Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المحكمة العليا في العراق... استقلال قضائي ضد أهواء السياسة

أصدرت قرارات جريئة ولا تخضع لضغوط أو تدخلات حزبية وأحكامها ملزمة ولا رجعة فيها

الدستور العراقي منع القاضي من الانتماء إلى الأحزاب أو المنظمات السياسية (مواقع التواصل)

ملخص

الهدف الرئيس للمحكمة الاتحادية العراقية حماية وضمان الدستور والحفاظ على سيادة القانون في البلاد

برزت المحكمة الاتحادية العليا في العراق كجهة عليا لإدارة الأزمات منذ الانتخابات الأولى، وعلى رغم الضغوط السياسية التي تمارس عليها، أصدرت "قرارات جريئة" كان أبرزها في عام 2023 قرار إنهاء عضوية رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي بعد أن اتهمته بالتزوير، كما سبق أن أوقفت هذه المحكمة ترشيح هوشيار زيباري لمنصب رئيس الجمهورية عن الحزب الديمقراطي الكردي، فضلاً عن إقرارها عدم دستورية قانون النفط والغاز في إقليم كردستان ومنع تصديره لصالح الإقليم من دون إذن من الحكومة الاتحادية.

وعن دور المحكمة الاتحادية أوضح المتخصص في مجال القانون أنس العزاوي أن عملها ينظمه قانونها المرقم 25 لعام 2021 المعدل، وتخضع قراراتها لنظامها الداخلي وسلطاتها الممنوحة وفقاً لأحكام المادة 93 من الدستور، وتخضع قراراتها لإرادة قضاة المحكمة من دون تدخل من أي طرف. وتتكون المحكمة من تسعة أعضاء أصلاء من قضاة الصنف الأول ممن تجاوزت خدمتهم القضائية 15 سنة، وأربعة قضاة احتياط غير متفرغين، يختارون من مختلف محافظات العراق دون تمييز ويمثلون غالب أطياف المجتمعي العراقي.

لا سلطان غير القانون

وفي ظل الوضع السياسي الحالي والنفوذ الذي تتمتع به الأحزاب السياسية تمكنت المحكمة الاتحادية من دون خشية من اتخاذ قرارات عديدة تتعلق بالقضايا السياسية. قال القاضي المتقاعد سالم روضان الموسوي إن "أصل عمل القضاء، سواء كان قضاءً دستورياً أو اعتيادياً هو الاستقلال، وفقاً لما ورد في المادة (19) من الدستور بأن القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون، كما أن استقلال القضاء كمؤسسة يلزم أن يقترن باستقلال القاضي داخل السلطة القضائية، وعلى وفق ما ورد في المادة (88) من الدستور التي جاء فيها (القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة)".

أضاف الموسوي "الدستور العراقي منع القاضي من الانتماء إلى الأحزاب أو المنظمات السياسية وفق أحكام المادة (98)، مع التنويه بأن القضاء لم يكن يوماً امتيازاً لشخص أو جماعة بعينها، وإنما القضاء هو حق الإنسان وحاجة المجتمع، لذلك فإن خضوع القاضي أو هيئة أي محكمة إلى الضغط السياسي أو غيره أمر مستبعد بحكم القانون والدستور، بل يمثل مخالفة يحاسب عليها القاضي إذا ما استجاب لتلك الضغوط وفق أحكام المادة 334 من قانون العقوبات رقم 111 لعام 1969، وينص على أنه (يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على خمس سنوات، كل قاضٍ أصدر حكماً ثبت أنه غير حق أو نتيجة توسط أو تدخل أو تأثير في قناعته القانونية بأية طريقة كانت)". وتابع الموسوي "المحكمة الاتحادية العليا في العراق لا تستجيب لأي ضغط سياسي أو لنفوذ المتنفذين".

العدول وليس التراجع

وعن إمكانية تراجع المحكمة أو عدولها عن قرارتها بعد صدورها في حال وجود تدخلات أو ضغوط من بعض الجهات، قال الموسوي "لا يجوز، لأن المحكمة ترفع يدها عن القضية التي فصلت فيها، ولا تملك صلاحية مراجعة الحكم مرة أخرى، وعلى وجه الخصوص قرارات المحكمة الاتحادية العليا باعتبارها باتة وملزمة من لحظة صدورها وعلى وفق أحكام المادة 94)) من الدستور التي جاء فيها (قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة)".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتابع "لكن يوجد مبدأ في الفقه الدستوري وفي العمل القضائي بصورة عامة، وهو مبدأ العدول الذي عرفه الفقه الدستوري بأنه إحلال إرادي واضح ومؤكد لحكم جديد محل حكم آخر في موضوع دعوى جديدة تماثل دعوى سابقة تتطابق معها ومع حيثياتها بصورة كاملة، ويكون استجابة لأسباب معينة وليس بكيفية ومزاج المحكمة، ومن هذه الأسباب التي حددها الفقه (أولاً تعديل الدستور فيأتي بمبدأ مغاير لما كان عليه وقت صدور الحكم من المحكمة الدستورية، وهذا بإرادة أخرى غير إرادة المحكمة، وثانياً تغير الظروف التي يمر بها المجتمع بعد صدور التشريع وضرورة التجاوب مع الحاجات المستحدثة والمتطورة للمجتمع)". وأضاف "في تطبيقات القضاء الدستوري العراقي سبق للمحكمة الاتحادية العليا أن عملت بمبدأ العدول عن قراراتها السابقة، وليس تراجعاً عن قرار اتخذته، فذلك يتعارض مع مبدأ حجية الأحكام وثبوت الحق الوارد فيها".

قرارات تخالف إرادة الأحزاب

كما بيّن القاضي سالم روضان أن بعض قرارات المحكمة الاتحادية العليا قد تخضع لتقييم وتعليق من بعض غير المتخصصين في الشأن القضائي والدستوري، إذا ما تعلق الأمر بموضوعات سياسية كانت في الأصل محل خلاف وجدل بين الكتل والأحزاب التي تتصارع للحصول على المنافع والمكاسب، فالبعض يوجه سهام النقد لهذه القرارات لأنها لم تأتِ على وفق مزاجه السياسي. وأضاف روضان "أصدرت المحكمة في بداية تشكيلها قرارات مهمة، ولم يحدث عليها تغيير أو رجوع في المبدأ والعمل فيها مستقر حتى الآن، وهذا منحها صفة الثبات على رغم تبدل اللاعبين في ملعب السلطات حتى إن بعضهم أعلن عن رأي إيجابي فيها بعد أن وطئت رجله مربط السلطة، ذلك أن غالب النقد الموجه كان على وفق قراءة سياسية للأحكام والقرارات التي أصدرتها المحكمة وليس عن قراءة قانونية".

أما النائب باسم خشان فأكد أن "تأثير الأحزاب السياسية محدود إن لم يكن معدوماً على قرارات المحكمة المستندة إلى الدستور، ومن الأدلة على ذلك قراراتها التي ردت دعاوى أقامتها قوى الإطار التنسيقي طعناً في نتائج انتخابات مجلس النواب لعام 2021، ولعل أهمها قرار إنهاء عضوية رئيس مجلس النواب، السيد محمد ريكان الحلبوسي، الذي صدر خلافاً لإرادة كل أحزاب الإطار الذين يرتبط بعض قادتهم بعلاقات قوية مع الرئيس السابق، سواء كانت سياسية أو تجارية". وتابع "على رغم أن نظام المحكمة العليا الداخلي يجيز لها العدول عن المبادئ الدستورية التي تتبناها أو تصدرها، فإنها لم تعدل عنها، لكنها صححت قرارات سابقة، منها قرارات تتعلق في حق الكرد الفيليين والإيزيديين في الترشح والتصويت، وكان ذلك تصحيحاً لقرارات مخالفة للدستور صدرت من المحكمة الاتحادية بتشكيلها السابق، وليس من القرارات التي تؤثر في قوى الإطار التنسيقي ولا التيار الصدري أو أي من أحزاب المكون الشيعي".

 بعيداً من التدخلات

وفي السياق نفسه، بيّن المحلل السياسي في جامعة "النهرين" سلمان الأعرجي، أن "الهدف الرئيس للمحكمة الاتحادية العراقية حماية وضمان الدستور والحفاظ على سيادة القانون في البلاد، وتولي مهمة المشاركة في وضع السياسات العامة واتخاذ القرارات المهمة في الشؤون السياسية والدستورية. وتعمل على فحص وتقييم دستورية القوانين والتشريعات المقدمة من السلطات التشريعية والتنفيذية في العراق". وتابع "قد تتعارض بعض القرارات الصادرة عن المحكمة مع مواقف أو مصالح البعض، وربما تشعر أحزاب سياسية بالحرج نتيجة لقرارات المحكمة، لكن ينبغي أن نفهم أن دورها يتمثل في استقلالية القضاء وحماية الدستور وسيادة القانون، وليس في تحقيق المكاسب السياسية لأي طرف. كما تلتزم المحكمة بضمان المساواة والعدل بين جميع الأطراف وتكرس جهودها لتقديم قرارات قائمة على المبادئ القانونية وأحكام الدستور من دون أي تحيز".

أضاف الأعرجي "موقف المحكمة الاتحادية العراقية من القضايا السياسية الخلافية بين الأحزاب العراقية يجب أن يكون على مسافة واحدة، والقرارات الصادرة عنها مستقلة وبعيدة من تأثيرات وتدخلات الأحزاب لأنها بخلاف ذلك تفقد أهم صفة من صفات عملها، وأقصد بذلك استقلاليتها وعدم خضوعها لإرادة طرف على حساب أطراف أخرى. وهي بذلك تراعي سمعة وتاريخ القضاء العراقي وتضعه نصب عينها، فضلاً عن مراعاة المصلحة العامة وتطبيق القانون على الجميع من دون استثناء".

الفصل بين السلطات

وقال القاضي وائل عبداللطيف إن "المحكمة تعمل وفق مبدأ الفصل بين السلطات، أي بمعنى عزل البرلمان عن السلطتين التنفيذية والقضائية، ولهذه المحكمة قانونها الخاص ومستقلة إدارياً ومالياً، وكما ورد في الدستور فإن قراراتها باتة وملزمة للسلطات كافة (التشريعية والتنفيذية) ولا يجوز لها الرجوع عن قراراتها"، مستدركاً "مع أن هناك تأثيرات وضغوطاً على المحكمة، لكن لا أعتقد أنه من الممكن أن تعدل عن قراراتها".

وتابع عبداللطيف، "في ما يتعلق بقرار المحكمة المتعلق بتنظيم الملاحة في خور عبدالله، هو قرار سليم 100 في المئة لأن المصوتين طبقاً لما ورد في البرلمان من 75-80 من أصل 175، والمفترض أن يشمل التصويت على القرار 220 صوتاً بغالبية الثلثين، وطالما لم يرد التصويت بالصيغة التي أرادها الدستور فيكون التصويت باطلاً بالتأكيد، وما بني على باطل فهو باطل، من ثم يعد قرار المحكمة سليماً، وإن لم ترضَ به الوزارة أو مجلس النواب أو أية سلطة أخرى لأن الأصل فيه خطأ".

وحدد الدستور العراقي غالبية الثلثين في حالات أربع، الأولى عند انتخاب رئيس الجمهورية، والثانية لدى التصويت على المعاهدات والاتفاقات الدولية، وبخاصة قضايا الحدود، والثالثة في التعديلات الدستورية، والرابعة في عملية التحول بالنسبة إلى الأقاليم والمحافظات. وختم عبداللطيف قائلاً "لهذا أعتقد أن المحكمة لو تراجعت عن أي قرار سيطعن به كثر من المحامين، كما لا يجوز ذلك".

وعلى خلفية حديث القاضي عبداللطيف أعرب خبير ترسيم الحدود الدولية اللواء الركن جمال الحلبوسي عن قلقه بسبب "إصرار بعض الأطراف العراقية على التعتيم على ملف خور عبدالله، الذي يعود إلينا كمتخصصين، سواء في القانون الدولي أو العمل المساحي أو حتى الدبلوماسي والمفاوضات. فما حصل بعد قرار المحكمة الاتحادية بعدم دستورية القرار أو اتفاق الملاحة 2012 التي صوت عليها مجلس النواب في حينه لم تكن بالنسبة المطلوبة للمصوتين (نسبة الثلثين زائد واحد)، وأعلنت المحكمة الاتحادية بطلان هذه الاتفاق من الناحية الدستورية. وهنا يجب إيقاف هذه الاتفاق وكأنها لم تكن.

اتفاق ملاحة أم ترسيم حدود؟

وتابع الحلبوسي "يدعي البعض أنها اتفاق ملاحة، لكن مضمونها اتفاق ترسيم حدود، وهذا قفز على الحقيقة، كما أن هنالك من لا يفقه بالعمل الحدودي أو ترسيم الحدود البرية والبحرية فيقع في الخطأ، والسبب أطراف عراقية بعينها، رتبت هذه الاتفاق بالتنسيق مع أطراف من الجانب الكويتي بسبب علاقات تربطهم". وواصل "عليه، فإن أفضل الحلول هي أن يصوت عليها مجلس النواب بالموافقة، أو النقض، بمعنى تأييدهم لقرار المحكمة الاتحادية، وهنا سيعاد الاتفاق إلى رئاسة مجلس الوزراء، ومنها إلى وزارة النقل لتبدأ مفاوضات جديدة".

يذكر أن المحكمة الاتحادية أصدرت 115 قراراً عام 2023، و67 قراراً في 2022، أما في عام 2021 فأصدرت 93 قراراً، ومنذ إنشائها عام 2005 أصدرت 953 قراراً.

المزيد من تقارير