Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أصوات "الناعين" ترتفع... بلا طحن

صورة تظهر أحرف الأبجدية العربية (يوتيوب)

ما برحت تتوالى أصوات مثقفين عرب، "مقيمين" ومهاجرين او منفيين، ينعون الثقافة العربية نعيا شبه مجاني، يشبه "الجعجعة" التي بلا طحين. كل ما يهم هؤلاء هو الوقوف على ما يسمونه "اطلال" العالم العربي وكشف ما يواجه من ازمات ومآسٍ. ولا يتوانون عن تدبيج المقالات وإصدار البيانات وعن المضي في نعيهم للثقافة والمثقفين من دون ان يقترحوا حلولا ولو ضئيلة لهذه الأزمات التي يرونها عصيبة ولا يسعون الى البحث عن منفذ للمأزق العام الذي تتخبط فيه دول ومجتمعات عربية.

وإن لم يكن مطلوبا من هؤلاء الناعين والمتذمرين إيجاد حلول ناجعة للأزمات الراهنة، لا سيما انهم ليسوا من أهل الاختصاص والمعرفة العلمية، فالاحتجاجات لا تستقيم إن لم تحدد طبيعة هذه الأزمات التي يجري الكلام عنها بالحاح واصرار. وهؤلاء الناعون أصلا لا يعنيهم البحث عن حلول للأزمات ولا عن مخارج لحالات الحصار، فهم مكتفون بما يقومون به من نعي ورثاء وتهويل.... وهم غالبا ما يلجأون الى عبارات رنانة طنانة والى مفردات ذات حجم وثقل ليصفوا الحالة المزرية التي آلت اليها الثقافة العربية والمثقفون العرب على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم ونزعاتهم ...ولن يفوت هؤلاء التنديد بالزيف الذي يسود العلاقات الثقافية وبالرجعية التي تهيمن على أوساط المثقفين وبالإنحطاط الذي يسم المرحلة التي تجتازها الأمة جمعاء والأوطان والافراد!

قد يكون هؤلاء على حق في تشاؤمهم وفي نعيهم، لكن التشاؤم والنعي وحدهما ما عادا يجديان أو يشفيان او يعبّران حقا عن حجم المأساة التي يعانيها المثقفون العرب والمواطنون العرب على السواء. وقد أظهرت مرحلة الثورات العربية الداخلية وما تلاها من انشقاقات وتناقضات، الواقع المزري الذي يشهده العالم العربي والتهاون الذي يبديه إزاء هذا الواقع. ...وكي لا نتشاءم مع المتشائمين (وما أكثرهم) فيتحول تشاؤمنا الى ما يشبه "النقيق" نسأل أنفسنا أولا والآخرين ثانيا: ترى هل يكفي ان نلقي التهم جزافا وان ننعى ما ننعى من أحوال وظروف، ومَن ننعى من أصحاب شأن وسلطة، لنتخطى الظروف الراهنة في ما تحفل من انحطاط وتراجع وانهيار؟ ولماذا الإصرار دوما على البحث عن "آخر" أو "آخرين" يكونون بمثابة الضحية التي تلقى عليها التبعات والشبهات؟ ولئلا ننجرف إنجرافا أخلاقيا نسأل: من يحكم على البريء بالبراءة وعلى المذنب بالذنب؟ ألا يجدر بنا ان ننظر الى مرايانا لنرى وجوهنا وعيوننا قبل أن ننظر الى وجوه الآخرين وعيونهم؟

هذه الأسئلة التي لا بد من طرحها ليست طوباوية او مثالية. فالواقع لم يعد يحتمل أي موقف طوباوي بعدما فقد ذرائع انهياره وبات محكوما بالمجهول وبالقدر. لكن إلقاء التبعات دوما على "الآخر" الذي لا يُحدد غالبا، واتهامه بما يجب أن نتهم به أنفسنا ونعته بما ينطبق علينا أولا، تجعلنا مترددين حيال تلك المواقف "البطولية" و"الدونكيشوتية" التي تصخب بها بيانات النعي ومقالات الإحتجاج والرفض. وكم كنا نتمنى ان نقرأ بيانا يتهم فيه كاتبه نفسه بما يتهم الآخرين به. كم كنا نتمنى ان نقرأ مقالا يحتج فيه كاتبه على ما يحتج عليه لدى "الآخر" الذي قد لا يختلف عنه اصلا.

معظم هؤلاء المثقفين الذين لا يكفون عن نعي الثقافة العربية، هم إنما ينعونها انطلاقا من موقف "استعلائي" وكأنهم غير معنيين بالنقد الذين يواجهون الآخرين به ولا بالتهم التي يكيلونها لهم .كأنهم هم فوق التهم وفوق النقد بل أرقى وأعلى من ان يطاولهم النقد والاتهام ... فهم واثقون من أنفسهم ومطمئنون إلى مواقعهم ومواقفهم وأدوارهم التي يؤدونها. وقد يتراءى لهم أنهم يملكون الحقيقة وحدهم، وأنهم على صواب وأن عليهم ان يرشدوا إخوتهم أو رفاقهم الضالين إلى الطريق السليم وأن يصححوا الأخطاء ويرأبوا ما انقطع من صلات وأواصر.

ولعل غالبية هؤلاء هم في نظر بعضهم الآخر، مَن يحتاجون إلى نقد ورثاء وإلى من يرشدهم ويسدد خطاهم. ويرى هذا البعض كذلك أن احتجاج هؤلاء يجب أن ينقلب عليهم قبل أن ينسحب على غيرهم. فهم لا يختلفون عن الآخرين الذين يتهمونهم أيما اختلاف بل هم - في نظر هذا البعض - أشد سوءا ورداءة منهم.

تتوالى المقالات والبيانات حينا تلو آخر حاملة من الإتهام والإستعلاء ما تحمل من الرفض والإحتجاج. وقد يمضي بعض هؤلاء الكتاب أو المثقفين في نعي الثقافة والمثقفين العرب من دون طائل ولا منطق. وقد تمادى واحد من هؤلاء في استعمال مفردات لا علاقة له بها مانحا نفسه حجما خرافيا لا يلائمه ولا يلائم ثقافته الضئيلة. ولم يرعوِ هذا الكاتب المثقف عن رفع ما يشبه " البيان" الثقافي ينعى فيه ثقافة وطنه ومثقفيه ولكن مستثنيا نفسه طبعا والقريبين منه!

قد يحق للناعين أن ينعوا وللمحتجين أن يحتجوا، ولكن فليقنعونا أولا بأنهم براء من التهم التي يطلقونها جزافا... وليت هؤلاء ينظرون الى القذى الذي في عيونهم قبل أن ينظروا الى الخشبة التي في عيون الآخرين فيدركوا خير إدراك أن النقد يبدأ من الذات اولا.

المزيد من آراء