Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكرملين يفرض بهدوء نظام حكمه في المناطق الأوكرانية المحتلة

تراهن موسكو على أن الأطفال الأوكرانيين سيصبحون على المدى الطويل مندمجين اجتماعياً كمواطنين روس يتمتعون بشعور وطني

أنصار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في دونيتسك الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا، يناير 2024 (رويترز)

ملخص

في حين تستمر الحرب في أوكرانيا بلا أفق لنهايته تعمل روسيا بلا كلل في محو كل ما يمت بصلة بأوكرانيا في المناطق التي تحتلها

بينما يستمر الغرب في خلافاته حول تقديم مزيد من المساعدات لأوكرانيا، تعمل روسيا بهدوء على تعزيز سيطرتها على الأراضي التي تحتلها في جنوب شرقي البلاد. ومع استقرار الوضع في خط المواجهة عام 2023، ظلت روسيا تسيطر على ما يقارب 18 في المئة من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك نحو 25 ألف ميل مربع (65 ألف كلم مربع) من المناطق التي جرى الاستيلاء عليها منذ فبراير (شباط) 2022. وتشارك جميع فروع الحكومة الروسية في تنفيذ برنامج مكلف وطموح يرمي إلى دمج هذه المناطق المحتلة حديثاً. ويأمل الكرملين في خلق حقائق على الأرض سيكون من الصعب على أوكرانيا تحديها، سواء من طريق القوة العسكرية أو في محادثات سلام تجرى في المستقبل.

وضمت روسيا بصورة احتفالية أربع مناطق أوكرانية، وهي دونيتسك ولوغانسك في شرق البلاد وزابوريجيا وخيرسون في الجنوب، في سبتمبر (أيلول) 2022، على رغم أن جيشها لا يسيطر بصورة كاملة على أي من هذه المقاطعات. ومنذ ذلك الحين، غيّر المسؤولون الروس أسلوب حكم المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وأجروا هناك انتخابات شكلية في سبتمبر الماضي، وقاموا بتعيين مسؤولين موالين لموسكو على كل المستويات. ويشرف حالياً جيش من التكنوقراط على الاستيعاب الكامل لهذه المناطق، ومواءمة قوانينها وأنظمتها الضريبية والمصرفية مع تلك المطبقة في روسيا، والتخلص من أي آثار للعلاقات المؤسسية مع أوكرانيا. وتستمر فترة انتقالية اسمية حتى يناير (كانون الثاني) عام 2026. وبحلول ذلك الوقت، يتوقع الكرملين أن تكون الأنظمة القانونية والقضائية والسياسية الروسية سارية بصورة كاملة في تلك الأجزاء التي يطلق عليها اسم "المناطق الجديدة".

وهذا الاحتلال الإداري ليس معروفاً بالقدر نفسه الذي تمتاز به أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان التي تصاحبه. لكن حرب روسيا في أوكرانيا تمضي إلى ما هو أبعد من هجماتها القاسية بالصواريخ والطائرات من دون طيار، وجحافل جنودها، وخطابها العدواني. وفي أوكرانيا المحتلة، كان البيروقراطيون فعالين في إجبار السكان المحليين على الامتثال. وحتى في وقت يقاوم فيه بعض الناس [الاحتلال]، فإن السلطات تفرض السلطات التعليم الروسي، والتلقين الثقافي، كما تطبق الأنظمة الاقتصادية والقانونية من أجل ربط هذه الأراضي بروسيا بصورة أكثر إحكاماً. وكلما طال أمد احتلال روسيا لهذه الأراضي، أصبح من الصعب على أوكرانيا استعادتها.

تحت النير الروسي

ربما فر أكثر من نصف السكان الذين كانوا يعيشون قبل الحرب في المناطق المحتلة حديثاً، وذلك في أعقاب تعرضها للغزو الروسي عام 2022، لكن بالنسبة إلى أولئك الذين ظلوا في مناطقهم، فإن النظام الروسي قد أجبر الجميع تقريباً على التزام مستوى معين من التعاون. ووفقاً للأرقام الروسية، فإن ما يقارب 90 في المئة من السكان المتبقين في المناطق الأربع التي جرى ضمها، ويقدر عددهم بنحو ثلاثة ملايين شخص، قد حصلوا الآن على جوازات سفر روسية. ليس لديهم كثير من الخيارات: فأنت في حاجة إلى جواز سفر روسي لفتح حساب مصرفي، أو إدارة مشروع تجاري، أو تلقي مدفوعات الرعاية الاجتماعية.

إن تقييم مواقف وولاءات هؤلاء الذين يعيشون تحت الاحتلال الروسي أمر صعب للغاية. ولا توجد وسائل إعلام مستقلة أو منظمات مجتمع مدني في مناطقهم، وتقوم الأجهزة الأمنية بمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي بعناية. إلا أن المجتمع في المناطق المحتلة حديثاً منقسم بصورة واضحة. لقد خدمت أقلية من الناس في إطار نظام الاحتلال أو تبنوا علناً مواقف مؤيدة لروسيا، غالباً ما كانت تتماشى مع مشاعرهم قبل الحرب. غير أن الزوار الروس إلى المناطق المحتلة حديثاً يتحدثون عن مواجهتهم عداءً هادئاً من جانب السكان المحليين.

واستمر الجيش الأوكراني في أعمال المقاومة المسلحة خلف الخطوط الأمامية في كل المناطق الأربع، مع ورود تقارير كل بضعة أسابيع عن حدوث تفجيرات سيارات مفخخة تستهدف بعض الضباط الروس أو العملاء المحليين. ومع ذلك، فإن معدات الفرز الوحشية والفعالة التي اتبعها الروس، أي الإجراءات التي تفحص خلفية كل فرد، وسجل الخدمة العسكرية الخاص به، ووجهات نظره السياسية، كانت سبباً في قمع المقاومة الشعبية. يحاول معظم الناس ببساطة تدبر أمرهم من دون أن ينتهي بهم الأمر "في القبو"، وهي العبارة التي يصف بها السكان المحليون الوحشية المروعة للاعتقال من قبل الروس. إن روسيا سعيدة برؤية المعارضين المحتملين يغادرون: فلا يزال هناك طريق للخروج مفتوح أمام أولئك الذين يملكون المال من أجل شراء تذكرة على متن حافلات مستأجرة منتظمة تسافر من الأراضي المحتلة إلى أوروبا عبر روسيا.

ويجب على أولئك الذين بقوا أن يتحملوا الرسائل والتلقين العقائدي الذي لا نهاية له. كلما وصلت القوات الروسية إلى مدينة جديدة في أوكرانيا، استولت بسرعة على برج التلفزيون. لقد أوقفوا البث الأوكراني وباتوا ينقلون دعاية الكرملين. الصحافي الروسي ألكسندر مالكيفيتش، الذي فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليه لمحاولاته التدخل في السياسة الأميركية عام 2018، ظهر في يونيو (حزيران) 2022 في خيرسون وزابوريجيا المحتلتين من قبل روسيا بهدف إنشاء محطات تلفزيون محلية جديدة وإقامة مدرسة للصحافيين الشباب. وتبث محطته الإذاعية المحلية في المناطق المحتلة عروضاً موسيقية وطنية للقوات الروسية.

يستطيع عدد قليل من السكان المحليين تحمل هذه الدعاية الروسية الصارخة، ولذلك فهم يبحثون عن بدائل. يقوم معظم الأشخاص بتصفح قنوات "تيليغرام" التي لا نهاية لها بحثاً عن الأخبار. ويستخدم الجميع تطبيق المراسلة هذا في الأراضي المحتلة، بمن في ذلك المسؤولون الموالون لروسيا وأعضاء المقاومة الأوكرانية. إنها ساحة معركة رئيسة في الحروب الدعائية، ولكنها أيضاً آلية للبقاء على قيد الحياة للأشخاص العالقين تحت الحكم الروسي.

ويمكن للمستخدمين أن يحصلوا عبر قنوات "تيليغرام" المحلية، على تحذيرات في شأن الهجمات الصاروخية الوشيكة، أو يستطيعون معرفة متى تفتح البنوك أبوابها، أو أن يناقشوا كيفية إجراء اتصال أفضل بالإنترنت، أو اكتشاف أفضل مكان لطلاء الأظافر وتجميلها. وتدير روسيا الآن كل شبكات الاتصالات والإنترنت في المناطق التي ضمتها، مما أدى إلى حجب عديد من المواقع الإخبارية الأوكرانية. يستخدم الناس شبكات خاصة افتراضية (في بي أن) VPN للالتفاف على الحواجز الروسية والوصول إلى المصادر الأوكرانية، ولكن بعض السكان المحليين يقولون إنهم لم يعودوا يهتمون مع مرور الوقت. ويشكو البعض الآخر من أن الأخبار الأوكرانية بعيدة كل البعد من واقع الحياة التي يعيشونها في ظل الاحتلال.

في ظل الاحتلال أي قرار قد يكون مصيرياً

لا يستطيع الأطفال تجنب الدعاية في المدارس القائمة في المناطق التي تحتلها روسيا. فهم يجبرون على أداء النشيد الوطني الروسي كل أسبوع. وقد انتقلت المدارس بالكامل لاستخدام المنهاج الروسي، مع التقليل من أهمية الأوكرانية واعتبارها لغة ثانية اختيارية. ويجري تدريس التلاميذ الكبار كتاب التاريخ الروسي الجديد الذي يعلمهم أن أوكرانيا تدار من قبل النازيين الجدد، وأن ما يسمى العملية العسكرية الخاصة التي نفذتها روسيا في أوكرانيا كانت بمثابة رد فعل له مبرراته على العدوان الغربي. وإذ يتمكن بعض الآباء من إبقاء أطفالهم يدرسون في المدارس الأوكرانية عبر الإنترنت، فإن هذا أمر محفوف بالأخطار، ويفيد تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية بأن الآباء يخشون من أن يؤخذ أطفالهم بعيداً إذا جرى اكتشاف تسجيلهم في المدارس الأوكرانية للتعلم من بعد.

ورفض بعض المعلمين استخدام المنهاج الروسي الجديد، وذلك على رغم الاعتقال والتهديدات. إلا أن عديداً منهم يواصلون العمل في ظل النظام الجديد، إذ ذكرت تقارير أن آلاف المعلمين الأوكرانيين قد خضعوا لدورات إعادة تدريب إلزامية في شبه جزيرة القرم وروسيا. وتختلف دوافعهم. قد يكون عدد قليل منهم ممن يرغبون بأن يكونوا جزءاً من نظام سياسي روسي أكبر. وربما كان هناك آخرون يكرهون دائما التحول إلى تعليم اللغة الأوكرانية الذي حدث في السنوات الأخيرة، ورحبوا بالعودة من جديد إلى تعليم اللغة الروسية. ولعل بعض المعلمين اعتقدوا أن بإمكانهم التخفيف من أسوأ جوانب التعليم الروسي، والعمل ضمن النظام لحماية طلابهم. ورأى آخرون أن الاحتلال الروسي يمثل فرصة من أجل تحسين الرواتب والترقية. وقد بقي عديد من الأشخاص في هذه المناطق لأن لديهم أقارب مسنين لا يرغبون في الانتقال إلى مكان آخر أو لأنهم لا يستطيعون مواجهة العيش في المنفى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي ظل الاحتلال، أي قرار قد يكون مصيري. إن اختيار العمل في مدرسة تسيطر عليها روسيا، أو أي منظمة محلية أخرى، يترك السكان عرضة للملاحقة القضائية من قبل السلطات الأوكرانية بتهمة التعاون مع الاحتلال. وقد رفعت السلطات الأوكرانية سلفاً ما لا يقل عن 6000 قضية ضد المتعاونين المفترضين منذ صدور قانون جديد في مارس (آذار) 2022. وتراوح العقوبات المحتملة ما بين حظر التوظيف الحكومي في المستقبل وبين عقوبات السجن الطويلة ومصادرة الممتلكات. إن القانون مثير للجدل، فهو يحدد التعاون مع الاحتلال على نطاق واسع إلى درجة أن عديداً من أصحاب الأعمال أو موظفي الحكومة المحلية يتعرضون لخطر الملاحقة القضائية بمجرد استعادة أوكرانيا السيطرة على مدنهم ومجتمعاتهم. وفي كثير من الأحيان هربت شخصيات رفيعة المستوى مع تقدم القوات الأوكرانية، لذلك كان معظم أولئك الذين انتهى بهم الأمر إلى المثول أمام المحكمة من الإداريين أو المعلمين من المستوى المنخفض. وعديد من هؤلاء هم من النساء، وغالباً ما يشغلن مثل هذه المناصب المتواضعة في الحكومة المحلية والتعليم. وعلى رغم أن أكثر الأوكرانيين يتفقون على أن أي شخص يتولى منصباً قيادياً في إدارة الاحتلال الروسي يستحق أن ينال أقصى العقوبات التي ينص عليها القانون، فإن المحامين والناشطين في مجال حقوق الإنسان يشعرون بالقلق من أن القانون فضفاض للغاية ما يجعله يصب في مصلحة روسيا. وعندما انسحبت القوات الروسية من خيرسون في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، غادر معها أيضاً آلاف الأوكرانيين بمن في ذلك عديد من المعلمين، وذلك بتشجيع من الدعاية الروسية التي تحذرهم من أنهم سيتعرضون للمحاكمة بتهمة التعاون مع الاحتلال.

وتراهن روسيا على أن الأطفال الأوكرانيين في هذه المناطق سيصبحون، على المدى الطويل، مندمجين اجتماعياً كمواطنين روس يتمتعون بشعور وطني. وقد تم أخذ تلاميذ المدارس الأوكرانية في جولات دراسية فخمة في روسيا، زاروا خلالها المواقع السياحية والمدارس الصيفية الجامعية. وتعرض برامج التلفزيون الروسي بانتظام أطفالاً من منطقة دونباس أو جنوب أوكرانيا وهم موضع ترحيب في المهرجانات داخل روسيا. وهذه دعاية كريهة، إلا أن هذه الزيارات تبدو في الأقل طوعية في معظمها. وهناك أيضاً حالات أكثر قتامة من الزيارات، إذ جرى ترحيل آلاف الأطفال من أوكرانيا على نحو غير قانوني إلى شبه جزيرة القرم أو روسيا أثناء القتال. وقد جرى تبني بعضهم بصورة غير قانونية من قبل عائلات روسية. وتبذل عديد من العائلات الأوكرانية جهوداً كبيرة لتحديد مكان أطفالها واستعادتهم.

مخالب الاحتلال العديدة

وتعمل روسيا في المدن الأوكرانية التي احتلتها مثل ميليتوبول أو ماريوبول، ببطء على محو كل ما يمت بصلة بأوكرانيا. وفي الأسابيع الأولى من الحرب، قامت القوات الروسية بنزع الرمح الثلاثي الرؤوس، وهو شعار أوكرانيا كما دمرت المعالم الأثرية التي كانت تحيي ذكرى مجاعة تعرف باسم هولودومور التي سببها السوفيات، وقد أودت بحياة الملايين من الأوكرانيين في ثلاثينيات القرن الـ20. لقد قاموا بطلاء لوني العلم الروسي الأحمر والأزرق فوق لوني العلم الأوكراني الأزرق والأصفر في كل مكان. تهدف روسيا إلى عكس الحملات، التي اجتاحت المنطقة بعد عام 2014 بهدف تعزيز مكانة اللغة والثقافة الأوكرانية و"التحرر من الشيوعية"، عكساً كاملاً. ونص قانون صدر في مايو (أيار) 2015 على أوامر بإزالة كل الرموز والتماثيل السوفياتية والشيوعية، واستبدال أسماء جديدة بعشرات الآلاف من تلك التي ترقى إلى الحقبة السوفياتية وكانت قد أطلقت على البلدات والشوارع. وخلال تلك الحملة، أسقطت السلطات الأوكرانية أكثر من 1000 تمثال للينين في أنحاء البلاد كافة. والآن، يقوم الروس بإعادتهم مرة أخرى.

هكذا أعيد تسمية الشوارع بطريقة يغلب عليها الهوس. وفي ماريوبول، تحولت ساحة الحرية مرة أخرى إلى ساحة لينين. كما رجعت جادة ميوتيدا، وهي شارع مدمر يقع في قلب المجتمع اليوناني في المدينة، إلى اسمها السابق الغريب الذي يعود أصله إلى الحقبة السوفياتية، وهو شارع الذكرى الـ50 لثورة أكتوبر. وجرى تغيير شارع الجامعة في ميليتوبول إلى شارع داريا دوغينا، إذ سمي على اسم الناشطة والمحللة الروسية اليمينية المتطرفة التي قتلت في انفجار سيارة مفخخة في موسكو في أغسطس (آب) 2022. وتعكس أسماء الشوارع أيضاً الإرث الذي خلفته المعارك الأيديولوجية في القرن الـ20. ففي ميليتوبول، صار الشارع، الذي أطلق عليه اسم المفكر السياسي الأوكراني من ثلاثينيات القرن الماضي وصاحب الآراء الفاشية دميترو دونتسوف، يحمل اسم بافيل سودوبلاتوف، وهو العميل السري الستاليني سيئ السمعة الذي ساعد في قتل ليف تروتسكي.

وتتمدد الحرب لتطاول الثقافة، إذ اتبعت روسيا برنامجاً شاملاً لإضفاء الصبغة الروسية يستغل التوترات الموجودة مسبقاً بما يتعلق باللغة والسياسة. لقد دمر المسرح الرئيس في ماريوبول في واحدة من أكثر الفظائع شهرة في الحرب عندما أدت غارة جوية اشتبه في أنها روسية في مارس 2022 إلى مقتل مئات المدنيين. وإذ يعاد بناء المسرح حالياً، فإن فرقته باتت الآن مقسمة. وقد انتقلت إحدى المجموعات إلى غرب أوكرانيا، حيث تقدم مسرحيات سياسية معاصرة باللغة الأوكرانية. أما أولئك الذين بقوا في ماريوبول فهم يؤدون في مركز الشباب المحلي أفلاماً كوميدية لتشيخوف بلغة روسية سهلة.

وتعمل روسيا على توسيع شبكة دور السينما في المنطقة، ليس لعرض الدعاية العلنية، ولكن لاجتذاب الناس مرة أخرى إلى الثقافة الشعبية الروسية اليومية. توافد رواد السينما في ماريوبول خلال عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت أول أيام السنة الجديدة لمشاهدة أحدث الأفلام الكوميدية الروسية الناجحة، واسمه "العبد 2". ولم تعد هناك أفلام دعائية في كل مكان عن الحرب، مثل ذلك الذي سجل شباك التذاكر مبيعات كارثية له في روسيا عام 2023، واسمه "شاهد". فالناس يريدون شيئاً يلهيهم، وليس التلقين، ولكن حتى هذا الإلهاء يمكن أن يعمل على ربط السكان المحليين بصورة أقرب إلى روسيا.

وبعيداً من الثقافة، تعد السياسة الاقتصادية أقوى وسيلة تستخدمها روسيا لاستمالة المجتمع وإحداث تغيير ديموغرافي طويل الأمد في الأجزاء المحتلة من أوكرانيا. غالباً ما يكون نظام الرعاية الاجتماعية ورواتب الدولة في روسيا أكثر سخاءً مما هي في أوكرانيا، ويهدف إلى كسب تأييد الشرائح الأكثر فقراً من السكان والمتقاعدين. وفي ديسمبر (كانون الأول)، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا ستنفق أكثر من تريليون روبل (نحو 11 مليار دولار) سنوياً على المناطق الأربع التي ضمتها. ويشتمل هذا المبلغ مليارات الدولارات المخصصة لبرنامج ضخم لإعادة البناء على أمل إنشاء "روسيا الجديدة" على الشواطئ الشمالية لبحر آزوف، وهو ما يذكر بفكرة الإمبراطورة كاترين العظيمة في القرن الـ18 عن نوفوروسيا (روسيا الجديدة). وتصور الكتيبات اللميعة مستقبل ماريوبول على أنه نسخة بديلة من روسيا مجاورة للبحر، إذ هدمت أي أبنية تذكر بأوكرانيا بصورة كاملة واستبدالها بمبانٍ سكنية وحدائق وشوارع روسية. لقد تعرضت المدينة للدمار أثناء القتال عام 2022، وأعادت السلطات إسكان بعض السكان المحليين. ومع ذلك، يشتكي كثر من أن أفضل المنازل الجديدة مخصصة للروس القادمين حديثاً. ويبدو أن موسكو تريد تشجيع المهاجرين الروس لكي يحلوا محل السكان الأوكرانيين الذين جردوا من ممتلكاتهم وأجبروا على العيش في المنفى. وتلك ليست المرة الأولى في هذا الصراع، التي تنتهك فيها التصرفات الروسية القانون الدولي، الذي يحظر صراحة عمليات نقل السكان داخل الأراضي المحتلة وخارجها.

إن عديداً من الأوكرانيين الذين فروا كانوا قد فقدوا ممتلكاتهم وأعمالهم سلفاً. واعتباراً صيف عام 2022، أشرفت سلطات الاحتلال على المصادرة الجماعية للأصول الأوكرانية، وهو انتهاك صارخ آخر للقانون الدولي في شأن الاحتلال. كان على المالكين أن يحضروا في غضون ثلاثة أيام مع مجموعة من المستندات للمطالبة بملكيتهم إذا أدرجت أسماء شركاتهم في قائمة نشرتها السلطات المحلية للأصول والشركات التي صنفت أن أصحابها قد تركوها وشأنها. وفي حال لم يأتوا، تسلم هذه الشركات والمصالح إلى المقربين المحليين أو إلى رجال الأعمال الروس. منذ بدء الغزو في فبراير 2022، قامت السلطات الروسية بتسجيل آلاف الشركات الأوكرانية قسراً، بما في ذلك مصانع المعادن الضخمة والمخابز المحلية، في قاعدة بيانات الشركات الروسية الرسمية في واحدة من أكبر عمليات مصادرة الممتلكات في الآونة الأخيرة. وسيطرت الشركات الروسية على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الرئيسة في زابوريجيا، وعمدت إلى شحن آلاف الأطنان من المحاصيل الأوكرانية إلى الخارج بصورة غير قانونية. ومرة أخرى فتح ميناء ماريوبول الذي تجلب إليه السفن مواد البناء للمشاريع الروسية وتغادره مليئة بالحبوب الأوكرانية المستولى عليها.

مقيد بروسيا

إن التوقعات بالنسبة إلى الأراضي المحتلة قاتمة. وتفتقر أوكرانيا إلى استراتيجية سياسية ودبلوماسية لتحدي الاحتلال الروسي على المدى الطويل. وكان صناع السياسة الأوكرانيون يأملون في أن يؤدي الهجوم العسكري المضاد السريع والناجح العام الماضي إلى تحرير هذه الأراضي ودحر القوات الروسية. هذا لم يحدث. ومع وصول خط المواجهة إلى طريق مسدود، تبدو فرص أوكرانيا في استعادة السيطرة الكاملة على الأراضي المحتلة بقوة السلاح عام 2024 محدودة. وأية هدنة أو تجميد للصراع من شأنه أن يرسم خطاً عبر جنوب وشرق أوكرانيا، مما سيترك ملايين الأوكرانيين تحت الحكم الروسي. ومع استمرار الحرب، أصبح لدى روسيا الوقت الكافي لتعزيز احتلالها السياسي والاقتصادي والإداري، مما يزيد من صعوبة إعادة دمج هذه الأراضي في نهاية المطاف في أوكرانيا.

*ديفيد لويس أستاذ السياسة العالمية في جامعة إكستر ومؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً تحت عنوان "الاحتلال: الحكم الروسي في جنوب شرقي أوكرانيا".

مترجم عن "فورين أفيرز" 18 يناير 2024

المزيد من آراء