Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البحث عن دخل إضافي شاغل المصريين في زمن المعيشة الصعبة

السايس والوسيط والبث المباشر و"المشهلاتي الرقمي" أبرز البدائل والجميع يطارد "الدولار أون لاين"

زحام الشوارع المصرية جعل البعض يبتكر مهنة لركن السيارات   (أ ف ب)

ملخص

أينما تضرب الأزمات الاقتصادية تتفتق الأذهان اضطراراً أو اختياراً للبحث عن "سبوبة" يسمونها عملاً إضافياً أو وسيلة تعين صاحبها على التحايل لاستجلاب رزقه

في أوقات الأزمات تفجر غريزة حب البقاء أفكاراً إبداعية، خصوصاً حين تتفجر هذه الأفكار في بيئة بشرية معروف عنها القدرة على ابتكار الأفكار خارج الصندوق، واكتساب المهارات المناسبة للسوق، والتأقلم مع الأجواء، سواء اتجهت أقصى اليمين، أو مالت بحمولتها جهة اليسار كما هو الحال في مصر.

على يسار جهاز الكمبيوتر المتوسط مكتب "أستاذ أحمد"، المحاسب في الشركة الخاصة العاملة في مجال المقاولات، دفتر ورقي صغير مكتنز وآلة حاسبة انتهى عمرها الافتراضي منذ زمن.

الدفتر مقسم إلى ثلاثة أقسام: بائعين ومشترين وموسميين. إنهم "عملاء" أستاذ أحمد ممن يبيعون عملات أجنبية بسعر السوق السوداء، أو يشترونها بسعر السوق السوداء جداً بصفة دورية، والقسم الثالث عملاء عابرون، مسافر أعيته سبل العثور على 300 دولار، أو معتمر ينقب عن 500 ريال، أو سائق أجرة حصل على 50 دولاراً من سائح ترانزيت نظير توصيله إلى الأهرام وإعادته إلى المطار. أما الآلة الحاسبة، فإنها مخصصة لحسابات الاتجار في العملة، دون أن تبقى لها أثر في هاتف محمول أو كمبيوتر العمل. إنها "الهواية" الهامشية التي فتحت له باب رزق يندرج تحت بند "السبوبة" في زمن صعب.

الدخل مات إكلينيكياً

صعوبة الأوضاع المعيشية الآخذة في التفاقم بسبب أزمة الاقتصاد المصري أدت إلى موجة من الابتكارات لتنمية الدخل أو إعادة ضخ الحياة فيه بعد موته إكلينيكياً.

يحدث هذا في جميع أنحاء العالم. أينما تضرب الأزمات الاقتصادية، تتفتق الأذهان، اضطراراً أو اختياراً، للبحث عن "سبوبة". يسمونها عملاً إضافياً، ويطلقون عليها هناك وسيلة تبقى صاحبها واقفاً على قدميه أو طريقة للانحناء أمام العاصفة حتى مرورها بأقل أضرار ممكنة، لكن تتميز مصر دائماً بما هو متفرد ومختلف. تتلون الأفكار بصبغة مفاجئة، وأحياناً صادمة، والابتكارات بصيغة مدهشة، و"السبوبة" ليست استثناءً.

مصاعب عاتية

في زمن المصاعب الاقتصادية العاتية التي ظنها المصريون ثقيلة، لكن مقارنة مع ما يجري اتضح أن هناك الأصعب، كان لجوء البعض لـ"السبوبة" في أضيق الحدود. مبتكر "السايس" الذي يساعد قائد السيارة نظرياً على إيقاف سيارته في الشارع، ويعيره من خبراته في المناورة والمراوغة لتفادي البالوعات وتجنب الاحتكاك بالرصيف عبر عبارات توجيهية من قبيل "رد كله شمال"، أو "انزل كما أنت"، أو "حضّن يمين"، إضافة إلى افتراض حماية السيارة والتأكد من عدم تعرضها لأضرار. وهي المهنة التي تتلخص عملياً في قرار أحدهم الاستيلاء على بعض أمتار في الشارع ومنع أصحاب السيارات من إيقاف سياراتهم فيها إلا لو سددوا له مبالغ يحددها بحسب مزاجه الشخصي، هو أحد تجليات "السبوبة".

سبوبة السايس شأنها شأن نظرتها لدى حارس العمارة أو موظف الأمن الذي يحول تبادل المعلومات العقارية إلى مصدر إضافي لتنمية الرزق. فلان يبحث عن شقة للإيجار أو الشراء، وعلان لديه المراد، يعرف هذا بذاك، ويتقاضى "سبوبة" أو عمولة من كليهما.

الجميع يبحث عن الدولار

في عام 2016، وتحديداً في ديسمبر (كانون الأول)، أي بعد التعويم الأول في عصر ما بعد أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، حين شهد الجنيه المصري ارتطامه الأول من مستوى 8.88 جنيه للدولار الأميركي إلى 15.77 جنيه، تساءل الكاتب والشاعر فاروق جويدة في مقال عنوانه "الكل يبحث عن سبوبة"، "هل نترك الناس تأكل بعضها؟ أين رقابة الحكومة على الأسعار وكل إنسان في مصر الآن يبحث عن سبوبة، وهي عادة تنحصر في بيع السلع التموينية والاتجار في الدولار أو بيع وشراء العقارات؟".

وذكر جويدة أن الجميع يتذكر أزمة هيمنت السبوبة، حيث تجارة السلع المستوردة المهربة، والسوق السوداء، والدلالات (سيدات يشترين ملابس ومفروشات ويجُلن بها على البيوت وبيعنها بأكثر من سعرها أو بالتقسيط مع إضافة الفوائد)، وهذا التاريخ الطويل من النصب والاحتيال"، لكن ما كان مصنفاً بالاحتيال قبل سنوات قليلة مضت يجد لنفسه اليوم بدل المخرج الواحد مخارج 10 لتصبح "السبوبة" أو السمسرة عملاً مقبولاً، وتنمية دخل متعارفاً عليها، ومنظومة "أكل عيش" حلال لا غبار عليها، في غالب الأوقات.

 

 

عسر وتعثر

أوقات تعسر الأوضاع المعيشية الناجمة عن تعثر الاقتصاد تشهد قدراً أوفر من المرونة في تقبل وتفهم أعمال "السبوبة"، وغض الطرف عن مكاسبها وأرباحها التي تمضي من جيب هذا إلى جيب ذاك دون استقطاع ضريبة هنا أو فرض رسوم هناك.

هذه الأيام، تنتعش بشدة ظاهرة قيام أفراد، وليس محالاً تجارية مرخصة أو حتى أكشاك غير مرخصة، ببيع وشراء الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والألواح الرقمية بأنواعها والسماعات وغيرها عبر شرائها من أحدهم وبيعها إلى آخر بعد إضافة رسوم "السبوبة"، وبين هذه العمليات ما يتم في دوائر الأقارب، أو الجيران، أو الأصدقاء، أو زملاء العمل.

كذلك الحال في بيع وشراء العقارات التي صار بعضها يتم بيعه وشراؤه دون اللجوء لمكتب عقارات أو حتى مكتب سمسار مسجل ومرخص. وتمتد السبوبة المعاصرة إلى كافة المجالات، منها التقليدية ومنها المعاصرة. فالمندوب أو السائق المصاحب للفوج السياحي قد يقوم بها، حيث يرجح محل هدايا أو مشغولات ذهبية أو مطعماً بعينه لمجموعة سياح في مقابل مبالغ مالية من أصحاب المحال.

موجة حديثة

ومن اكتشف طريقة لإخفاء الكرش عبر التمويه، أو قررت أن تشارك الجماهير يومياً لحظات انتقاء ملابسها وارتداء الحذاء ورش العطر، أو ابتدعت حيلة لتفتيش هاتف محمول زوجها دون أن يدري وغيرها من تفاصيل تبدو سخيفة وحمقاء للبعض، لكنها تلقى مشاهدات بالآلاف وربما ملايين، صاروا صناع "سبوبة" عنكبوتية تترجم دولارات بفضل المتابعات والمشاهدات.

وبين هؤلاء من تمرد على الصورة التقليدية للمؤثرين. مدير كبير في بنك استثماري، وزوجة لم تنخرط يوماً في سوق العمل، وشاب درس الهندسة الميكانيكية واحترف فيديوهات تسخر من "بتوع التنمية البشرية" وغيرهم يمثلون موجة حديثة من موجات نحت الرزق.

"التنمية البشرية"

"خبراء التنمية البشرية"، أو أولئك الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم متخصصي بناء الثقة في الذات أو استشاري التعامل مع الاكتئاب وصناعة السعادة وتحفيز المرؤوسين وترويع الرؤساء وضخ الحياة في العلاقة الزوجية الميتة وإنهاء العلاقات السامة وبناء أساسات حديثة لـ"أنا" الجديدة وغيرها يتعرضون منذ فترة لاتهامات تشكك في علمهم وخبرتهم وصدقيتهم، بل إن البعض منهم يعيد تدوير محتوى ما يرد في كتب ومحاضرات غربية ويقدمه وكأنه من بنات أفكاره على سبيل "السبوبة".

اليوم يصعد على أكتاف أولئك جيل جديد من الساخرين والساخرات من "خبراء التنمية البشرية"، مهمتهم التهكم مما يقدمون، والاستهزاء بما يقولون. أما الغاية، فهي حصد أكبر كم ممكن من المتابعات والمشاهدات، وهو ما يجري ترجمته لتحويلات دولارية.

دولارات "أون لاين"

"أول دولار أون لاين" ينقل "السبوبة" من زمن الكلاسيكية المحدود إلى عصر الحداثة بلا حدود. موقع على الإنترنت يقدم نفسه باعتباره متخصصاً في أصول السبوبة وقواعدها. يعد العميل باكتساب مهارات في تصميم المواقع وعمل الفيديوهات والألعاب "الكورسات" (الدورات) وتسويقها وبيعها عبر منصات عديدة تراوح ما بين "غرافيك" و"صناعة الفيديوهات" و"تصميم المواقع"، وجميعها يؤدي إلى كسب السبوبة بالدولار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غالب الظن أن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حين خرج بإحصائية مفادها أن عدد منشآت الاقتصاد غير الرسمي بلغ مليوني منشأة، مما يشكل أكثر من نصف المنشآت المصرية (2017-2018) لم يضع في الاعتبار هذه الأعداد التي ربما تقدر بالملايين ممن فتحوا فصولاً جديدة في عوالم السبوبة، وهي الفصول التي ترتبط بالأوضاع الاقتصادية الصعبة بعلاقة طردية وثيقة.

حتى الإحصائية الصادرة عن الجهاز في 2020 وتشير إلى وجود نحو 11.5 مليون مصري يعملون في القطاع غير الرسمي، وهو المتمثل في المزارع والشوارع ومجالات العمل غير المرخصة أو الموثقة الأخرى، فهي لا تحوي على الأرجح العاملين بـ"السبوبة" كهواية أو احتراف أو مصادفة.

"مشهلاتي أون لاين"

الصدفة وحدها قادت سيدة مصرية مقيمة في الخارج لـ"مشهلاتي" (وسيط لتخليص أوراق أون لاين). فقديماً جرى عرف السبوبة التقليدي أن يظهر شخص ما فجأة في محيط المؤسسات الحكومية الخدمية والمحاكم وأقسام الشرطة والخدمات المرورية وغيرها من الأماكن التي تحتم على المواطنين ملء استمارات وشراء طوابع دمغة وإعداد ملفات وغيرها.

هذا الشخص الذي يظهر فجأة عليم ببواطن الأمور البيروقراطية. يعرف أن الموظف في الداخل لن يقبل المستندات إلا لو كانت مصحوبة بشهادة الميلاد، أو مذيلة بتوقيع موظفين حكوميين، أو مجمعة في ملف بلاستيكي مقاس 33.1 × 13.4 سم.

مهمة "المشهلاتي" كانت تراوح ما بين ملء المستندات، وكتابة الإقرارات، وإعداد محتويات الملفات وما تيسر من أمور وإجراءات استعصت على المواطن طالب الخدمة. وفي المقابل يتم دفع قيمة "التشهيل".

سذج وأبرياء 

الأبرياء والسذج يعتقدون أن سبوبة "المشهلاتي" تقلصت وانكمشت في العصر الرقمي، لكن ما حدث هو أنه نقل جزءاً من عمله "أون لاين".

أحد فاعلي الخير دل السيدة المصرية المقيمة في الخارج وفشلت عبر سنوات في إنجاز مهمة حكومية تستوجب الكر والفر بين مصالح حكومية عدة. وفي كل مرة تعتقد أنها اقتربت من نقطة النهاية تفاجأ أن الموظف يطلب منها مستنداً جديداً أو استمارة حديثة، وهو ما يتزامن وموعد عودتها إلى عملها في الخارج.

انتقال جزء كبير من المعاملات الرسمية وإصدار الوثائق الحكومية "أون لاين" أعاد فتح أبواب الأمل أمامها. ولكن "تعطل السيستم" مرة، وطلب إدخال أرقام طلبات سابقة غير موجودة مرة أخرى كاد يصيبها باليأس التام، لولا "المشهلاتي" أون لاين الذي نصحها به أحدهم.

"المشهلاتي" أون لاين غير مرئي. يجري التعامل معه عبر رقم هاتف محمول على "واتساب"، يرسل طالب المعاملة الخدمة المرادة، يجيب "المشهلاتي" بالمطلوب توافره من أوراق ومعلومات، يتم إرسالها إليه، ويقوم "المشهلاتي" بإدخال البيانات وإجراء المعاملة، وقبل الدق على زر "إرسال"، يكون المواطن قد سدد "السبوبة" على "فودافون كاش" أو "إنستاباي" أو ما شابه.

ما قبل السبوبة الرقمية

لا تشبه أساليب "السبوبة" في العصر الرقمي ما كان قبلها. قد يتشابه أو حتى يتطابق نوع الخدمة أو المعاملة المطلوب إنجازها، لكن سبل تفعيلها، ومؤهلات من يقوم بها، وأدوات تحصيل رسومها، وفتح أسواق ومجالات جديدة لها فريدة بكل معاني الكلمة.

كلمة "سبوبة" تطهرت من المعاني والإيحاءات السلبية التي لازمتها منذ بزوغ عصرها. وعلى رغم عشرات التصريفات المشتقة من كلمتي "سب" و"سبب"، فإنها مصرياً تعني "سبباً لكسب بعض المال". في أزمنة مضت، كانت فكرة كسب بعض المال، خارج العمل الرئيس، أو بعيداً من الأعين، تعني بالضرورة إنها فكرة ملتوية، لكنها لم تعد كذلك.

حتى مرادفاتها الشعبية مثل "مرمة" و"نحتاية" و"مصلحة"، باتت تحظى بقدر أوفر من سعة الصدر والتفهم. في الوقت نفسه يسميها أصحاب السبوبة الحديثة، وتلك المقترنة بتبريرات الأزمة الاقتصادية، وحجج تنمية الدخل، وارتفاع قيمة الدولار، وغلاء الأسعار، وجشع التجار، وأحياناً الحاجة إلى البقاء على هامش الطبقة المتوسطة وما فوقها أو تحتها بقليل، "إكسترا وورك" أو (عملاً إضافياً)، أو "أوفر تايم خاص"، أو "تنمية موارد" أو "تشغيل مخ" أو "بروكر (سمسار) خدمات" أو "ابتكار حلول) في ظل الأزمة.

حرام أم حلال؟

لم يفت على البعض أن يعرج على دار الإفتاء للسؤال عما إذا كان هذا النوع من الابتكار والعمل الإضافي والسمسرة حلالاً أم حراماً. أمين الفتوى في دار الإفتاء المصرية محمد كمال أجاب في لقاء تلفزيوني أن "السمسرة جائزة شرعاً، ولا حرج فيها، ولكن بشروط. الأول مشروعية العملية، وأن تكون السلعة التي سيجري السمسرة عليها حلالاً. والثاني التزام الشروط المتفق عليها بين البائع والمشتري، باستثناء تلك التي تحل الحرام. والثالث ألا تكون المعاملة أو السلعة مخالفة للقوانين واللوائح التي تنظم البيع والشراء".

الطريف أن البعض يتراشق أحياناً بـ"السبوبة" للنيل من آخرين يمثلون ضغطاً على جيوبهم أو عقولهم أو قلوبهم. أهالي طلاب المدارس الخاصة ينعتون أصحاب هذه المدارس بـ"سبوبة السبلايز" (قائمة المشتريات المبالغ فيها التي تطلب من كل طالب). متابعو كرة القدم يطلقون "سبوبة كرة القدم" على معلقين ومحللين ومذيعين رياضيين، وكذلك على متعاقدي على توريد لاعبين ومدربين. رافضو التظاهرات والثورات والاحتجاجات يسمون المعارضين والنشطاء "سبوبة الثورة" أو "سبوبة حقوق الإنسان" أو "سبوبة المعارضة". والرافضون لتعدد مصادر الفتوى والتفسير والدروس الدينية والفقه وغيرها من فروع الدين التي يقرر البعض أن يعين نفسه خبيراً فيها "سبوبة الدعوة".

أهداف متعددة

وتظل "السبوبة" متناهية الصغر، سواء كانت بضع جنيهات يدسها صاحب السيارة في يد "السايس"، أو مبلغ من ثلاثة أو أربعة أرقام يرسلها عبر تطبيقات الدفع، أو مبلغاً إضافياً يدفعه تحت اسم "عمولة" أو "مقابل مجهود" أو "بداية لمعرفة خير" بسبب بيع شقة أو سيارة أو هاتف محمول هي الأكثر وراجاً وانتشاراً في أوقات الأزمات وتنمية مصادر الدخل.

المزيد من تحقيقات ومطولات