ما يجري اليوم على الأراضي الأوكرانية وما حولها لم يكُن وليد الصدف وتداعيات الأحداث، إذ سبق وحذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من مغبته في أكثر من مناسبة وأكثر من تاريخ.
ولكم كان غريباً أن نجد في أرشيف تصريحات ولقاءات الرئيس الروسي مع نظرائه الغربيين، ومنهم الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، ما عاد ليواجه به العالم بأسره اليوم من تحذيرات من مغبة تمادي السلطات الأوكرانية، بدعم مباشر وبمباركة واضحة من جانب حلفائها الغربيين، بشأن تجاهل المصالح الأمنية لروسيا في المنطقة.
وكان بوتين استبق تداعيات الثورات الملونة، ومنها "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا، بتحذير قال فيه إن انسياق هذه الأخيرة في مثل هذه الاتجاهات يهدد بضياع "وضعيتها كدولة مستقلة"، في إشارة إلى احتمالات انفراط عقدها كدولة متعددة الانتماءات الجغرافية.
وذلك ما عاد بوتين وأكده في أكثر من مناسبة وتقرير، ومنه ما ضمّنه مقاله الأكاديمي الأشهر حول الأصول التاريخية المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني، الذي نشره في يوليو (تموز) من العام الماضي باللغتين الروسية والأوكرانية.
وكان بوتين عمد إلى تأصيل ما خلص إليه من استنتاجات ودروس بالاستناد إلى التاريخ ومجرياته على مر قرون طويلة، وذلك فضلاً عن التوقف بكثير من الإسهاب والتفصيل عند "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة) التي تدور اليوم بين جنباتها المعارك القتالية في جنوب شرقي أوكرانيا بما تضمه من مقاطعات تتنازعها أوكرانيا، وهي التي حاول بوتين تأصيل وضعيتها كأراضٍ روسية في مقاله الذي أشرنا إليه.
تصريحات متضاربة
ومن هنا، تأتي أهمية التوقف بكثير من الاهتمام عند ضرورة المتابعة الدقيقة لما يصدر من تصريحات رسمية أو غير رسمية حول رغبة سكان هذه المناطق بالانضمام إلى روسيا. وبغض النظر عن حقيقة ما تنشره المصادر الروسية، وما يصدر عن المسؤولين في هذه المناطق، ومنها مقاطعة خيرسون في جنوب أوكرانيا، من تصريحات متضاربة حول الانضمام إلى موسكو، فقد سارعت مصادر الكرملين إلى حسم الموقف وإعلان القول الفصل بشأن ضرورة توخي الدقة تجاه مدى قانونية مثل هذه التصريحات في مثل هذه الظروف شديدة التعقيد.
وكانت سلطات خيرسون بادرت فور دخول القوات الروسية إلى أراضي المقاطعة الجنوبية المتاخمة لشبه جزيرة القرم والمطلة على البحر الأسود، بإعلان أن المقاطعة ستعلن انضمامها إلى جمهورية دونيتسك الشعبية المعترف بها من جانب موسكو.
ولم يمضِ من الزمن كثير حتى عادت هذه السلطات لتعلن عزمها على إجراء استفتاء شعبي حول موضوع انضمامها إلى روسيا، فيما سارعت بإعلان انضمامها إلى منطقة التعامل بالروبل، إلى جانب قرارها بإنزال الأعلام الأوكرانية، ورفع علم الاتحاد السوفياتي السابق على اعتبار أنه البديل لراية النصر في الحرب العالمية الثانية.
وها هو كيريل ستريموسوف، نائب رئيس الإدارة المدنية العسكرية لمنطقة خيرسون، يعود ليعلن: "نحن لا نخطط لأن نكون جمهورية مستقلة منفصلة. ومهمتنا الرئيسة هي أن نكون منطقة داخل الاتحاد الروسي".
وأضاف أن "المقاطعة لن تتعجل إجراء استفتاء عام حول تقرير مصيرها"، مشيراً في الوقت ذاته إلى ضرورة مراعاة أن الدول الغربية لن تعترف بكل نتائج الاستفتاء العام"، الذي قال إن "إجراءه اليوم مضيعة للوقت"، وهو ما يدفعهم حتى الآن إلى التريث وعدم التفكير في تنظيمه".
عدم التعجل
ثمة ما يشير إلى أن التردد الذي اتسمت به تصريحات المسؤولين في خيرسون، يعود إلى أن الكرملين يظل يفضل عدم تعجل اتخاذ موقف حاسم بهذا الشأن، وهو ما كشف عنه دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، الذي قال بضرورة الرجوع إلى "القانونيين" في مثل هذا الأمر، مؤكداً على "وجوب استناد مثل هذه القرارات المصيرية إلى قاعدة قانونية واضحة، وأن تكون شرعية تماماً، كما كانت الحال إبان قضية القرم"، وإن ألحق قوله بإعلان أن "قرار تقديم مثل هذا الطلب من عدمه يعود إلى سكان مقاطعة خيرسون، وهم الذين يتعين عليهم تقرير مصيرهم".
وثمة ما يشير أيضاً إلى أن الكرملين يفضل التريث وعدم تعجل "الاستجابة لانضمام هذه الأقاليم والمقاطعات" درءًا لمزيد من الاتهامات والأقاويل حول "المطامع التوسعية للكرملين"، على حد تعبير كثير من المصادر الغربية.
وكانت جمهورية أوسيتيا الجنوبية غير المعترف بها، التي انفصلت من جانب واحد عن جورجيا مع كل من أبخازيا وأدجاريا في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أعلنت عن رغبة مماثلة بإجراء استفتاء شعبي حول الانضمام إلى روسيا، لكنها سرعان ما عادت عن هذه الفكرة، فيما أصدر رئيسها المنتخب الجديد آلان غاغلويف مرسوماً بتأجيل إجراء مثل هذا الاستفتاء، وهو ما يعزوه كثيرون إلى "توصيات ونصائح" الكرملين، فضلاً عما عاد غاغلويف وعزاه إلى "القضايا الجيوسياسية" الراهنة، ومنها "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا.
مقاطعة زابوروجيه
وها هي مقاطعة زابوروجيه المتاخمة لجمهورية دونيتسك الشعبية التي أعلنت استقلالها مع مقاطعة لوغانسك عن أوكرانيا في 2014، واعترفت بهما موسكو في 22 فبراير (شباط) 2022، تكشف عن توجه مماثل بعدما استطاعت القوات الروسية بسط سيطرتها على معظم أراضيها، مع بعض أراضي مقاطعة خاركوف المجاورة.
وعن هاتين المقاطعتين خيرسون وزابوروجيه وما جاورهما من أرض ومقاطعات منها خاركوف، تقول المصادر الروسية إنها أراضٍ روسية كانت حتى الأمس القريب تنضوي تحت راية ما كان يُسمّى بـ"نوفوروسيا" (روسيا الجديدة) التي سبق وأشار إليها الرئيس بوتين في مقاله الشهير الصادر في يوليو من العام الماضي.
ونذكر أن بوتين، الذي لفت السياسي الأميركي الشهير هنري كيسينجر إلى "شديد إيمانه الصوفي بالتاريخ"، كان استعرض في هذا المقال الأصول التاريخية المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني ومعهما الشعب البيلاروسي، مؤكداً تبعية هذه الأراضي إلى روسيا منذ قرون طويلة.
ولعل ذلك ما يفسر حرص حكام هذه المقاطعات والأراضي، التي كانت حتى الأمس القريب خاضعة للسلطات الأوكرانية، على تفسير رغباتهم بالانضمام إلى روسيا، بالتاريخ القديم والانتماء المشترك، على غرار ما خلص إليه كيريل ستريموسوف، نائب رئيس الإدارة المدنية العسكرية لمنطقة خيرسون حول أن "مدينة خيرسون جزء من روسيا، ولن تقام في أراضي المقاطعة أية ’جمهورية شعبية‘، ولن تنظم أية استفتاءات. سيكون هناك أمر موحد سيأتي بناء على طلب إدارة مقاطعة خيرسون الموجه إلى الرئيس الروسي لضم المقاطعة إلى قوام روسيا".
تنظيم الحياة السلمية
وأردف ستريموسوف أن "مقاطعة خيرسون ستنتقل إلى العمل بالقوانين الروسية بحلول نهاية العام الحالي"، لكنه عاد إلى ضبط أقواله مع تصريحات المتحدث الرسمي باسم الكرملين، موضحاً أنه "سيكون من الممكن بعد ذلك التفكير في إجراء الاستفتاء العام ووضعنا المستقبلي"، إضافة إلى تأكيده على ضرورة "تنظيم الحياة السلمية وتشكيل هيكل السلطة كله وتحقيق استقرار معين وبناء المجالين الاجتماعي والاقتصادي وإشغال سوق العمل".
وكانت خيرسون في صدارة المناطق الأوكرانية، التي سارعت إلى إعلان دخولها منطقة الروبل في مايو الماضي في أعقاب "ترحيبها" بدخول القوات الروسية من دون أية مقاومة في مطلع مارس الماضي، على النقيض مما شهدته مناطق أوكرانية مجاورة.
وأشارت المصادر إلى أن هذا "المركز الإقليمي، الذي يبلغ عدد سكانه 300 ألف شخص يعمل بشكل طبيعي، على عكس خاركوف وكييف، حيث تختبئ القوات المسلحة الأوكرانية خلف المدنيين، وحيث تسود الفوضى العامة في الواقع".
وتكمن أهمية هذه المقاطعة في موقعها الجغرافي، الذي يحكم مع جارتها أوديسا احتمالات فرض العزلة الكاملة لأوكرانيا عن البحر الأسود، بعد أن استطاعت القوات الروسية الاستيلاء على ماريوبول وبقية أراضي دونيتسك ولوغانسك لتعلن بحر أزوف بحيرة روسية، بما توفره شواطئه من ممرات برية إلى شبه جزيرة القرم، وذلك فضلاً عما باتت توفره السيطرة الروسية الكاملة على مقاطعة خيرسون من مصادر المياه العذبة اللازمة لشبه الجزيرة بعد فترة طويلة من القحط والجفاف، استمرت لما يزيد على ثمانية أعوام، أي منذ تاريخ انضمام القرم إلى روسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المكاسب العاجلة
وما دام الشيء بالشيء يذكر، يتوقف المراقبون عند المكاسب العاجلة التي يمكن أن تعود على روسيا والمناطق التي تخضع اليوم لسيطرتها، مما حققته القوات الروسية من إحكام سيطرتها على معظم أراضي زابوروجيه، ومنها التي تضم بين جنباتها إحدى أهم المحطات النووية الأوكرانية بما توفره من طاقة تقول المصادر الروسية إنها تبلغ نسبة 22 في المئة من مجمل إنتاج الطاقة الكهربائية بأوكرانيا.
أما عما تعنيه هذه المقاطعة من أهمية اقتصادية بما تمتلكه من مصانع ومؤسسات استراتيجية، فتقول المصادر الروسية إن "تحرير زابوروجيه بمشاريعها سيساعد في إنشاء سلاسل إنتاج كاملة، من شأنها أن تشمل الشركات المرتبطة بدورات إنتاج معينة".
وأضافت المصادر أن الشركات ذات الأهمية الاستراتيجية تتركز في المركز الإقليمي، ومنها "دنيبرو سبيتس ستال" Dneprospetsstal التي لطالما وفرت الجزء الأعظم من حاجة الاتحاد السوفياتي السابق من المعادن اللازمة لإنتاج الدبابات والطائرات والغواصات والسفن وأجزاء المركبات الفضائية، بما في ذلك المكوك الفضائي "بوران"، وذلك إلى جانب مصنع "زابوروج ستال" Zaporizhstal، وهو أحد أكبر مصانع التعدين في أوروبا، الذي كان يصدّر منتجاته إلى خمسين دولة.
وكشفت المصادر الروسية كذلك عن أن "تركيا تمكنت من صنع طائراتها الثقيلة من دون طيار Akinchi بواسطة محركات الطائرات Zaporozhye زابوروجيه، التي تُعتبر من أفضل ما جرى تصميمه وتطويره إبان أعوام الاتحاد السوفياتي السابق".
إلى الأبد
وفي الوقت الذي أعرب سيرغي أكسيونوف، رئيس جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي، عن ارتياحه لما تحققه القوات الروسية في جنوب شرقي أوكرانيا من تقدم، بما في ذلك فرض السيطرة على خيرسون التي تُعدّ المصدر الرئيس للمياه العذبة اللازمة للقرم، أكد أندريه تورتشاك، أمين المجلس العام للحزب الحاكم في روسيا "روسيا الموحدة"، أن "روسيا جاءت إلى منطقة خيرسون إلى الأبد، وسيحدد سكانها وضع المنطقة".
ومن جانبه، شدد رئيس الإدارة المدنية العسكرية فلاديمير سالدو على أن المنطقة بالفعل جزء لا يتجزأ من عائلة كبيرة هي "الاتحاد الروسي"، وذلك ما يظل في سياق ما كشف عنه الرئيس بوتين حول الأصول التاريخية المشتركة لهذه المناطق التي سبق وأعلن عن ارتباطها مع بيلاروس المجاورة التي قال رئيسها ألكسندر لوكاشينكو بضرورة انضمام بلاده إلى أية تسوية يمكن الوصول إليها لخروج المنطقة من المأزق الراهن.