Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماري داريوسيك تغوص في النفس الأنثوية المضطربة

"صناعة امرأة" رواية الرغبة والحرية والتناقض بين صديقتين

الروائية الفرنسية ماري داريوسيك (المكتبة الكبيرة)

في بداية هذا العام، عاد اسم الروائية الفرنسية ماري داريوسيك إلى الواجهة الأدبية مع صدور كتابها الجديد  في باريس وعنوانه "صناعة امرأة" عن دار نشر "بول" ((P.O.L. وقد سبق لداريوسيك التي تعد من أبرز الروائيات اليوم في فرنسا، والحائزة سنة 2013 جائزة ميديسيس، أن نشرت أكثر من ثلاثين عملاً أدبياً، ينتمي معظمها إلى فنون الرواية والقصة والسيرة والمسرح، فضلاً عن ترجمتها للعديد من النصوص والكتب من اللغتين الإنكليزية واللاتينية، وغيرها من الأعمال والمقالات الفردية والجماعية.

 تسرد هذه الرواية الجديدة سيرة حياة صديقتين مراهقتين تدعيان صولانج وروز، تخطوان أولى خطواتهما في حياة الكبار. تدور أحداثها في ثمانينيات القرن العشرين، وتحديداً في إقليم الباسك جنوب غرب فرنسا، ثم في مدينة بوردو، فالعاصمة الفرنسية، في استعارة لحياة داريوسيك نفسها المولودة في مدينة بايون، عاصمة إقليم الباسك الفرنسي سنة 1969 والتي تابعت دروسها الثانوية في بوردو أولاً، ومن ثم في جامعات باريس حيث ناقشت أطروحة دكتوراه في الآداب، تناولت اللحظات النقدية في السير الذاتية المعاصرة والتخييل الذاتي في كتابات جورج بيريك وميشيل ليريس وسيرج دوبروفسكي وإريفيه غيبير، لتكرّس وقتها بعدها لدراسة التحليل النفسي.

تترابط قصتا هاتين الفتاتين وتختلف في آن واحد. ترويان حياة روز، وهي طالبة مثالية مولودة في بيئة بورجوازية، تخصصت، كما الكاتبة، بعلم النفس وبقيت وفية لحبها الأول، كريستيان، الذي تزوجت وأنجبت منه وفق التقاليد والأعراف السائدة. بينما صديقتها صولانج، اللافتة للنظر بمظهر شعرها وملبسها المتأثر بحركة "البانك"، والتي تُفتتح الرواية بكشف حملها، قد عرفت تجارب حب عديدة، كان من جرّائها أن حملت وهي بعد في الخامسة عشرة من عمرها، لتنجب صبيًا تركت لوالديها مسؤولية الاعتناء به، لاهثةً هي نفسها وراء متابعة أحلامها المهنية في مجال التمثيل، والتي كثيراً ما تراوحت بين تجارب النجاح والفشل.

سيرة صديقتين

تكتب ماري داريوسيك سيرة تعلّم هاتين الفتاتين حياة المرأة وأنوثتها، تارة بواقعية جريئة، وطوراً بقساوةٍ، ساردةً لقرّائها اللحظات المضحكة والمؤلمة، والتصرّفات الجيدة والخرقاء التي قامت بها صولانج وروز في حياتهما العاطفية والجنسية والزوجية، من دون أن تنسى رواية قصص رغباتهما وطموحاتهما الشخصية والاجتماعية، وهما بعد في مرحلة بناء شخصيتيهما في عالم يهيمن عليه الذكور.

 كتبت داريوسيك روايتها هذه بلغة فرنسية حيوية مليئة بالفكاهة والعاطفة عكست في بعض فصولها حماسة  صولانج، وحبها لحياة الليل الصاخبة وما يتبعها من إغراءات ومغامرات، جعلتها تقسّم وقتها بين الوظائف الصغيرة التي تمكنها من تدبير أمورها اليومية والسعي وراء أحلامها الكبرى. وعكست في فصولها الأخرى صبر روز في بناء حياة مستقرّة ومنظمة، مصورةً تصويراً حقيقياً من خلال سيرة هاتين الصديقتين تلك الفترة الزمنية وأحداثها التاريخية في فرنسا وأوروبا والعالم، أيام رئاسة فرانسوا ميتران وسقوط جدار برلين وبداية ظهور فيروس نقص المناعة البشري. ولربما يمكننا القول إن هذه الرواية التي تروي في قسمين مفهوم الحياة بحسب بطلتيها، روز وصولانج، من دون أن ننسى خاتمتها الطريفة في لوس أنجلوس يوم قامت صولانج، التي أصبحت ممثلة في هوليوود، بدعوة روز وعائلتها إلى حضور العرض الأول لفيلم سينمائي شاركت في تصوير بعض لقطاته، لتكتشف خلال العرض، أن تلك المشاهد قد تم حذفها من شريط التركيب النهائي، تقدم نوعين من السير والأقدار النسائية، تعترف الكاتبة أنها وزّعت عليها بشكل عادل بعضاً من أحداث حياتها الخاصة.

يدرك قرّاء ماري داريوسيك ومتابعوها أن بطلتي القصة كانتا أيضاً بطلتي رواية "البحر معكوساً" التي نشرتها سنة 2019 و"كلاف" التي نشرتها 2011 و"يجب أن نحب الرجال كثيرًا" الصادرة سنة 2013، والتي تعالج أيضاً موضوعات تشبه إلى حدٍّ بعيد موضوع الرواية الجديدة وهواجسها وتساؤلاتها. فماري داريوسيك تتنقل بأبطالها وبموضوعاتها المفضلة كالصداقة واكتشاف الجسد الأنثوي والجنس والموت والأشباح والأدب والسينما والجنون والمخدرات والشغف والخيانة والوفاء والحياة الزوجية والأمومة عبر أعمالها، منذ روايتها الأولى "ترويزم" سنة 1999 التي نَشرتها وهي في السابعة والعشرين من عمرها، ساردةً فيها تحول امرأة إلى أنثى خنزير، في إشارة منها إلى كيفية ترويض المرأة من خلال تعرض البطلة المتكرّر للعنف، بحيث يعزّز هذا التنقل الاتصال العضوي بين نصوصها من خلال الاستعانة بالشخصيات ذاتها، وإتاحة التوسع في سيرة الشخصية وبنيتها النفسية والاجتماعية ومساهمتها في سير الأحداث من حولها على مرّ الزمن. وقد شكلت الموضوعات التي اهتمت داريوسيك بمعالجتها محور العديد من الرسائل والأطروحات والدراسات الجامعية، مما سمح لها بفهمها أكثر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد تناولتها بأسلوبها ولغتها المتعالقة بمفردات واضحة أحياناً وملتبسة أحياناً أخرى، مفتوحة على كمٍّ من الإبهام في المعنى المقصود وعلى إحالاتٍ جعلت القارىء ينفذ من خلالها إلى أغوار الرواية، فيكشف عن بنياتها الدلالية العميقة. ولعل استخدام كلمة "صناعة" في عنوان الرواية يعبر وحده بشكل جيد، عن أسلوب الروائية وغوصها في أعماق النفس الأنثوية، في إرادة منها للإشارة إلى الجانب الاصطناعي الذي تفرضه على المرأة، المجتمعات الإنسانية كافة، والتي تريدها أن تتصرف بطريقة مثيرة للالتباس، تعتبرها داريوسيك القاعدة الأساس للعلاقة بين البشر. وقد تناولت مفهوم الالتباس وسوء الفهم في حديثها أيضاً عن علاقة صولانج بالمخرج السينمائي الأسود كوهووسو.

تندرج هذه الرواية إذاً في إطار ما يسمى "الكتابة النسوية" التي تعبّر عن هموم المرأة وقضاياها، والرغبة في إبراز الإملاءات المفروضة عليها والموروثات التي تثقل كاهلها منذ سن الطفولة والمراهقة، والتي تلزمها بسلوك  يخضع لمجموعة من القواعد والمعايير الذكورية. وقد عالجت داريوسيك هذا الموضوع بعمق ونضج فني، رغم بعض الانتقادات التي طالت أسلوبها الذي يمزج الخيال بالواقع ويخلط الأوراق، مما يتطلب بعضاً من التركيز حتى يبدأ القارىء بالتواصل مع كتاباتها.

 إن قصة الرغبة والحياة والتعلّم من منظور أنثوي والصداقة الصادقة وغير المتوازنة، المليئة بمجموعة من الشخصيات الساخرة والمأساوية في آن واحد، وبحوارات وردود فعل قوية، تجعل من "صناعة امرأة" رواية لذيذة تكيّف ببراعة إيقاعها السردي المنطلق من سيرتي حياة بطلتيها ومسارهما مع الحركات الاجتماعية والسياسية والموسيقية في نهايات القرن العشرين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة