Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 كابوس قرارات بغداد يلاحق إقليم كردستان

عطلت مسار طموحاته لتحقيق استقلال اقتصادي وصولاً إلى إبطال تمديد ولاية مؤسساته التشريعية والتنفيذية

يطمح الأكراد إلى استعادة منصب محافظ كركوك (أ ف ب)

ملخص

 السلطة الاتحادية التي تقودها القوى الشيعية المقربة من إيران عززت خطواتها لكبح سلطة الإقليم.

قد يكون عام 2023 من أكثر الأعوام شؤماً لإقليم كردستان العراق، بفعل جملة قرارات قضائية اتحادية عطلت مسار طموحاته لتحقيق استقلال اقتصادي وصولاً إلى إبطال تمديد ولاية مؤسساته التشريعية والتنفيذية، فيما تقبع حكومته تحت أزمة مالية خانقة ووهن مزمن يضرب قمة هرمها تحت قيادة الحزبين التقليديين في ظل توجس متزايد من تمادي السلطة الاتحادية في تقويضه.

استفتاء

قبل خوضهم استفتاء للانفصال في سبتمبر (أيلول) 2017، احتل الأكراد موقعاً فاعلاً في تشكيل الحكومات العراقية منذ أول انتخابات عام 2005، وتمتعوا بسلطة إدارية منفصلة عن بغداد مكنتهم من توسيع رقعة نفوذهم السياسي والجغرافي، وعززوا اقتصادهم عبر تصدير النفط قبل أن يختل ميزان القوة تدريجياً لمصلحة حكومة بغداد.

 

 

ويُظهر هذا الاختلال كيف أن السلطة الاتحادية التي تقودها القوى الشيعية المقربة من إيران عززت من خطواتها لكبح سلطة الإقليم، منتشية بدخولها مرحلة تحقيق انتعاش واستقرار نسبي في أعقاب غياب سلطة الدولة بسبب الصراعات السياسية ونشوب حرب طائفية وانهيار أمني منذ إسقاط الأميركيين نظام الرئيس الراحل صدام حسين عام 2003.

هاجس التقويض

ويسود اليوم إجماع في الوسط السياسي الكردي بأن بغداد لن تتوقف عن مسعاها إلى تقويض الإقليم لجهة أن الأخير فقد عناصر ثقله محلياً ودولياً، مستغلة حال التنافر بين الحزبين الحاكمين فيه "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني و"الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني، والتي امتدت إلى مستوى المؤسسات التنفيذية والتشريعية في الجانب الاتحادي، وقد فاقمت القرارات القضائية الاتحادية المتوالية أزمته المالية الممتدة منذ عام 2014، في وقت لا تزال فيه السلطة الاتحادية تملك خيارات لاتخاذ تدابير إضافية في ملفات عدة.

قطع عصب الاقتصاد

وشهدت الساحة الكردية مطلع العام الحالي انتكاسات عدة في ملفي الخلافات الداخلية وتلك العالقة مع بغداد على رغم الضغوط والوساطات الغربية بقيادة واشنطن لإنهاء الشرخ القائم. وأدى التقاطع حول القوانين إلى تأجيل ثان لانتخابات برلمان الإقليم إلى فبراير (شباط) 2024، ومن ثم تصادم الطرفين في البرلمان الاتحادي حول حقوق كردستان في الموازنة الاتحادية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل الصدمة الأشد وقعاً كانت في مارس (آذار) الماضي عندما كسبت بغداد قراراً تحكيمياً لدى محكمة دولية بباريس ضد أنقرة لسماحها للأكراد بتصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي بين عامي 2014 و2018، وقضت بتعليق الصادرات وإلزام أنقرة دفع تعويضات تقدر بـ 1.5 مليار دولار، وعليه لم يكن أمام القادة الأكراد إلا الخضوع للأمر الواقع والموافقة على تسليم عمليات الإنتاج والتصدير، وما تزال الصادرات معلقة إثر الخلاف حول صيغة عقود ومستحقات الشركات الأجنبية.

إبطال قرارات تشريعية

بين عامي 2022 و2023 تجاوز عدد الدعاوى المرفوعة ضد الإقليم لدى المحكمة الاتحادية العليا 35 دعوى، ستة أحكام منها تسببت في تعطيل مؤسسات قانونية ورقابية، لكن في عام 2023 وحده تداولت المحكمة الاتحادية أكثر من 20 دعوى، نصفها حسمت لمصلحته في مقابل خسارته ثلاثة، أهمها كان في أواخر مايو (أيار) الماضي عندما صدر حكم بعدم شرعية قرار تمديد دورة برلمان الإقليم لعام إضافي لمخالفته الدستور، مما أدى إلى إنهاء شرعية مفوضية الانتخابات الكردية أيضاً لتتولى بدلاً عنها نظيرتها الاتحادية الإشراف على انتخابات الإقليم المقبلة.

 

 

وفي سبتمبر (أيلول) الماضي أنهى قرار قضائي آخر شرعية المجالس المحلية الكردية بعد إبطال مادة معدلة من قانون كان أقرها برلمان الإقليم تسمح باستمرار عمل الحكومات المحلية في حال انتهاء ولايتها القانونية لحين إجراء انتخابات جديدة.

وبعد هذه القرارات تحولت المحكمة الاتحادية إلى كابوس يلاحق السلطة الكردية، فالقوى والساسة والنشطاء الأكراد المعارضون لحكومة أربيل وحتى شركاؤها وجدوا في المحكمة ملجأ للفصل في كثير من التشريعات والملفات الخلافية في نطاق كيان الإقليم، كما ارتفعت الأصوات المطالبة بربط مرتبات الموظفين الأكراد بالحكومة الاتحادية بسبب عجز أربيل في تأمينها لتشكل عوامل إضافية تعزز تحجيم استقلالية السلطة الكردية.

حقوق مشروطة

وتلقى الإقليم ضربة أخرى عقب إجراء تعديلات مفاجئة على بنود وفقرات الموازنة الاتحادية وإقرارها لثلاثة أعوام، وما رافقها من توتر بين الحزبين، واعتبرها حزب بارزاني "انقلاباً على الاتفاقات السياسية" التي أفضت إلى تشكيل حكومة محمد شياع السوداني، ورأى فيها تجاوزاً على الصلاحيات الدستورية للإقليم لجهة أن القانون يمنح أية مدينة كردية حق المطالبة بحصتها في الموازنة من بغداد مباشرة في حال اختلفت مع حكومتها في أربيل، والذي جاء بطلب من "حزب طالباني".

 

 

وعلى رغم إقرار الموازنة منذ منتصف يونيو (حزيران) الماضي إلا أن الإقليم لم يستلم حصته كاملة والبالغة 12.6 في المئة جراء خلافات واتهامات متبادلة تتعلق بالتنصل من تنفيذ بنود الموازنة، واكتفا الطرفان بالاتفاق على حل موقت تدفع بموجبه بغداد قرضاً بنحو 1.6 مليار لتتمكن حكومة أربيل من دفع رواتب موظفيها المتأخرة عن موعدها لنحو ثلاثة أشهر، فيما يواصل الآلاف من موظفي قطاع التعليم في السليمانية حيث نفوذ "حزب طالباني" إضرابهم منذ بدء العام الدراسي منتصف سبتمبر احتجاجاً على أزمة الرواتب، ليحرم نحو 700 ألف طالب من التعليم.

استراتيجية مبهمة

وأصبحت الأصوات المتوجسة من خسارة مزيد من المكتسبات تدرك مدى صعوبة أن يتمكن الإقليم من الثبات بحكم موقعه الجيوسياسي المحاصر بعوامل فرضتها صراعات مذهبية وقومية وإقليمية، من دون النظر إلى العوامل المحلية من توحيد البيت الداخلي وانتهاج استراتيجية موحدة، وقد تزايدت النقاط الشائكة بين الحزبين حول التعامل مع ملف الإيرادات مع رفض "حزب طالباني" تصدير الغاز الطبيعي الواقع في نطاق نفوذه وفق صفقات النفط التي وقعها نظيره حزب بارزاني مع تركيا، فيما يواجه مشروع توحيد قواتهما المدعوم أميركياً عقبات، وكل طرف يخشى خسارة قوته العسكرية التي تعتبر عنصراً رئيساً  لتحصين نفوذه.

وتتوافق هذه القراءة مع رؤية قدمها القيادي السابق في حزب "الاتحاد" ملا بختيار الذي يؤكد أهمية إجراء مراجعة ذاتية واتباع سياسة مواكبة للمتغيرات، ويعتقد أن "الأكراد عانوا المآسي في فترة الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، وبعد مضي ربع قرن على انتهائها يدخل العالم اليوم حرباً باردة ثانية لكن باقطاب أوسع وصيغة جديدة"، وتسائل "هل يقرأ الأكراد المعادلات الجديدة للحرب؟ وأين موقع كردستان في المعادلة بخاصة أن القوى المتنافسة إقليمياً وعالمياً لم تعد كما كانت عليه قبل قرنين وقد حصلت تغييرات عميقة؟".

 

 

وأوضح بختيار أن "الأكراد في عموم المنطقة افتقروا إلى استراتيجية مشتركة، وهناك أخطار من خسارة بعض ما تحقق في إقليم كردستان منذ عام 1991 تحت قرارات نيابية وقضائية اتحادية بدوافع قومية وطائفية"، وحض "الأكراد عموماً على مراجعة استراتيجيتهم وإعادة التفكير في فلسفتهم السياسية وفق قراءة جديدة تواكب المتغييرات".

ترهل داخلي

التراجع في ملف الاقتصاد وتردي مستوى الخدمات بموازاة زيادة غير مسبوقة في الضرائب مع استمرار واقع إداري منقسم بين الحزبين، دفع بعض القادة والمسؤولين إلى توجيه انتقادات مباشرة من تبعات غياب الحلول والخطط الاستراتيجية، وجاء في تحذير وجهه محافظ السليمانية هفال أبوبكر أن "الإقليم قد ينهار في جميع مفاصله الحيوية وبنتيه التحتية في حال المضي في إدارة الأمور كما هي عليه الآن، سواء داخلياً، أو في العلاقة مع بغداد ومحيطها الإقليمي والدولي، بينما يستمر الحكام والقوى المعنية في المنافسة على حصد مكاسب ذاتية"، وأقر قائلاً "نحن ننفذ من دون إدراك أجندة الأعداء ضد أنفسنا".

طوق اتحادي وإقليمي

وإضافة إلى ما سبق فإن للسياسة الإقليمية والدولية تأثيراً مباشراً في التراجع الكردي، وقد منحت الرغبة لدى دول الغرب بقيادة واشنطن وكذلك الدولتين الجارتين تركيا وإيران في الحفاظ على وحدة العراق، دافعاً إضافياً لبغداد في تعزيز سلطتها على الإقليم، وقد تعاملت أحياناً مع الحزبين الحاكمين فيه كإدارتين منفصلتين لجهة أن الأخيرين أصبحا منشطرين بين قطبين إقليميين متنافسين، فـ "حزب طالباني" بات أكثر من أي وقت منسجماً مع قوى تحالف "الإطار التنسيقي" الشيعية وبالتالي مع طهران التي فرضت على الإقليم مهلة وشروطاً لتحجيم مناوئيها الأكراد الموجودين فيه، بينما يحسب حزب بارزاني على أنقرة، والأخيرة كثفت طوال عام 2023 هجماتها ضد عناصر حزب العمال الكردستاني وبخاصة في السليمانية، واستهدف اثنين من مطاراتها بين شهري أبريل وسبتمبر بتهمة التعاون مع العماليين.

 

ويظهر من خلال الأنشطة الدبلوماسية التأثير المباشر لكل من أنقرة وطهران في الشأن العراقي عندما أجرى قنصلاهما في الإقليم أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لقاءات منقصلة مع مسؤولين أكراد، تركزت على الوضع في كركوك والخلاف بين أربيل وبغداد، فالدولتان تنظران إلى كركوك بأهمية خاصة، والأتراك يعتبرونها عصباً اقتصادياً من خلال أنابيب النفط الممتدة إلى أراضيها، ناهيك عن وجود القومية التركمانية فيها، في حين رسخت طهران نفوذها فيها عبر فصائل "الحشد الشعبي" العراقية وتطمح إلى إحياء مشروع خط الأنابيب الذي يربط كركوك بمرفأ بانياس السوري والوصول إلى البحر المتوسط، في محاولة للالتفاف على العقوبات الأميركية.

ولعل القادة الأكراد يدركون أهمية نفوذ الدولتين، ويتبين ذلك مع تحذير رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني خلال منتدى الجامعة الأميركية في دهوك من "خطورة خروج الخلافات مع بغداد عن السيطرة إذا لم تُحل، وحينها الجميع سيكون خاسراً".

وتابع، "يجب تعلم الدرس من الحرب بين إسرائيل و’حماس‘ الناجمة عن ترحيل الأزمات وتراكمها، ولأن الأمن في المنطقة مترابط فإن أمن الإقليم لا يمكن فصله عن العراق والمنطقة، بخاصة وأن القضية الكردية كما القضية الفلسطينية لها بعد تاريخي وإقليمي عميق".

تدارك متأخر 

وفي خضم هذا الانحدار يحاول الحزبان وبخطوات متأنية تحت الضغط الغربي المتواصل العودة لطاولة المفاوضات لإيجاد نقطة تلاقي، فبعد انقطاع دام شهرين عقدا اجتماعاً في نوفمبر الماضي على أن تتواصل اللقاءات، ومن ثم خاض "حزب طالباني" حوارات ثنائية مع بقية القوى أكدت "أهمية مواجهة محاولات تقويض الإقليم وكذلك إيجاد حلول دبلوماسية للهجمات الإيرانية والتركية ومعالجة أزمة الإضرابات والرواتب"، وقد أعطى هذا الحراك جرعة تفاؤل مع إعلان عودة وزير البيشمركة شورش إسماعيل عن حزب "الاتحاد" إلى عمله بعد عام من تقديم استقالته إثر خلافات بين الحزبين عثرت مشروع توحيد قواتهما العسكرية المدعوم من قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن.

ويرى المحلل الكردي شيرزاد كريم أن الخطوة "تعد بديهية بالنظر إلى تجارب الحزبين السابقة، وغالباً ما كانا يتفقان في ظروف لم تكن لتصب في مصلحتيهما معاً، وهذه الدينامية وجدناها على مر تاريخ الحزبين وبخاصة عندما تتجاوز الأخطار الخطوط الحمر". 

وأوضح، "أعتقد أن المتغيرات في الموازين لمصلحة بغداد سيحتم على الحزبين إيجاد مخرج من خلال بلورة اتفاق جديد على غرار اتفاقات استراتيجية وقعاها في ظروف مختلفة، ومنها اتفاق عام 1998 بوساطة أميركية أسهمت في إنهاء اقتتالهما الداخلي، واتفاق عام 2007 لتقاسم المناصب بينهما في الإقليم وبغداد، وبخلافه فإنه الأخيرة لن تتوقف عن تحجيم سلطتهما".

والنقاش الدائر آنياً بات يرتكز على الخيارات المتاحة أمام الأكراد للحد من تبعات القرارات الاتحادية، وصوغ استراتيجية توائم المتغييرات للحد من التبعات السياسية والاقصادية، وخوض مراجعة كفيلة بتنويع الاقتصاد والتحرر من الارتهان كلياً للسلطة الاتحادية وإجراء إصلاحات شاملة في مفاصل الإقليم.

ووفقاً لبحث أجراه معهد "دار الفكر الكردستاني" فإن الغموض يلف مستقبل العلاقة بين أربيل وبغداد، وعزاه إلى عوامل خارجية وتداخل المصالح الإقليمية والدولية، وأشار إلى أن "إيران مثلاً تدفع حكومة بغداد التي يقودها الشيعة إلى تحجيم الإقليم من خلال المحكمة الاتحادية والميليشيات، وهذا الواقع سيستمر إلا في حال حصول تغيير في ميزان القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا ودول الخليج".

لكن البحث قدم صورة أقل قتامة لجهة أن "بغداد لن تستطيع تجاوز الحدود في إجراءاتها لأسباب تتعلق بالدستور والموقف الغربي، وصعوبة قدرتها على التحكم في جغرافية لا تمتلك فيها أدوات ونفوذاً محلياً، كما أنها لا تنظر إلى الشارع الكردي كعامل يمكن استثماره للانتخابات، لأن مطالب بعض الأكراد بالعودة لبغداد دوافعها لا تتجاوز تأمين الرواتب، والواضح أن الشيعة يستثمرون أموال الدولة لمصلحة سياساتهم".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير