Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يصل الحزب الجمهوري الأميركي إلى إجماع على السياسة الخارجية؟

يتعين على الحزب أن يوفق بين شعبويته الجديدة ودوليته القديمة

الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب يتحدث في تجمع انتخابي حاشد في رينو، نيفادا، ديسمبر 2023 (كارلوس باريا/ رويترز)

ملخص

يعاني الحزب الجمهوري الأميركي ارتباكاً في سياسته الخارجية بين الانعزالية والشعبوية والحفاظ على دور أميركا في العالم

أسهمت الحربان الحاليتان بين روسيا وأوكرانيا، وبين إسرائيل و"حماس"، في الكشف عن بعض الحقائق والتطورات الملحوظة وغير المتوقعة التي طرأت في المشهد العالمي. في الواقع، تعمقت الصداقة بين الصين وروسيا، في حين أصبحت سمعة إيران وكوريا الشمالية بأنهما دولتان مزعزعتان للاستقرار الإقليمي ومصدرتان للأسلحة أوسع نطاقاً. وفي المقابل، تتنافس القوى العظمى في العالم على النفوذ في الجنوب العالمي. أما في الولايات المتحدة، فبلغ الصراع بين القومية والدولية Internationalism  [تلعب دورا رياديا في العالم] داخل الحزب الجمهوري ذروته.

في الواقع، هذه هي اللحظة الأكثر أهمية بالنسبة إلى سياسة الجمهوريين الخارجية منذ عام 1952، عندما هزم دوايت أيزنهاور منافسيه الانعزاليين ليضمن ترشيح الحزب له في الانتخابات الرئاسية. وقد جعل أيزنهاور الدور الأميركي النشط في الشؤون العالمية ركيزة أساسية في معتقدات الحزب الجمهوري. وفي السنوات اللاحقة، نشأ إجماع حول النزعة الدولية الحازمة التي تبناها الرئيس رونالد ريغان، ودفاعه عن التجارة الحرة، وإيمانه بمزايا الهجرة، ولكن على مدار سنوات طوال من العقد الأخير، كان هناك تحول ملحوظ بعيداً من هذه المبادئ لصالح أجندة شعبوية تعطي الأولوية لنزعة "أميركا أولاً" الرافضة للعولمة والميالة نحو انسحاب الولايات المتحدة من الساحة العالمية. وكان دونالد ترمب، الرئيس السابق وأحد أبرز المرشحين في الانتخابات الرئاسية الحالية، سبباً في زرع الشكوك داخل الحزب حول الالتزامات والمشاركات الدولية. وهذه الأفكار لن تتلاشى ببساطة إذا خسر ترمب انتخابات هذا العام، ولكنها في الوقت نفسه لم تؤد إلى إنشاء إجماع جديد في صفوف الحزب. وبينما يتجادل الساسة الجمهوريون حول السياسة الخارجية في الأشهر المقبلة، فإن السؤال الرئيس المطروح هو ما إذا كان بإمكانهم المزج بين عناصر الدولية من عهد ريغان، واتجاهات "أميركا أولا" في عهد ترمب، من أجل تشكيل استراتيجية متماسكة ورؤية عالمية موحدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتجلى الصدام بين هذين الاتجاهين في فكر السياسة الخارجية بشكل أكثر وضوحاً في الكونغرس، حيث شكلت المساعدات المقدمة لأوكرانيا مادة نقاش حاد. وعلى رغم أن الزعماء الجمهوريين في مجلس الشيوخ يواصلون دعم المساعدات العسكرية من حيث المبدأ، فإنهم في ديسمبر (كانون الأول) جعلوا تخصيص أموال إضافية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان مشروطاً بموافقة الديمقراطيين على تقديم تنازلات في شأن سياسة الهجرة، مما أدى فعلياً إلى عرقلة تمرير حزمة مساعدات جديدة. وفي الوقت نفسه يعارض عدد من نظرائهم في مجلس النواب تقديم مزيد من التمويل لأوكرانيا. وفي سبتمبر (أيلول)، صوت 104 أعضاء جمهوريين في مجلس النواب على إلغاء المساعدات العسكرية لأوكرانيا من مشروع قانون الإنفاق.لكن هذا التغيير في سياسة الجمهوريين الخارجية لا يقتصر على أوكرانيا، ولا يحدث في الكونغرس فحسب. في مقابلة أجريت مع ترمب في أغسطس (آب) على قناة "فوكس بيزنس نيوز"، اقترح فرض تعريفة بنسبة 10 في المئة على "جميع من" يصدر منتجات إلى الولايات المتحدة، وتعريفة أعلى على الدول التي تفرض رسوم جمركية أعلى. ويشكل هذا الموقف خطوة حاسمة بعيداً من العقيدة الجمهورية في عهد ريغان، الذي أعلن ذات يوم أن "السياسة التجارية الأميركية ترتكز بقوة على أساس الأسواق الحرة المفتوحة".

ويتبع المرشحون الجمهوريون الآخرون خطى ترمب. في هذا الإطار، بصفته أحد منافسي ترمب في سباق الترشيح للرئاسة عن الحزب الجمهوري، وضع فيفيك راماسوامي نفسه في طليعة المؤيدين للسياسة الخارجية الجمهورية الجديدة التي تدعو إلى تدخل أقل، وتبنى عناصر من نهج "أميركا أولاً" الترمبي. وأصر راماسوامي على أن دفاع الولايات المتحدة عن تايوان يجب أن يكون مشروطاً بمدى اعتماد الصناعات الأميركية على صناعة أشباه الموصلات في الجزيرة [تعتبر تايوان واحداً من مراكز التصنيع العالمية لأشباه المواصلات]. وعلى غرار كثير من الجمهوريين الآخرين، شكك في منطق دعم واشنطن لكييف وانتقد "الأغبياء المفيدين الذين يبشرون بحرب لا يمكن تحقيق انتصار فيها في أوكرانيا".

ومع ذلك، يعتقد عدد كبير من مفكري السياسة الخارجية البارزين في الحزب الجمهوري، أي أولئك الذين يمثلون مؤسسة الأمن القومي فيه، أنه من الممكن لا بل من الضروري دمج الاتجاهات الحالية المتضاربة في الحزب. في محادثات أجريتها مع أعضاء هذه المجموعة، بمن في ذلك مستشارو الأمن القومي السابقون ووزراء الخارجية والدفاع السابقون، جادل معظمهم بأن هناك أرضية مشتركة وبأن القواعد الشعبية في الحزب الجمهوري أقل ميلاً حتى الانعزالية الجديدة مما تشير إليه تصريحات بعض قادتهم العلنية.

على سبيل المثال، أخبرني نائب الرئيس السابق مايك بنس أن تأييد سياسات "الاسترضاء" [المهادنة] و"حتى الانعزالية" يتزايد داخل الحزب، لكنه أصر على أن مثل هذه الآراء، مهما علا صوتها، "لا تشكل الأكثرية". في المقابل، اعتبر ستيفن هادلي، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، أن أفكار الجمهوريين المتنافسة "يمكن التوفيق بينها، مما يعزز الحوار بين التيارات المختلفة" داخل الحزب. وعلى نحو مماثل، قال السيناتور توم كوتون، الجمهوري من أركنساس، إنه "في حال كان من الممكن التوصل إلى توليفة أو مزيج بين نهجي ريغان وترمب على رغم درجة التعارض الكبيرة بينهما، فالأرجح أن معظم الجمهوريين سيتبعون ويؤيدون توليفة تميل أكثر إلى سياسة رونالد ريغان الخارجية، لكن مع مراعاة التغيرات التي تتناسب مع الظروف الحالية".

ويتطلب تحقيق هذه التوليفة توافقاً في الآراء في شأن مجموعة من القضايا الأساسية. في الواقع، إن التركيبة التي نشأت بالاستناد إلى محادثاتي تتضمن وجهة نظر أكثر تشدداً تجاه الصين والتزاماً ثابتاً بمساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها، واستراتيجية وموازنة دفاعية مصممة لمواجهة المحور الصيني - الروسي الجديد، وترتيبات التجارة الحرة التي تعزل بكين، والاعتراف الواضح بالفوائد الاقتصادية للهجرة القانونية، ومطالبات حلفاء الولايات المتحدة بتقاسم الأعباء بصورة أكبر. ولكي يكون هذا الإجماع الجمهوري الجديد على السياسة الخارجية قابلاً للتنفيذ من الناحية السياسية، يجب على الحزب أن يقدم حجة مقنعة مفادها أن الولايات المتحدة في حاجة إلى الحفاظ على دور نشط في الشؤون العالمية. ويتعين على الجمهوريين أن يشرحوا دائماً للناخبين الفوائد الاقتصادية والأمنية التي يجنيها الأميركيون من المشاركة والتفاعل، وهو تحول في الخطاب يتطلب تنفيذه روح القيادة الحقيقية والشجاعة داخل الحزب.

عصر الدولية

إن التوترات بين الجمهوريين في شأن الالتزامات الأميركية الدولية ليست جديدة. ففي عام 1941، عندما حاول الرئيس فرانكلين روزفلت تمرير قانون الإعارة والتأجير عبر الكونغرس من أجل توفير الإمدادات العسكرية للمملكة المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، عارض المشرعون الجمهوريون بمعظمهم هذه الخطوة. وبعد دخول الولايات المتحدة الحرب التف الجمهوريون حول روزفلت وخليفته الرئيس هاري ترومان وساندوهما، لكن الجناح الانعزالي في الحزب بدأ في إعادة فرض نفسه ما إن توقفت الأعمال العدائية. عندما صوت مجلس الشيوخ على انضمام الولايات المتحدة إلى منظمة حلف شمال الأطلسي عام 1949، اعترض السيناتور روبرت تافت من ولاية أوهايو، وهو عضو مخضرم في الحزب أبدى تحفظات منذ فترة طويلة حيال المشاركات الخارجية، إلى جانب 10 أعضاء جمهوريين آخرين في مجلس الشيوخ.

إن نزعة "أميركا أولاً" الشعبوية تنتقد العولمة وتميل نحو الانسحاب من الساحة العالمية

وظل المتشككون في المشاركة الدولية يشكلون قوة مؤثرة في الحزب، وكان من الممكن أن يصبحوا مهيمنين لولا وجود رجل واحد، وهو أيزنهاور. بحلول حملة الانتخابات الرئاسية لعام 1952، كان أيزنهاور، بفضل نجاحه كقائد أعلى لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، مناصراً للدولية بصورة صريحة وشخصية سياسية مرموقة ترغب جميع الأطراف في ضمها إلى صفوفها. رضخ للضغوط ودخل السباق الرئاسي، واختار الترشح عن الحزب الجمهوري. في كتابه "أيزنهاور 1956"، يؤكد المؤرخ ديفيد نيكولز أن "السبب الأساس وراء قرار أيزنهاور الترشح للرئاسة كان هزيمة الجناح الانعزالي في الحزب الجمهوري".

وتحولت انتخابات الجمهوريين التمهيدية إلى صراع بين أيزنهاور وتافت، زعيم القوى الانعزالية. وعندما فاز أيزنهاور، أعلن برنامج الحزب الجمهوري في مؤتمر الترشيح بكل جرأة عن نية الولايات المتحدة في أن تتولى دوراً قيادياً نشطاً في الشؤون العالمية. وتعهد البرنامج دعم الأمم المتحدة والتجارة الحرة، ودحر الاتحاد السوفياتي، ووعد بأن الولايات المتحدة "ستصبح مرة أخرى القوة الديناميكية والأخلاقية والروحية التي أحبطت الطغاة ومدت المضطهدين بالأمل".

ولأكثر من ستة عقود من الزمن، قادت طريقة التفكير هذه التيار العام الرئيس في الحزب الجمهوري. وكان من بين زعماء الحزب اللاحقين الرئيس ريتشارد نيكسون، المناصر المطلق للدولية ومهندس انفتاح الولايات المتحدة على الصين، وريغان، الذي ترجمت اتجاهاته المناهضة للشيوعية بمشاركته النشطة وتعاونه مع الحلفاء واتخاذ إجراءات ضد وكلاء السوفيات المفترضين في جميع أنحاء العالم. علاوة على ذلك، كانت وجهة النظر التي تبناها ريغان، وكثيراً ما عبر عنها بوضوح، هي أن الولايات المتحدة تعد نموذجاً للحرية والديمقراطية، "مدينة مشرقة على التل"، يتعين عليها أن تنشر تعاليمها الفاضلة وترحب بالمهاجرين، إذ بإمكانهم إثراء التجربة الأميركية.

بطريقة موازية، فإن الانخراط في الشؤون الدولية عاد بالنفع أيضاً على دوائر انتخابية جمهورية مهمة. أسهمت إقامة العلاقات مع الصين في إفادة الجناح التجاري في الحزب، الذي اكتسب سوقاً ضخمة للتصدير ومصدراً للمكونات والسلع المصنعة. واستطراداً، فتحت العولمة الاقتصادية الأسواق، بما في ذلك أسواق الصين، أمام المزارعين الأميركيين في الولايات التي يهيمن عليها الجمهوريون في الغرب الأوسط. ورأى الناخبون الذين راودتهم مشاعر قوية معادية للشيوعية أن الموقف الشرس الذي اتخذه الحزب تجاه الاتحاد السوفياتي، ودعمه لمناهضي الشيوعية في جميع أنحاء أميركا الوسطى وأفريقيا، هو واجب أخلاقي وضرورة استراتيجية.

بزوغ شعار "أميركا أولاً"

بحلول التسعينيات من القرن الـ20، بدأ دعم الدولية يشهد تدهوراً. وعندما تبددت التهديدات الشيوعية والسوفياتية، تبددت معها القضية التي كانت تربط الجمهوريين ببعضهم بعضاً فيما يتعلق بمسائل الأمن القومي. وقد أدى انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وهو أمر دعمه قادة كلا الحزبين، إلى تقلص قاعدة التصنيع الأميركية وزوال الوظائف المتعلقة بها. في حملاته الرئاسية عامي 1992 و1996، شكك المستشار والمعلق السياسي الجمهوري المخضرم باتريك بوكانان في منافع الانخراط العالمي وحسناته وقدم نسخته الخاصة من قيود التجارة والهجرة التي تحمل شعار "أميركا أولاً".

على رغم ذلك، استمر التوق إلى دور قوي للولايات المتحدة على المسرح العالمي. وفي مثال على الأفكار السائدة في ذلك الوقت، كتب تشاك هاغل، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية نبراسكا (ووزير الدفاع لاحقاً)، مقالاً في مجلة "فورين أفيرز" عام 2004 حدد فيه ركائز سياسة الجمهوريين الخارجية. وتضمنت قائمته دعم التحالفات، وتوسيع التجارة الحرة، ودعم السلك الدبلوماسي، وتعزيز الإصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط، وتعميق العلاقات مع الصين، وتعزيز أمن الطاقة.

وباستثناء أمن الطاقة، انحرف الجمهوريون بعيداً من كل هذه المبادئ في السنوات التي تلت ذلك. وعلى وجه الخصوص، أدى الإرهاق الناجم عن الحربين الطويلتين وغير المرضيتين في أفغانستان والعراق، اللتين بدأتا في عهد رئيس جمهوري، إلى تحويل الأهداف المتعلقة ببناء الأمم وتعزيز الديمقراطية من تطلعات مبدئية إلى مقترحات مشكوك فيها.

وهكذا فتح باب أمام ترمب الذي أعلن عام 2016، عند قبول ترشيح الحزب الجمهوري له للرئاسة، أن "عقيدتنا ستكون الأمركة لا العولمة". وشكك ترمب علانية في أهمية تحالفات الولايات المتحدة، حتى إنه أشار إلى أن واشنطن لن تفي بالتزامها موجب معاهدة "الناتو" بأن تدافع عن شركائها في الحلف إذا تعرضوا لهجوم. وفي قمة "الناتو" في بروكسل عام 2018، كان على وشك أن يسحب الولايات المتحدة من الحلف، لكن رئيس موظفيه، جون كيلي، أثناه عن فعل ذلك في اللحظة الأخيرة. واستكمالاً، سعى ترمب إلى بناء جدار مادي حقيقي على طول الحدود الجنوبية للولايات المتحدة وجدار افتراضي حول اقتصادها، إذ فرض رسوماً جمركية وقيوداً تجارية استهدفت الأصدقاء والأعداء على حد سواء.

إن تشكك ترمب وحزبه باستمرار في الانخراط بالشؤون الخارجية أمر واضح. وفي مقطع فيديو نشر العام الماضي، قال ترمب إنه إذا أعيد انتخابه، "فسيتخلص من كل دعاة الحرب" في البنتاغون ووزارة الخارجية، ولكن الاستثناء الملحوظ لهذا الموقف العام هو دعم الحزب الجمهوري القوي لإسرائيل في حربها ضد "حماس"، متأثراً جزئياً بالارتباط العميق الذي يكنه كثر في التيار المسيحي الإنجيلي الكبير في الحزب تجاه الدولة اليهودية. وحتى عندما رفض الجمهوريون تمرير المساعدات العسكرية لأوكرانيا أواخر عام 2023، وافقوا في مجلس النواب بغالبية ساحقة على تقديم المساعدات لإسرائيل، على رغم أنهم، في مخالفة للتقاليد، أصروا على تخفيض الموازنة في مجالات أخرى من أجل تمويل هذا الدعم. وسرعان ما غير ترمب لهجته، بعد أن انتقد في البداية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أعقاب الهجوم الذي شنته "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، ووصف قادة حزب الله، الجماعة المسلحة المدعومة من إيران والمتمركزة في لبنان، بأنهم "أذكياء للغاية". وقال ترمب للمانحين اليهود في أواخر أكتوبر: "سأدافع عن صديقتنا وحليفتنا دولة إسرائيل كما لم يدافع عنها أحد من قبل [بطريقة غير مسبوقة]".

قواعد جديدة للعبة

ليس واضحاً إلى أي مدى يؤثر ترمب على مواقف المشرعين الجمهوريين في السياسة الخارجية. في الواقع، قد تتلاشى النزعات الشعبوية إذا لم يعد يهيمن على الحزب، ولكن من الممكن أيضاً أن تصبح هذه النزعات والأفكار متأصلة بقوة في عقلية الجمهوريين. ولا توجد طريقة لمعرفة ذلك على وجه اليقين طالما أن ترمب لا يزال يلعب دوراً بارزاً في الحزب. ومع ذلك، يعتقد قادة الحزب الأكثر خبرة أنه من الممكن تخفيف السلوكيات الشعبوية ومنع مزيد من التحول نحو الانعزالية.

وتتلخص المهمة الأولى في إقناع الناخبين الجمهوريين، من ثم جميع الأميركيين، بأن المشاركة الدولية ليست مجرد فكرة خيرية، بل هي استراتيجية ذات فوائد ملموسة. في هذا السياق، قال لي مايك بومبيو: "نحن في حاجة إلى تبني فلسفة ريغان التي تفترض أن العالم يعتمد على أميركا، وأن في هذا الاعتماد جانباً إيجابياً". وجادل بومبيو، الذي شغل منصب وزير الخارجية في عهد ترمب، بأن هيمنة الدولار الأميركي على التمويل العالمي هي "نتيجة مباشرة للقيادة الأميركية" وهي تشكل في حد ذاتها "مبرراً كافياً لكي تتولى أميركا دور القيادة". علاوة على ذلك، أكد أنه من أجل الترويج لفكرة لعب دور فعال عالمياً بين عامة الناس، يجب على القادة السياسيين تحديد أهداف واضحة لسياسات الولايات المتحدة، أهداف من النوع الذي "يمكن إيصاله إلى كل مواطن أميركي بطريقة تسمح له بالقول "أنا أفهم ذلك"، سواء كان موجوداً وفي أريزونا، أو ألاباما، أو فيرمونت.

واستطراداً، فإن أي إجماع جديد في مجال السياسة الخارجية لا بد أن يتعامل أيضاً مع العواقب المترتبة على نشوء المحور الصيني - الروسي. وفي ذلك الإطار، قال جون بولتون، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي لترمب: "نحن في عصر جديد من السياسة الخارجية. لقد انتهت حقبة ما بعد الحرب الباردة، وأعتقد أنها وصلت إلى نهايتها بزيارة شي جينبينغ إلى موسكو [في عام 2023]". ساعدت تلك الرحلة في بلورة التحالف الناشئ، وإن كان يفتقر إلى التنظيم والتنسيق، بين الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، التي تعمل جميعها ضد الولايات المتحدة. وفي هذه المعادلة العالمية المتغيرة، لم تتضاءل أهمية تحالفات الولايات المتحدة بل ازدادت. لكن حث الحلفاء على المساهمة بصورة أكبر في الدفاع الجماعي عن الغرب والأنظمة الديمقراطية، وإعلام الناخبين إلى أي درجة تصل مساهمات الحلفاء الفعلية، يعد أيضاً ضرورياً من أجل الحفاظ على الدعم الشعبي للمهام الخارجية ودحض الحجج الداعمة للانعزالية.

وبطريقة موازية، يعني تحديث النهج الجمهوري أيضاً الاعتراف بأكبر تغيير حدث في العقدين الماضيين، وهو أن الصين لم تتحول إلى ما كان الجمهوريون في عهد ريغان يأملون في أن تصبح عليه. وكان وزير الخارجية السابق جايمس بيكر، الذي خدم في عهد ريغان وخليفته الرئيس جورج بوش الأب، صريحاً في شأن التأثيرات المترتبة على دمج الصين في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك عضويتها في منظمة التجارة العالمية. قال لي بيكر "اعتقدنا أن ذلك سيحسن سلوكها، لكننا كنا مخطئين تماماً". لا يحتاج النهج الجديد إلى تجنب التعامل مع بكين في جميع المجالات، ولكن يجب أن يكون حازماً وصارماً في مجابهة العدوان الصيني. وأضاف بيكر: "نحن في حاجة إلى التصدي لها والتوقف عن السماح لها باستغلالنا، ولا تنس أن تحقيق السلام من خلال القوة هو الطريق للوصول إلى هذا الهدف. وهذا يعني الاهتمام بموازنة الدفاع الخاصة بك".

هذا القلق الجديد من الصين يدعو إلى تجديد الالتزام تجاه تايوان. وهناك بالفعل تأييد واسع النطاق للاستمرار في مساعدة تايوان على بناء دفاعاتها الخاصة. ولكن هناك بعض الخلافات حول أفضل السبل لتجنب الصراع. نصح بيكر الجمهوريين بالتزام ـ"الغموض الاستراتيجي" في ما يتعلق بتايوان. وتتضمن هذه الاستراتيجية، التي وجهت سياسة الولايات المتحدة لسنوات، تفادي الإعلان الصريح عن الطريقة التي قد ترد فيها الولايات المتحدة إذا شنت الصين هجوماً على تايوان. وتقول النظرية إنه في حال أعطت الولايات المتحدة ضمانات أمنية واضحة لتايوان، فقد يشجع ذلك تايبيه على أن تكون استفزازية بصورة أكبر، في حين أن رفض حماية تايوان قد يشجع الصين على السيطرة على الجزيرة. في المقابل أشار كوتون إلى أن واشنطن يجب أن تنهي هذا الغموض وتوضح لبكين أن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي إذا نفذت الصين عملاً عسكرياً: "أعتقد، كالعادة، أن أبسط طريقة لردع الصراع هي أن نكون واضحين تماماً في شأن التزامنا في حالة نشوب صراع".

وفي مجال الاقتصاد، فإن التوصل إلى توافق جديد ليس من المفترض أن يتطلب التخلي عن مبادئ التجارة الحرة التي كانت لفترة طويلة سمة مميزة في سياسة الجمهوريين الخارجية، بيد أن هذه المبادئ تحتاج إلى تحديث. في المقام الأول، يتعين على صناع السياسات الجمهوريين أن يسعوا إلى تجنب التعامل المباشر مع الصين وأن يبرموا عوضاً عن ذلك اتفاقات تجارية ثنائية أو إقليمية مع شركاء يشعرون بالقلق أيضاً من الإكراه الاقتصادي الذي تمارسه بكين. ولفت كوتون إلى أنه حتى ريغان لم يكن مؤيداً بشكل مطلق للتجارة الحرة على النحو الذي يعتقده الناس غالباً. وأوضح كوتون أن "ريغان فرض مجموعة من الرسوم الجمركية والحصص (الكوتا) على أشياء مثل السيارات والدراجات النارية والإلكترونيات والصلب من أجل حماية الوظائف الأميركية وحماية الإنتاج والصناعات الأميركية الحيوية". فقط بعد عهد ريغان، تحولت السياسات التجارية الجمهورية بصورة أكبر نحو التحررية الاقتصادية، مما يعني أن هناك مجالاً الآن لإحياء بعض السياسات الحمائية من دون رفض التجارة الحرة بالكامل.

وتجدر الإشارة إلى أن الهجرة تشكل تحدياً ذات أهمية خاصة بالنسبة إلى للدوليين الجمهوريين. قبل ترمب بوقت طويل، بات من الصعب الحفاظ على المنظور المتفائل الذي كان موجوداً في عهد ريغان حول الفوائد الاقتصادية التي يجلبها المهاجرون إلى الولايات المتحدة، إذ تضاعف عدد المهاجرين غير الشرعيين في البلاد في تسعينيات القرن الـ20. ولكن على رغم التشدد المتزايد في وجهات النظر في شأن الهجرة، هناك سابقة تاريخية تتمثل في تقديم الزعماء الجمهوريين حلولاً محتملة. في عهد كل من ريغان وجورج دبليو بوش، اقترح الجمهوريون إصلاحات شاملة لتأمين الحدود الجنوبية الأميركية وثني أصحاب العمل عن توظيف المهاجرين غير الشرعيين، وفي الوقت نفسه تحديث، لا بل توسيع السبل القانونية حتى يتسنى للمهاجرين الدخول إلى سوق العمل الأميركية، لكن العنصر المتعلق بأمن الحدود في سياسة عهد ريغان لم ينفيذ قط، ولم يتمكن بوش من إقناع حزبه بدعم الخطة التي اقترحتها إدارته. اليوم، بعد أن أصبحت سياسة الهجرة في موقف صعب، أصبح تجديد الجهود الرامية إلى إصلاح النظام هو السبيل الأفضل، وربما الوحيد، للمضي قدماً. ومن المرجح أن تتضمن جهود الإصلاح المجدية سياسياً مزيجاً يجمع بين التدابير الأمنية الصارمة على الحدود واتباع نظام أكثر عقلانية للهجرة القانونية مصمم خصيصاً لتلبية حاجات ميدان العمل.

التحديات المقبلة

ربما يكون الاختبار الحقيقي القاسي الذي يواجهه الجمهوريون الدوليون هو المناقشة الدائرة حول استمرار المساعدات لأوكرانيا. أوضح بعض الجمهوريين معارضتهم للتمويل الإضافي عندما زار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الكونغرس في سبتمبر. وأصدر السيناتور روجر مارشال من ولاية كانساس بياناً قال فيه إنه لن يدعم إرسال "سنت أميركي إضافي" لمساعدة أوكرانيا في محاربة الغزو الروسي، وتغيب عن الاجتماع مع زيلينسكي، قائلاً: "أولويتي هي ضمان أمن وطننا الأميركي، وليس أن نضطر إلى مشاهدة مهزلة جديدة". كذلك، يتعين على الزعماء الجمهوريين أن يتعاملوا مع الإرهاق الناجم عن الحرب بين ناخبيهم أيضاً، إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في أغسطس أن 65 في المئة من المشاركين الذين صرحوا بأنهم جمهوريين يتفقون مع فكرة أن الولايات المتحدة تبذل جهداً أكثر مما ينبغي لمساعدة أوكرانيا، مقابل 12 في المئة فحسب من الديمقراطيين.

واستكمالاً، أكد روبرت غيتس، الذي كان نائباً لمستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جورج بوش الأب، ثم شغل فيما بعد منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية ووزير الدفاع أن "هناك روايات كثيرة في وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات الكيبل التي يستمع إليها الأميركيون العاديون تغذي فكرة أن [دعم أوكرانيا] هو مضيعة للمال ويخاطر بالتسبب في اندلاع حرب مع روسيا، ولا أعتقد أن القيادة الجمهورية تفعل ما يلزم من أجل التصدي لهذه الروايات". ولكن غيتس يلاحظ أيضاً تأييداً كافياً لكييف في صفوف الجمهوريين. وأضاف أنه على رغم أن "الأشخاص الأكثر تطرفاً يحصلون على أكبر قدر من الاهتمام، لا يزال هناك جمهوريون كثر في مجلس النواب يؤمنون بالدور الريادي الأميركي على الصعيد الدولي"، فيما يخص قضية أوكرانيا.

إن إقناع الناخبين بهذه القضية أمر ممكن. وقد قدم المعلق المحافظ مارك تيسين الحجة الأشمل ربما لنهج "أميركا أولاً" في ما يتعلق بدعم أوكرانيا، إذ كتب في صحيفة "واشنطن بوست" أن مساعدة أوكرانيا ستؤدي، في جملة أمور أخرى، إلى ردع الصين عن القيام بأي عمل عدواني، وردع أعداء الولايات المتحدة عن تهديد الغرب، وإعادة إحياء عقيدة ريغان المتمثلة في محاربة المعتدين الأجانب ليس من طريق نشر الجيش الأميركي، بل من خلال مساعدة القوات ذات التفكير المماثل بعيداً من الشواطئ الأميركية.

يتعين على الزعماء الجمهوريين أن يتعاملوا مع الإرهاق الناجم عن الحرب بين ناخبيهم أيضاً

ولكن حتى إذا كان من الممكن تقديم حجج مقنعة تمزج بين قومية الحزب الجمهوري ونزعته الدولية، فليس من الواضح من يستطيع أن يلعب دور البطل الشعبي الذي سيدافع عن هذه الحجج. لقد انسحب عدد من المخضرمين في الحزب، الذين كانوا يشكلون عادة شخصيات راسخة في مؤسسة الأمن القومي التابعة للجمهوريين، أو تعرضوا للإقصاء والاستبعاد خلال رئاسة ترمب، ومع بدء الحملة الرئاسية لعام 2024، ما زالت أدوارهم هامشية. في الواقع، هذا التراجع في المكانة والأهمية لا تواجهه كبار الشخصيات فحسب. قال روبرت زوليك، نائب وزير الخارجية السابق والممثل التجاري للولايات المتحدة إن "فترة ولاية ترمب خلقت فجوة في الخبرة لدى جيل أصغر سناً من صناع القرار الجمهوريين الذين لم يكونوا راغبين في العمل في إدارته". ويندرج عدد من المتخصصين في السياسة الخارجية ذوي الميول الدولية ضمن هذه الفئة، ولم يتول عدد كبير منهم الأدوار الحكومية النموذجية التي كان من شأنها أن تعزز مؤهلاتهم، وتضعهم في مناصب أعلى اليوم.

وفي ظل غياب هذه الشخصيات، لم يتبق سوى زعماء الكونغرس الجمهوريين ومجموعة المرشحين الرئاسيين للدفاع عن هذه الحجج. حتى الآن، أسهمت الحملة الانتخابية الأولية في توليد الارتباك عوضاً عن توفير الوضوح في شأن اتجاه السياسة الخارجية للحزب. شكك ترمب في الدعم الأميركي لأوكرانيا، وردد راماسوامي آراء ترمب القومية. أما حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، الذي اعتبر منذ فترة طويلة المنافس الرئيس لترمب في هذا السباق الرئاسي، فقد تأرجح بين المواقف القومية والدولية في ما يتعلق بأوكرانيا والتجارة. وفي الوقت نفسه قدمت سفيرة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي والحاكم السابق لولاية نيوجيرسي كريس كريستي [انسحب من السباق الجمهوري في 11 يناير (كانون الثاني) الجاري] حجة قوية لصالح المشاركة العالمية على طريقة ريغان بشكل أو بآخر.

ليس هناك ما يضمن أن الجمهوريين سيتحدون خلف نهج جديد، وتعتمد نتيجة المناظرة [النقاش بخصوص السياسة الخارجية] بصورة كبيرة على من سيبرز كزعيم للحزب عام 2024. إذا أعيد انتخاب ترمب رئيساً، فمن الممكن أن يواجه الحزب ما أطلق عليه المحلل والتر راسل ميد اسم ولاية ثانية "أكثر ترمبية" في السياسة الخارجية، مع ولاء أقل للتحالفات التقليدية والمنظمات الدولية وتضاؤل الاهتمام بقضايا المناخ. ولكن إذا فازت هيلي في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، على سبيل المثال، فسينفتح أمام الحزب مسار مختلف تماماً. ويمكن أن تؤدي الخسارة أمام الرئيس جو بايدن أيضاً إلى إعادة تقييم شاملة لنهج "أميركا أولاً" الذي اعتمده ترمب.

ثم يأتي التحدي المتمثل في دمج هذه العناصر والمبادئ المختلفة. وكنقطة انطلاق لدولية جمهورية جديدة تتضمن التعامل مع الحلفاء والوقوف في وجه الطغاة في الخارج، اقترح بولتون البدء بأبسط مبادئ ريغان. وعلى حد قوله، "أعتقد أننا نعرف الصيغة الفعالة. إن القوة هي الطريق إلى إحلال السلام".

*جيرالد ف. سيب هو محرر تنفيذي سابق في صحيفة "وول ستريت جورنال" في مكتب واشنطن، وكاتب عمود "كابيتال جورنال" في الصحيفة نفسها. يشغل حالياً منصب كبير المرشدين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.

مترجم عن "فورين أفيرز" بتاريخ 9 يناير 2024

المزيد من آراء