آلاف الكيلومترات وعقود طويلة كانت تفصل بين الكاتبة التشيلية ذات الأصول الفلسطينية لينا مرواني، وبين وطنها الأم، لكن معضلة الهوية، والارتباط بالجذور، ورسائل الكون وإشاراته، أججت - جميعها - لديها، رغبة كامنة في العودة للوطن. ودفعتها للعبور عائدة إلى فلسطين، بجواز تشيلي، لترصد الألم الكثيف، الذي يتشاركه الفلسطينيون بين المنفى والوطن. وتوثق هذا الألم في كتابها "أن تعودي فلسطين" (الكتب خان)، وهو مترجم إلى العربية عن الإسبانية بتوقيع شادي روحانا.
يندرج السرد في فئة السيرة الذاتية، لكن الكاتبة لم تقترب من همها الخاص، إلا فيما يتقاطع منه مع قضية الهوية الفلسطينية، التي نالت منها مطرقة التهجير من وطن نزحت منه، وسندان العنصرية في وطن نزحت إليه، لتكون كل خطوة في هذه الرحلة، محاولة لاستجلاء تلك الهوية الغائمة، ونزع الضبابية عنها. وعلى رغم أن فلسطين، كانت الفضاء المكاني الأبرز في السرد، عرجت مرواني على رحلات أخرى، قامت بها إلى بعض البلدان، منها القاهرة، وبرلين ونيويورك. وتطرقت عبر كل رحلاتها إلى قضايا شائكة، تتصل بالهوية، والظلم، والعنصرية، والتمييز.
استهلت الكاتبة سيرتها باقتباس لإدوارد سعيد: "إن مصير الفلسطينيين، بطريقة ما، هو أن ينتهي بهم المطاف، ليس حيث بدأوا، بل في مكان ما غير متوقع وبعيد"، لتأخذ القارئ من هذه التوطئة، إلى ذاك المكان البعيد وغير المتوقع في تشيلي، حيث نزح أجدادها الفلسطينيون، كحال كثر من الأسر الفلسطينية المسيحية، التي غادرت فلسطين في عهد الحكم العثماني. وبينما تفصلها عن هجرتهم، عقود من محاولات الاندماج، خسروا خلالها جذورهم، أسماءهم، وألسنتهم، تصبح العودة هاجساً يداهم ذهنها، كلما وثبت إليه فلسطين، لكنها ليست عودتها هي، إذ لم تطأ أقدامها تلك الأرض، ولم تحمل ذاكرتها صورة منها، وإنما هي عودة مستعارة نيابة عن آخرين أجبروا على النزوح، وحرموا من حق العودة، ومحاولة للتشبث بما تبقى من فلسطين، كي لا تتلاشى.
جراح نازفة
كان اعتذار الأديب الإسرائيلي اليساري عن كتابة نص يشمل وقائع حياته في يافا، خوفاً من ملاحقة الحكومة الإسرائيلية له، محفزاً للكاتبة كي تقوم بزيارة فلسطين، من أجل أن تكتب نصاً عنها. ودعم قرارها، تشجيع الأديب الإسرائيلي نفسه لها على زيارة أرض أجدادها، وعزمه وزوجته الفلسطينية على استقبالها في منزلهما. وهكذا وبعد نهاية فصل من الصراع الداخلي بين العودة واللاعودة، انتهت مرواني بالانحياز إلى زيارة فلسطين، لتقتفي عبر رحلتها أثر قصص مبتورة، وجدران استوت بالأرض، وبقايا عائلة. وعززت كل ما التقطته من صور بلغة مشهدية فائقة، استطاعت عبرها أن تبث الحياة في ذلك الذي يحدث بعيداً داخل النفس الإنسانية، من ارتباك، والتباس، واضطراب شعور العائد إلى الوطن الأم، بعد اعتياده حافة شعورين، المواطنة واللجوء، "أبدأ بالضحك، لأن هناك ضجة، وهناك مبالغة، وهناك بلبلة في هذه الكلمة، وهناك أيضاً فراغ كبير من السنين والبحر والفقر المحتمل، لكنني مع كل family تخرج منها أضحك أكثر وأقول yes family yes وكأني نسيت كل الكلمات الأخرى" (ص60).
المعايشة الحية
يصبح الألم كثيفاً، بعدما تعايش الكاتبة واقعاً، يعاني فيه الفلسطينيون أقسى أنواع المعاناة، فتقوم برصد روافدها، من جدران أسمنتية عازلة، أسلاك شائكة تفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين، وتفصل الفلسطينيين عن بعضهم بعضاً، حتى داخل الحي نفسه، شوارع مخصصة لليهود وحدهم، تمييز، نقاط تفتيش لا تنتهي، وإنما تقتل الوقت، والأمل، والحياة، أسعار مرتفعة تحرم الفلسطينيين من امتلاك أي شيء، كنوع آخر من المصادرة، معسكرات اعتقال، سجن للأطفال، والمرضى، والنساء، مضاعفة المستوطنات، حصار غزة وتحويلها إلى سجن مفتوح، يتعرض للقصف على نحو مستمر. واستدعت مرواني عبر ما التقطته من صور نقاط التفتيش، والوجود العسكري الكثيف في فلسطين، مشاهد من الذاكرة لمباحث الديكتاتورية في تشيلي، وعقدت مقارنات بين العسكريين في كلتا المدينتين، لتبرز قسوة الواقع الفلسطيني. لكنها على رغم ذلك، لم تضع الآخر الإسرائيلي كله في سلة واحدة، فبينما أبرزت تطرف المستوطنين، وممارساتهم، حد وضع لافتات على سياراتهم، تحوي عبارات مثل: "أنا قتلت عربياً وأنت؟"، أبرزت في المقابل، الإسرائيلي اليساري، الذي يدافع عن حقوق الفلسطينيين، ويتعرض في سبيل ذلك، للترحيل، أو السجن، أو الاتهام بالخيانة، والجندي الذي يرفض الخدمة العسكرية، معلناً عصيانه وتمرده على اقتراف الظلم. وكذا الجماعات التي تعمل ضد الضم، ومن أجل التعايش المشترك، والمؤسسات التي تسعى إلى خلق بيئة مختلفة، يسودها التعايش والسلام، بدلاً من التمييز والكراهية، مثل مدرسة "ماكس ريان" في القدس، التي تقدم تعليماً ثنائي اللغة، ومتعدد الثقافات، لأولاد العرب واليهود معاً. وتربيهم على احترام الآخر. ولا تتعاطى مع الناس باعتبارهم ممثلين للحكومة، ولا لحماس. غير أن تلك القواعد، لم تمنع المتطرفين من رسم شعارات الكراهية ضد العرب، فوق جدران المدرسة، وإشاعة الخوف لدى الأطفال الفلسطينيين.
كذلك أبرزت ما يتعرض له هذا الآخر نفسه من تمييز من قبل دولته، لا سيما اليهود الروس، نتيجة التشكيك في هويتهم، ويهود الفلاشا ذوي الأصول الأفريقية: "يهود شاحبون، مرفوضون من قبل الإسرائيليين الأكثر دوغمائية، والذين يحتقرونهم، ولكنهم في حاجة إليهم، فهم يقومون بالأعمال التي قام بها الفلسطينيون من قبلهم" (ص261).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تمكنت الكاتبة عبر إبراز التقابل بين الأنا والآخر، من نقل صورة أكثر واقعية، وموضوعية، للواقع الفلسطيني، ومن تمرير مفارقات عدة، فاليهودي الناجي من النازية، يدعو إلى قتل العرب في غرف الغاز، والقانون الذي يصف فلسطينياً تشاجر مع مستوطن بـ"المخرب"، ويزج به في السجن، هو نفسه الذي يغض الطرف عن جرائم المستوطن، ويتركه حراً طليقاً، وفلسطين التي روجت عنها الصهيونية أنها "أرض بلا شعب"، هي ذاتها التي تشهد زيادة ديموغرافية مطردة للفلسطينيين، على رغم بعثرة كثر منهم في أرجاء الجغرافيا، وألمانيا التي لا تزال تدفع التعويضات لإسرائيل على جرائمها الوحشية، التي مرت عليها عقود من الزمن، لا تلتفت للجرائم، التي تقترف في حق الفلسطينيين في الوقت الحاضر.
وكما اعتمدت مرواني بعض المفارقات الدلالية، في رصد الواقع الفلسطيني، لجأت إلى المفارقات السردية، فدمجت بين تقنيات الاستباق الزمني والاسترجاع، في مواضع مختلفة من نسيج سيرتها. وتمكنت عبرها من تعزيز جمالية سرد سيرتها، وكذلك من الاستحواذ على القارئ، وزيادة أثر الصورة التي نقلتها عن معاناة الفلسطينيين: "عمتي البكرية ستسألني بعد أسابيع، عبر الهاتف، إذا لحقت مريم أن تحكي لي عن تلك المرة التي كانت فيها سجينة في الطابق الأول من بيتها لأيام عدة، ممنوعة هي وأختها من النزول، العساكر الإسرائيليون فتشوا الطابق الأرضي، باحثين عن شيء أو شخص ما، لم يتمكنوا من العثور عليه" (ص94).
نقلت مرواني انتشار الكاميرات في الأراضي الفلسطينية، كمأساة أخرى من مآسي الواقع الفلسطيني، والتي تتجاوز غاياتها المراقبة بمعنى التلصص، إلى التدخل المطلق حد العري. ومن هذه الإشكالية انطلقت إلى إشكالية أكبر، تتصل بتطويع تقنيات الذكاء الاصطناعي، لا سيما تقنية التعرف على الوجه، واستخدامها في عمليات التجسس، بل واتخاذ قرارات تستند لنتائج تلك التقنيات، على رغم أنها قد تخطئ أيضاً. وعادت عبر هذه الآلية (التعرف على الوجوه) إلى واحدة من القضايا الرئيسة في النص، وهي قضية التمييز والعنصرية الثقافية، التي تدفع المتشابهين، لنبذ من يختلفون عنهم.
أبرزت الكاتبة تمسك الفلسطينيين - على رغم مما يعيشونه من غبن - بالأمل، وحب الحياة، وحرصهم على أن يعيشوها، بكل الكثافة المتاحة لهم، وهو ما سمته بالمقاومة الارتجالية، التي رصدتها تارة عبر خطابات الأديب الإسرائيلي (الذي لم تذكر اسمه)، وتارة أخرى عبر مشاهداتها الخاصة في رحلتيها، فهم يقاومون التعسف في نقاط التفتيش والوقت الضائع فيها، بالاستمتاع بالبطء الشديد، والتخلي عن الجزع، وإضاعة وقت الجنود بالمثل. يبتكرون الحلول لزراعة أراضيهم، على رغم مخلفات المصانع التي تستخدم لإجبارهم على التخلي عنها، يرقصون دبكتهم، يصنعون المسرحيات، ويحيكون من السعادة ما يتحايلون به على الخوف والموت الغزير.