Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيكون رسام صنعته نساء بيكاسو ومذابح الأبرياء ولحوم متاجر "هارودز"

واحد من 3 أعادوا الاعتبار إلى الفن الإنجليزي في القرن الـ20

فرنسيس بيكون (1909 – 1992) (أ ف ب)

ملخص

واحد من 3 أعادوا الاعتبار إلى الفن الإنجليزي في القرن الـ20

يقيناً أن أحداً لم يكن من شأنه أن يبالي بذلك الشاب الأنيق الخارج لتوه من المراهقة وهو يقف كل يوم تقريباً في فرع بيع اللحوم في متاجر هارودز اللندنية متأملاً المشهد من حوله بصمت ودهشة وهو الذي لم يكن ليبالي بدوره على أي حال بشيء آخر مما حوله، غير منظر قطع اللحم المعلقة برسم البيع مفتتناً بالبائعين وقدرتهم اللافتة على تقطيع اللحوم. لسوف يقول ذلك الفتى بعد نصف قرن من ذلك، إن اهتمامه بمنظر اللحوم لم يبدأ إلا بعدما اكتشف لوحة للرسام الروسي الأصل سوتين تمثل المشهد نفسه، ليكتشف بعد ذلك بحين أن سوتين نفسه إنما رسم لوحته على سبيل محاكاة مشهد مشابه رسمه الهولندي الكبير رمبراندت قبل مئات السنين. في تلك الحالات الثلاث لم يتوصل ذلك الشاب إلى إدراك سر افتتانه هو نفسه بمنظر اللحوم المقطعة لكنه سيفترض أن للمسألة بعداً فلسفياً استوقفه ليدرك لاحقاً أن ذلك البعد الفلسفي يرتبط بـ"كوننا جميعاً مصنوعين من لحم ودم"، بيد أن ذلك الاستنتاج أتى كما سيقول بنفسه متأخراً جداً "مثل حال كل شيء صنعته في حياتي". فحين كان الفتى يتأمل منظر اللحوم في متاجر هارودز لم يكن ليخطر في باله أنه سيصبح رساماً بالفعل ذات يوم وسيكون منظر اللحوم واحداً من مواضيعه الأثيرة.

متأخراً عن سن الأحلام

بل حتى واحداً من ثلاثة أسس كونته بالتوازي مع ولادة رغبته في أن يكون رساماً هو الذي سيقول لاحقاً أيضاً إنه لم ينتقل إلى ممارسة الرسم على أي حال، إلا متأخراً وقد تجاوز السن التي يحلم بها فتى ما بأن يجعل الرسم وسيلته وهدفه في الحياة "وكان هذا التأخير طبيعياً كما سيقول بالنسبة إلى فتى ولد وترعرع في إيرلندا على رغم أنه ينتمي إلى عائلة إنجليزية كان رب البيت فيها ضابطاً في جيوش صاحبة الجلالة آثر حين خرج من الجيش أن يعيش في دابلن الإيرلندية لمجرد أن كلفة الحياة فيها لم تكن باهظة بالنسبة إلى عائلة كانت تتألف من ذلك الأب الذي سيطرد ابنه لسوء سلوكه ولخيبة أمله فيه، إذ رغم أنه سماه فرنسيس بيكون تيمناً بالفيلسوف الكبير آملاً أن يكون مثله شخصاً ذا شأن لم يبدُ عليه أنه يحمل نفس الطموح. وطبعاً كما سيقول الرسام الذي صاره ذلك الفتى لاحقاً، لم يكن من السهل على أي فتى "إيرلندي" في ذلك الحين أن يقرر أن يصبح رساماً فـ"إيرلندا" لم تكن أبداً بلدا ينتج رسامين، بل ينتج كتاباً وربما مسرحيين وروائيين في أحسن الأحوال". لكن الفتى سيصبح رساماً، بل واحداً من ثلاثة فنانين كبار صنعوا مجداً فنياً لإنجلترا في القرن الـ20، إلى جانب رفيقيه لوسيان فرويد وديفيد هوكني. ولكن من المؤكد أن تحول بيكون إلى الرسم بعدما تجاوز الخامسة والـ20 لم يحدث في دابلن ولكن في... ألمانيا، وبعد ذلك في باريس لدى إقامته فيها خلال عام ونصف العام لم يبارح خياله فيهما مشد اللحم المقطع في متاجر هارودز. ولكن بعد أن انضاف شيء لم يكن ليخطر له في بال، سنصل إليه بعد سطور.

في ظل البوهاوس

قبل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن التقدم الذي كانت قد أحرزته فنون التصميم في ألمانيا، وتحديداً في حقبة "البوهاوس" التي شهد الفتى في ذلك البلد انطلاقتها الكبرى، مما جعله ينصرف إلى العمل كمصمم للأثاث وخبير في الديكورات الداخلية إنما دون أن يخطر في باله أن ذلك العمل نفسه سرعان ما سيندمج لديه مع مشاهد متجر هارودز ليأتي اطلاعه على لوحات بيكاسو في معرض للفنان الإسباني هذا، تميز بلوحات لمصارعي الثيران وبخاصة منهم أولئك المنبطحون على الأرض مضرجين بدمائهم، مذكراً إياه بلحوم المتجر الكبير، ولكن يتميز كذلك بلوحات ضخمة تصور نساء عملاقات ومشوهات على الشاطئ. ليتواكب ذلك بخاصة مع اكتشافه في معرض باريسي أيضاً لوحة للرسام الفرنسي بوسان هي، كما سيعلمنا لوحة "مذبحة الأبرياء" التي ستحمل إحدى الشخصيات المرسومة فيها، صرخة رعب على ملامح تلك الشخصية البريئة، لا تبتعد كثيراً عن أشهر صرختي رعب وألم تحملهما لوحة "الصرخة" للرسام النرويجي إدفارد مونخ من جهة، ولقطة الصرخة التي تطلقها أم مرتاعة على سلالم مدينة أوديسا الأوكرانية، وطبعاً في فيلم "المدرعة بوتمكين" للسينمائي الروسي سيرغاي إيزنشتاين كواحد من المشاهد السينمائية الأكثر رعباً في تاريخ الفن، ستلح بدورها دائماً على ذاكرة بيكون فتسهم في ولادة الفنان فيه وقد علمه فن التصميم والديكور بعداً وجده ينمو تلقائياً لديه: بعداً يمكن وصفه بأنه تنظيم المكان لتمكينه من استيعاب ما سيسميه الفنان نفسه، "مرارة الشرط الإنساني".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مكوك إبداعي بين الواقع والفن

والحقيقة أن بيكون ومنذ لوحاته الأولى، وقبل أن يتناول نقاد الفن ومؤرخوه تلك الجذور الثلاثة التي جعلت منه فناناً كبيراً، عرف هو كيف يوضح تلك المكونات في علاقتها مع فنه. بل سيوضح أكثر من ذلك، كيف أن ولادته كفنان عرفت كيف تنهل من تلك المكونات وكأنها تولد من العدم. هو الذي سيضيف دائماً أنه قبل "اكتشافه" إمكانية تحويل تلك الرؤى إلى عناصر تخلق لديه البعد الجمالي في تمازج مع بعد فلسفي لم يكن هو نفسه في حاجة إلى انتظار النقد ليدله عليه. لكنه في الوقت نفسه لم يكن في حاجة بالطبع إلى الاستعانة بأي "موديلات" تساعده على نقل الواقع التصويري الذي سيشتهر به. الواقع الذي جعله يستنبط عناصر مواضيعه وأشكاله الفنية من معاناته الوجودية نفسها في تقبله للحياة ولكن أيضاً في سبره لأغوار ذاكرته الخاصة كاتباً سيرته على مسطحات بيضاء اعتادت أن تكون ضخمة بل متعددة (لا يقل ارتفاع لوحاته عن مترين تقريباً مع عرض يصل إلى ثلاثة أرباع ذلك الارتفاع من دون أن ننسى أن معظم أعماله الكبرى تتألف من ثلاثيات تكاد تشكل ثلاث لحظات من المشهد نفسه، فالتقسيم الثلاثي للمشهد بقي منذ لوحاته الأولى وحتى آخر ما رسم قبل قليل من رحيله في مدريد عام 1992، بقي أسلوبه الأثير). وإلى هذا اشتهر فرنسيس بيكون المولود كما أشرنا في دابلن الإيرلندية عام 1909، بكونه اتخذ من ذاته كذلك من أصدقائه ورفاقه موضوعاً للوحاته إضافة إلى اتخاذه الفن التشكيلي السابق عليه موضوعات له: على سبيل المثال، لا بد أن نذكر هنا بواحدة من أشهر لوحاته "بورتريه البابا إينوتشنتي العاشر" التي وإن كانت لوحة طور فيها لوحة كبيرة معروفة من تاريخ الفن وهي تلك التي رسمها بيلاسكويث عام 1650، فإنها أتت بين يدي بيكون نوعاً من بورتريه ذاتي مثل نوع من التحية، التراجيدية بمعنى التعبير عن الشرط الإنساني على أي حال، لذلك الرسام الذي يعتبره وربما سيراً على خطى بيكاسو، أستاذه المباشر الكبير، وواحداً من المؤثرين الكبار في مسيرته الفنية اللافتة.

ومن هنا نفهم ما يخبرنا به بيكون نفسه لا سيما حين يجد من بين النقاد والمؤرخين من يثنون على فنه انطلاقاً من كونه فناً يستلهم الواقع وأحياناً الواقع المفرط، ليضيف أن "واقعيتي هي على أي حال، واقعية من نوع خاص جداً، وبالتحديد من نوع يصل إلى الواقعية من طريق الفن السابق عليه وليس العكس" أي إن واقعيته الخاصة إنما هي تلك التي تستعيد الواقع من الفن الذي كان قد عبَّر عنه. ومن هنا لا شك أن ميزة فن فرنسيس بيكون الرئيسة تكمن في كونه، حتى وإن اعتبرت لوحاته دائماً منتمية إلى أكثر درجات الواقع تطرفاً، فإنها في حقيقتها أشبه بأن تكون نوعاً من تحية إلى الفن الذي كون ابن القرن الـ20 هذا... وكون عبره أكثر من ذلك، فنا هو الذي كون الحياة إن جاز لنا هذا القول.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة