطقة، التي تعد أهم المناطق الاستراتيجية الروسية في قلب أوروبا.
وذكر تقرير نشرته صحيفة "تلغراف" البريطانية أن "زيارة بوتين المفاجئة جيب كالينينغراد الروسي الذي يقع بين ليتوانيا وبولندا، تأتي وسط مخاوف متزايدة من أنها قد تصبح نقطة اشتعال لصراع مستقبلي".
وأضافت الصحيفة، "بدا أن بوتين يسخر من دول البلطيق، حيث حلق قرب إستونيا وعانق سواحل لاتفيا وليتوانيا في طائرته الرئاسية قبل الهبوط في كالينينغراد". وأشارت إلى أن طائرات مقاتلة روسية انتشرت قبالة الساحل الشرقي لجزيرة غوتلاند السويدية مع اقتراب بوتين من بحر البلطيق.
التحشيد العسكري
وعلى رغم نفي الكرملين لأن تكون هذه الزيارة تحمل إشارات تحدٍّ لحلف "الناتو"، شددت "تلغراف" على أن توقيت زيارة بوتين إلى قلب أوروبا، وسط التهديد الروسي المتزايد بحرب أوسع نطاقاً مع الغرب، يحمل أهمية كبيرة. وذكرت أن "قائد الجيش البريطاني حذر من أنه سيتعين على المدنيين التسجيل لمحاربة روسيا إذا كانت هناك حرب".
وتخطط الولايات المتحدة لنشر أسلحة نووية في المملكة المتحدة للمرة الأولى منذ 15 سنة بسبب "التهديد المتزايد من روسيا"، بحسب ما ذكرت "تلغراف" نقلاً عن وثائق البنتاغون. كما استعادت الصحيفة تصريحات بوريس بيستوريوس، وزير الدفاع الألماني التي قال فيها إن بوتين قد يعلن الحرب على حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال "خمس إلى ثماني سنوات".
"المدافع الصامد"
تشير الدلالات غير البريئة إلى هذه الزيارة المفاجئة، بخاصة أن توقيت هذه الزيارة تزامن مع بدء مناورة "المدافع الصامد" التي يشارك فيها نحو 90 ألف جندي من 31 دولة من دول حلف شمال الأطلسي والدولة المرشحة السويد، التي تأمل في الانضمام قريباً إلى الحلف.
يشير سيناريو أكبر تدريب منذ الحرب الباردة إلى أنه في حالة شن عدوان روسي، فإن القوات الأميركية ستعزز الحلفاء الأوروبيين في البلدان المتاخمة لروسيا على الجناح الشرقي للحلف. ويجري النظر في خيار يشتعل فيه الصراع مع "عدو متساوٍ تقريباً". ومن المقرر أن تستمر المناورات التي بدأت هذا الأسبوع حتى مايو (أيار) المقبل.
وتشمل تدريبات "الناتو" أكثر من 50 سفينة من حاملات الطائرات إلى المدمرات، وأكثر من 80 طائرة ومروحية وطائرات من دون طيار وما لا يقل عن 1100 مركبة قتالية، بما في ذلك 133 دبابة و533 مركبة مشاة قتالية.
وكانت التدريبات الأخيرة ذات الحجم المماثل هي "ريفورجر"، خلال الحرب الباردة في عام 1988، والتي شارك فيها 125000 ضابط وجندي أطلسي.
وهذا يعني أن هذه المناورة هي أكبر مناورة لحلف شمال الأطلسي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من 30 سنة.
وتظهر هذه المناورة أن لدى الولايات المتحدة خطة "ريفورجر" لتسريع نقل عشرات الآلاف من الجنود مع المعدات إلى أوروبا. ويبدو أننا نشهد تدريباً لإحياء هذه الخطة وصقلها مجدداً، مع أنه ولسنوات عديدة لم تكن هناك فرصة لإعادة خطط كهذه إلى الحياة.
الردع السريع
ويركز الجزء الثاني من تدريبات "المدافع الصامد" على نشر قوة الرد السريع التابعة لحلف شمال الأطلسي في بولندا. وستكون المواقع الرئيسة الأخرى للتدريبات هي دول البلطيق الواقعة مباشرة إلى الغرب من حدود روسيا، مما يعني أنها الأكثر عرضة للخطر من هجوم روسي محتمل، وكذلك ألمانيا، مركز التعزيزات القادمة، والدول الواقعة على هامش التحالف، مثل النرويج ورومانيا.
وقال القائد العام لقوات الحلف في أوروبا كريس كافولي، إن التدريبات ستكون بمثابة بروفة لتنفيذ "الناتو" خطط الدفاع الإقليمية التي تم تطويرها على مدى عقود. وتفصل هذه الخطط رد الكتلة العسكرية على هجوم روسي محتمل، على رغم أن "الناتو" لم يذكر اسم روسيا بالتحديد في بيانه، لكن وفقاً للوثيقة الدفاعية الاستراتيجية الرئيسة للحلف، فإن الاتحاد الروسي هو الذي يشكل تهديداً كبيراً ومباشراً لأمن أعضاء الكتلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فخلال هذه المناورات، ستتدرب قوات "الناتو" على صد هجوم من عدو شرقي افتراضي. وتظهر التدريبات حسب القائد الأعلى كريس كافولي، قدرة "الناتو" على نشر قوات بسرعة من أميركا الشمالية وأجزاء أخرى من الحلف لتعزيز الدفاعات الأوروبية.
ووفقاً لرئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي الأدميرال روبرت باور، فإن حجم التدريبات يوضح الاستعداد الجديد للحلف. كما حذر باور من أنه يتعين على مواطني الدول الأعضاء في "الناتو" الاستعداد بصورة أفضل لحرب مستقبلية محتملة مع روسيا.
ويتزامن كل هذا مع إشارات تصدر عن عديد من السياسيين الغربيين، بما في ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أكد أن روسيا قد تهاجم إحدى دول الكتلة إذا فازت في أوكرانيا. صحيح أن موسكو تنفي وجود خطط كهذه، وصحيح أن بوتين قال في ديسمبر (كانون الأول) الماضي إن روسيا ليس لديها "سبب" أو "مصلحة" لخوض حرب مع حلف شمال الأطلسي، إلا أن الأصح أيضاً أن روسيا شنت هجوماً عسكرياً على أوكرانيا منذ ما يقارب عامين، على رغم ترديدها مراراً وتكراراً وإعلانها قبل ذلك بأيام، أن حديث الغزو من أضغاث خيال مناوئيها في الغرب ومن صنع دعايتهم الإعلامية.
منذ بدء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا في الـ24 من فبراير (شباط)، تدور حرب حقيقية وليست باردة بين روسيا والغرب على الأراضي الأوكرانية، ومع الدول الأوروبية المنضوية في "الناتو"، على رغم أنه لا يبدو أن الدعوات إلى محاربة حلف شمال الأطلسي تأتي من الكرملين، فهو نفسه ينفي ذلك، تماماً كما نفى خطط مهاجمة أوكرانيا.
الدفاع الجماعي
يقول الموقع الرسمي لحلف "الناتو" إن التدريبات تهدف إلى اختبار فاعلية الهياكل، وكذلك الأفراد. ويضيف أن هذا "ينطبق خصوصاً عندما تخضع القيادات العسكرية لحلف (الناتو) لإصلاحات دورية وتحتاج هياكل المقار الجديدة إلى اختبار قدرتها على القيام بمسؤوليات جديدة". ويتكون الهيكل من عديد من المكونات، المفاهيم والعقيدة والإجراءات والأنظمة والتكتيكات، التي يجب أن تعمل معاً.
ويجب أن تكون القوات التي يقودها حلف شمال الأطلسي قادرة على العمل معاً بفاعلية على رغم الاختلافات في العقيدة واللغة والهياكل والتكتيكات والتدريب.
ومنذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في مارس (آذار) 2014، زاد "الناتو" عدد التدريبات. وفي اجتماع عقد في ويلز عام 2014 التزم قادة التحالف التركيز بصورة أكبر على سيناريوهات الدفاع الجماعي.
وفي القمة الاستثنائية التي عقدت في بروكسل خلال الـ24 من مارس 2022، أكد قادة "الناتو" مرة أخرى أهمية هذا المبدأ. وفي وقت لاحق، في اجتماع الرؤية الاستراتيجية لعام 2022 في مدريد خلال يونيو (حزيران) التزم الحلفاء تكثيف التدريبات.
"مناورة" متأخرة
خلفية تدريبات "الناتو" الحالية واضحة: هذا رد فعل على الهجوم العسكري الروسي ضد أوكرانيا. ففي وقت يواصل فيه بوتين شحذ السيوف يستمر الحديث بالتصاعد عن حرب محتملة بين "الناتو" وروسيا.
وفي هذه الحالة يمكننا القول إن تدريبات "الناتو" جاءت متأخرة جداً. ففي بعض دول حلف شمال الأطلسي، على سبيل المثال، ألمانيا وبريطانيا، تم تخفيض تكوين القوات القتالية إلى الحد الأدنى بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1991، لكن الحلف استفاق متأخراً على فكرة أنه من الضروري تدريب القوات وعمليات التسليم وكل ما هو ضروري من ذخيرة وعتاد وإمدادات، وأن أفضل طريقة لتجنب الصراع هي إقناع خصمك بأنك مستعد للحرب، سواء من حيث تدريب وتجهيز القوات، أو من حيث توافر جميع الأسلحة اللازمة.
يجمع قادة دول "الناتو" على اختلاف مشاربهم ومصالحهم، على القول إنه من الواضح أن روسيا تشكل اليوم تهديداً محتملاً لدول الحلف. وعمل بمبدأ "إذا أردت السلام استعد للحرب" قررت دول التحالف زيادة القدرة القتالية لقواتها المسلحة، وبعضها، مثل بولندا، تفعل ذلك بصورة ملحوظة. والتدريبات في مثل هذه الحالة هي الأداة الأكثر أهمية، خصوصاً إذا اتبعت هذه التدريبات سيناريو خطراً في بيئة قريبة من ميادين القتال المحتملة.
في عام 2014، بدأ كثر في دول "الناتو" يدركون أن الحرب مع روسيا مجرد احتمال وارد بالفعل، لكن وبعد الهجوم الواسع النطاق الذي شنه الجيش الروسي على أوكرانيا، تغير الواقع بصورة كبيرة، حيث اتضح أن دول "الناتو" في حاجة إلى الاستعداد حتى للخيارات غير المتوقعة.
ومع أن خططاً جديدة وأساليب جديدة ظهرت لزيادة الاستعداد القتالي، إلا أنه يجدر التوقف بجدية عند حقيقة أن عدد القوات الأميركية في أوروبا اليوم أقل مما كان عليه خلال الحرب الباردة.
إذا افترضنا أن يتطور الموقف إلى وضع تهديد قبل الحرب أو حتى حدوث عدوان مفاجئ من قبل العدو، فإن الولايات المتحدة ستستخدم أصول الضربات الجوية والبحرية لمساعدة الدولة التي تعرضت للهجوم في "الناتو". كما ستنشر قوات الانتشار السريع، لكن في هذه الحالة، يجب أن يكون الجانب المدافع قادراً على امتصاص الضربة الأولى وانتظار تقديم المساعدة.
أنياب "الناتو"
صحيح أن مناورات "الناتو" الحالية لا تخيف روسيا، لكن كتلة "الناتو" تظهر بهذه الطريقة لروسيا تصميمها واستعدادها العالي والزيادة المستمرة في الموارد المستخدمة في مواجهتها.
وفي بيان "الناتو" حول بدء التدريبات يلاحظ وعد الجنرالات الغربيين بمراعاة تجربة الحرب في أوكرانيا، بكل النجاحات والأخطاء والتطورات. ليس من الواضح بعد كيف سيفعلون ذلك، ناهيك بالاستنتاج الذي سيتوصلون إليه بناءً على نتائج مناورات "المدافع الصامد".
في الخلاصة، وعلى رغم قرع طبول الحرب في الدعاية والإعلام والمنابر، فإن احتمال وقوع هجوم روسي حقيقي على دولة عضو في "الناتو" في المستقبل القريب ضئيل للغاية.
فروسيا وعلى رغم الخبرة القتالية التي اكتسبتها قواتها في أوكرانيا، والأسلحة الجديدة المبتكرة التي جربتها هناك، تدرك أن دول حلف شمال الأطلسي على مستوى عسكري مختلف تماماً عن القوات الأوكرانية، وأن مهاجمتها تعني انتحاراً، وهو ما لا يمكن لحكومة عاقلة أن تقدم عليه. فإذا لم تتمكن روسيا اليوم من إسقاط ثلاثة صواريخ "ستورم شادو" تحلق فوق مقر أسطول البحر الأسود، فماذا يمكن أن نقول عن الوضع عندما تتعرض مئات الأهداف في جميع أنحاء البلاد للهجوم بصواريخ "كروز توماهوك" ونفس "ستورم شادو" في لحظة واحدة؟
ويجب ألا ننسى أن الصراع بين روسيا وكتلة "الناتو" محفوف بالحرب النووية، لذلك، تبقى السيناريوهات التقليدية لتطور المواجهة بسيطة أمام التفكير باحتمالات تطور الأمور نحو صراع نووي.
في نهاية المطاف، ربما يحاول بوتين الاستيلاء على أراضٍ إضافية إذا شعر بضعف الغرب. ويمكن أن يحدث هذا، على سبيل المثال، في دول البلطيق.
تحديات صعبة
وتشكل المناورات الخاصة بنقل القوات بسرعة إلى أوروبا ونشر وحدات قتالية تحذيراً لروسيا بأنها في حالة العدوان ستواجه رداً جدياً وسريعاً. وفي مثل هذا الموقف فسيجد بوتين نفسه أمام الاختيار بين استخدام أسلحة الدمار الشامل أو التراجع. وبالحكم على التجارب الحقيقة فإن الجانب الروسي تصرف خلال الحرب بعقلانية، على سبيل المثال، بالانسحاب من منطقة كييف ثم في وقت لاحق من خيرسون، وهذا يعني أن بوتين يتراجع في مواجهة التحديات الصعبة، لذلك فإن المهمة الرئيسة لتدريبات "الناتو" هي احتواء العدوان ومنع اندلاع حرب ساخنة، مع أنها ستحيي بلا شك حرباً باردة جديدة كان العالم يعتقد أنها انتهت إلى غير رجعة.