Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أطباء التخدير في سوريا إلى المنافي والمرضى على أبواب المستشفيات

يتركز جزء كبير من أزمة الطب المركبة في سوء التشريعات التي تحمي الطبيب والمريض

ينتظر المرضى في غرف العناية بمستشفيات سوريا الظفر بطبيب تخدير (اندبندنت عربية)

ملخص

لا تلقى الطبابة التخديرية الدعم المطلوب من النظام السوري، ليس على صعيد العنصر المادي فحسب بل الفني أيضاً

لم يبقَ في سوريا بعد أكثر من 12 عاماً من الحرب المدمرة فيها، أكثر من 200 طبيب تخدير، جلّ هؤلاء باتوا قريبين من عمر التقاعد (ما بين 55 و65 عاماً)، وإن كان الرقم العام قد تفاوت بين سنةٍ وأخرى، إلا أن مشكلة طبابة التخدير باتت جلية وواضحة منذ العام الثالث للحرب على الأقل.
يصف مصدر في وزارة الصحة التابعة للنظام السوري الأمر بـ"الكارثة الكبرى المقبلة في سوريا"، خصوصاً في ظل وجود "نحو ثلاثة أطباء على رأس عملهم الفعلي وأعمارهم دون الثلاثين عاماً، بصرف النظر عن الأطباء المقيمين الذين لم ينخرطوا في إثبات توجههم المستقبلي، رغم سهولة توقعه نسبياً أسوة بما فعل غيرهم من اختصاصي التخدير". وأضاف المصدر أن "معظم من يتخرجون كأطباء في اختصاص التخدير أو غيره عامةً يهاجرون فوراً، وكانوا يختارون دولاً كاليمن، والصومال، والسودان، قبل تنشب الحرب هناك، وإلى دول متنوعة في أفريقيا".
ويتقاضى الأطباء السوريون في تلك الدول رواتب يصفونها بـ"الخيالية"، ويرون أن ما يجنونه شهرياً هناك هو ما سيجنونه كحصيلة عمل أعوام طويلة متواصلة في بلادهم، التي تمنحهم مبالغ زهيدة لقاء عملهم شهرياً، فيما تبدأ رواتبهم في مستشفيات الدول البعيدة من ألف دولار وصعوداً. وتُعد ليبيا التي لا تبخل على أطباء التخدير السوريين لديها، مثالاً على ذلك.

اجتهاد طبي

ويحظر القانون السوري مهنياً على طبيب التخدير فتح عيادةٍ مستقلة، وذلك لأن اختصاصه لا يتماشى مع الاختصاصات العلاجية التي تستوجب صرف الأدوية وإجراء الجراحات بشكل مستقل، ولكن "فتوى اجتهادية" صارت أقرب إلى عرف، نصّت على أن يحظى طبيب التخدير بامتياز عقد صفقة مع الطبيب الجراح ويحصل على نسبة مئوية من قيمة الأجور العامة قد تكون 5 أو 10 أو 15 في المئة.
ورغم ذلك فإن ما يمكن كسبه من نظرية النسبة تلك لا يعوض سنوات الدراسة والاختصاص ولا يغني عن مغريات السفر إلى الخارج بعيد جعل العلاقة بين طبيبين قائمة على التفاوض التجاري، يحصل طرفها الأول على النسبة الأعلى، ويكون الآخر الحلقة الأضعف فيها رغم وجوب حدوث العكس نظراً لقلة أطباء التخدير.


أحمال كبيرة

ورتّب هذا الوضع على البلد أحمالاً طبية كبرى تنذر بواقع مأسوي قادم يعكس عدم الاهتمام الرسمي بملف الطبابة التخديرية، وبالتالي عدم وجود خطة لحماية الطبيب وضمان بقائه في بلده، من خلال تأمين تعاقد ثابت مع مستشفيات يتم إلزامها بتمرير مورد مالي ملائم لاختصاص على وشك الانقراض.
في المجمل، تتحمل الحكومة السورية مسؤولية اكتناز تخصصات طبية على حساب أخرى، ففي حين تزدهر بشكل مبالغ فيه الطبابة الجلدية والتجميلية، تنحدر الطبابة التخديرية التي لا تلقى الدعم المطلوب، ليس على صعيد العنصر المادي فحسب بل الفني أيضاً، مما أتاح الفرصة لمخالفة واضحة للقانون أمام فنيي التخدير للقيام بمهمات الأطباء، ما أدى إلى مشاكل كبيرة، أفضت إلى كوارث تمثلت بوفيات متعددة، كان أشهرها حالة الطفل "جود سكر" العام الماضي، الذي قضى بخطأ من فني تخدير قدم نفسه على أنه طبيب، وكذلك وفاة طفل صغير آخر في فترة قريبة إثر محاولة تخديره في عيادة لطب الأسنان ليلقى حتفه.

لا شيء ثابتاً

ويشير المصدر في وزارة الصحة السورية إلى أنه "وإن كان ممكن الحديث عن عدد أطباء التخدير في سوريا اليوم فهو سيكون متبدلاً بعد عام، إذ ما زال هناك طلاب طب في الجامعات، وهؤلاء قد يرفدون السوق إذا تغيرت الأحوال وتمت مراعاة أوضاعهم وقُدمت لهم أسباب البقاء ومغريات العمل لئلا يكونوا غنموا الدراسة مجاناً في جامعات سوريا ثم استهلكتهم دول أخرى كطاقة بشرية بلدهم في أمسّ الحاجة إليها.
وبيّن المصدر ذاته أن "مدناً كحلب وحمص بات فيه اختصاص التخدير قطعاً نادراً فيما يغدو الحال أفضل في دمشق كعاصمة تضم جامعة تخرّج آلاف الطلاب سنوياً، وينعكس ذلك بامتلاك مستشفى الباسل لجراحة القلب نحو 10 أطباء تخدير، فيما وصلت درجة شحّ ذلك الاختصاص في السويداء جنوب سوريا، إلى وجود سبعة أطباء فقط يتنشرون في كل المراكز الصحية بالمنطقة".
وكانت المستشفيات السورية، أو ما بقي منها بعد أن طال الدمار معظمها، قد أوقفت في معظم سنوات الحرب، أو أجّلت، العمليات الجراحية الباردة، على حساب إتمام جراحات الحرب والجراحات المستعجلة، نظراً لصعوبة العثور على أطباء تخدير مما دفع كثيراً من المستشفيات، الخاصة منها على وجه التحديد، إلى الاستعانة بمساعدي أطباء التخدير رغم ما يحمله ذلك من مخاطر على حياة المريض ومسؤوليات قانونية. وبحسب تصريح سابق لرئيسة "رابطة أطباء التخدير" في نقابة الأطباء بسوريا، زبيدة شموط، فإن "سوريا تحتاج اليوم إلى أكثر من ألف طبيب تخدير لتعويض النقص الحاصل".

البحث عن طبيب

مريد فضل، شاب كان يحتاج إلى الخضوع لعملية طارئة العام الماضي، تتعلق بتقويم عموده الفقري ولكن تلك العملية أرجئت ثلاث مرات، بسبب عدم إمكانية العثور على طبيب تخدير في أحد مستشفيات دمشق، ويقول "كان الألم يتفاقم والمخاطر الصحية تتنامى كل يوم، ولم أكن أفهم كيف لا يستطيع مستشفى تأمين طبيب تخدير، وبالتأكيد لم أكن لأقبل أن يتعامل مع حالتي فني تخدير، خصوصاً أن العملية تتطلب تخديراً تاماً، وهذا ليس أمراً بسيطاً إطلاقاً فقد يكون قاتلاً أحياناً". ويضيف "ظللت أبحث بجهود فردية وعبر معارفي حتى تمكنت من الحصول على موافقة طبيب تخدير ملتزم بالعمل في مستشفى آخر. وعلمت أنه يتقاضى أجوراً عالية نسبياً بسبب حالة شبه انعدام البدائل، فكان أول عرض قدمته له أن يطلب الرقم الذي يريده، ولكنه كان إنسانياً بالفعل وقَبِل تخديري مقابل أجر ليس قليلاً ولكنه ليس باهظاً، أي لم يكن جشعاً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الجميع يهاجر

ميهوب سيفي، طبيب تخدير سوري هاجر قبل سنوات إلى السودان ليمارس عمله هناك في أحد المستشفيات قبل أن يعود إلى بلده مرغماً تحت وطأة الحرب بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، وهو الآن في دمشق، يرفض ممارسة المهنة ولو موقتاً منتظراً جواباً لمراسلات بينه وبين أحد مستشفيات ليبيا. ويوضح سيفي أن الأمر قبل أن يكون مرتبطاً بتخصصه فهو مرتبط بالظرف الأكاديمي السوري عموماً، متسائلاً "ليس فقط أطباء التخدير يهاجرون، كل الطبابة تهاجر، والأمر ليس حكراً علينا، ففي سوريا ماذا سيعمل خريج التجارة وإدارة الأعمال والهندسة والآداب وغيرهم؟ الجميع يهاجر، السوريون في الخارج أكثر منهم في الداخل". ويضيف، "في السودان حظيت بعقد ممتاز وراتب أكثر من جيد، كنت أوفر منه، وكان ذلك البلد مستقَراً مؤقتاً لأنطلق منه إلى المملكة العربية السعودية أو إحدى دول الخليج، ولكن الحرب هناك قضت على البلد وعلينا، وكأن مصير السوري أن يتلاقى مع الحرب كيفما اتجه".

بلد للحنين لا للعمل

ليما صنوبر، طبيبة تخدير أخرى شقت طريقها نحو دبي في الإمارات العربية المتحدة بعد أن كانت قد ذاقت مرارة غرابة العمل في تخصصها في سوريا كما تصف حالها لـ"اندبندنت عربية"، وذلك قبل أن تجد نفسها وحياتها وجدوى شهادتها في عملها الجديد. وتقول "لا يمكن بالضبط اعتبار أنني أعمل بالتخدير الجراحي التام، ولكنني أعمل في عيادات طبية عالمية كأخصائية تخدير غير جراحي، وأتقاضى أجوراً شهرية من دون مبالغة قد تعادل أرباح 10 أطباء جراحة مجتمعين في بلدي، والجميل أنه لدي كثير من الزملاء الأطباء السوريين حولي هنا، فبلدنا صارت محرقة، ولو اعتبرنا أن ظرف العمل جيد فيها، فهل تصلح للعيش اليوم؟".
وتتابع، "لو كنت في سوريا وباختصاص غير التخدير، لن يكون في عيادتي كهرباء ولا ماء وستكون هناك ضرائب هائلة، والناس لا تملك ثمن المعاينات الباهظة ولا ثمن الأدوية الغالية، لذا وبحسبة منطقية، سوريا ليست بلداً للعمل بقدر ما هي بلد للحنين إلى ذكريات ما قبل الاصطدام بالواقع الفاسد".


أزمة مركبة

لا تقتصر كوارث الملف الطبي السوري على هجرة أطباء التخدير، بل تتعداها إلى مجمل الاختصاصات، ففي مدينة مهمة كحمص وسط البلاد، بالكاد بقي بعد الحرب، عدد قليل من أطباء الأمراض العصبية، والداخلية، والهضمية، والقلبية، وطبيب أو اثنين مختصين بالطب النفسي، وأقل من 10 مستشفيات، بينما كان ثلثها يعمل خلال الحرب، وبينهم مستشفى عسكري، ومستشفى عام قيد الترميم، ومشروعا مستشفيين عامين بالكاد يصلحان لاستقبال حادثة سير.
هجرة الأطباء بشكلها العام تأخذ شكلاً مركباً يتطابق مع التدهور الاقتصادي الحاصل في البلاد انطلاقاً من ارتفاع أجور المعاينة والجراحات وصولاً إلى عدم قدرة المواطن السوري على تحمل تلك المصاريف ما أثّر أيضاً على عمل الصيدليات التي تراجعت مبيعاتها، بيد أن الحل كان وما زال بيد الحكومة التي تستطيع وضع تشريعات وسنّ قوانين تحفظ كرامات الناس والمهن وتؤمن استمرار سير عجلة الحياة في البلاد دون أن يهاجر طبيب أو يموت مريض.

اقرأ المزيد

المزيد من صحة