Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرة عشق وصداقة لو سالومي مع نيتشه وفرويد وريلكه

ذكريات دونتها الكاتبة بحساسيتها الفنية العالية وثقافتها الموسوعية وقدرتها الفذة على التقاط اللحظة بملئها

لو سالومي التي سحرت فرويد ونيتشه وريلكه  (مواقع التواصل الاجتماعي)

هي المرأة التي أفاضت أثرها الفكري والجمالي والفني على من حولها من المفكرين والأدباء والشعراء في القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، لو (لويز) سالومي (أو شالوم)، المولودة في روسيا القيصرية (1861-1937) في سانت بطرسبورغ من عائلة يهودية ذات أصول فرنسية، تحولت إلى اللوثرية من عهد والدها غوستاف سالومي الجنرال الفرنسي الخادم في الجيش الإمبراطوري الروسي.

في الكتاب الصادر حديثاً (2023) عن منشورات حياة، بعنوان "نيتشه، فرويد، ريلكه، سيرة عاطفية" لمؤلفتها لو سالومي، منقولة عن الألمانية على يد المترجم والكاتب المصري أحمد الزناتي، تروي هذه المرأة الظاهرة علاقاتها العاطفية بكل من الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، وعالم النفس فرويد، والشاعر راينر (رينيه) ماريا ريلكه، معطوفة على ذكريات دونتها الكاتبة بحساسيتها الفنية العالية وثقافتها الموسوعية وقدرتها الفذة على التقاط اللحظة بملئها.

نشأة لو سالومي

 

كبرت لويز محاطة بالجنود ذوي البزات العسكرية، بيد أنها عاشت على هامش المجتمع الروسي، وسط جماعة المهاجرين الألمان الصغيرة، أو المواطنين الألمان المنضوين في الإمبراطورية الروسية. قرأت في صباها سبينوزا وكانط، وفي الـ15 فقدت أباها، فباعد هذا الموت بينها وبين الدين. ولئن كان والداها يحسنان تربية أبنائهما والبنات، ويحرصان على إعدادهم وفقاً لمنطوق الطبقة الأرستقراطية التي انتمت إليها، فإن لو (لويز)، الابنة الوحيدة بين أربعة أشقاء، تفردت عنهم "بخروجي عن تقاليد العائلة" (ص:51)، على ما تقول في الفصل الثالث من سيرتها. ولو أضفنا إلى معرفتها الفنون (الموسيقى والرسم والرقص والتزلج على الجليد) وإتقانها لها في فتوتها وصباها، الصلات الوثيقة التي كان والدها يقيمها مع الأدباء والشعراء الروس، مثل ليرمنتوف وغيره، لأدركنا طبيعة البيئة الاجتماعية النخبوية التي كانت تحيا في وسطها هذه التي صارت محط أنظار كبار المفكرين والشعراء والفلاسفة والفنانين أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20، في كل المدن الغربية التي انتقلت للعيش فيها، مثل فيينا وغوتنبرغ وباريس وبطرسبورغ وتورينجين، وغيرها.

بين الإيمان والحب

تقول لو سالومي، في مطلع تدوينها مذكراتها إن "أولى تجاربنا في الحياة هي تجربة الفقد" (ص:9)، وسيكون سرد الذكريات بمثابة العون على الصمود بوجه العدم. ومن ثم راحت تستعرض مراحل تطورها الذهني، من منطوق عالمة النفس التي صارت إليها، فبعدما كانت "غارقة في التفكير الخيالي الخالص"، و"مهددة بالضرب المبرح بالعصا" لتقديم الطاعة لوالدين "صالحين"، لجأت إلى الرب الذي كان يقف في صفها تماماً، على حد قولها. ولما كبرت قليلاً، أدركت، بمزيد من التأمل والحس الواقعي الذي تنميه الخيبات، أن ثمة فارقاً كبيراً بين الأمل والحقيقة، وأن الله، بحسبها مختف في الكون، وأنه لا يضيرها بشيء أن تتخلى عن إيمانها بالله، باعتباره مقروناً بالغيبيات، بظنها. وجعلت تنظم أشعاراً لدى إقامتها في فنلندا، في إحدى ليالي الصيف:

"أيتها السماء الساطعة فوق رأسي/ آه... كم أود أن أثق بك/ لا تحرميني لذة النظر إلى وجهك/ لا تحجبي عني وجهك/ سواء كنت في قمة اللذة أم في قمة الألم/ أنت الواسعة المحيطة بكل/ العالم والرياح/ أريني الطريق الذي يعيدني إليك من جديد/ لا أريد للمتعة أن تنتهي/ لا أريد الهرب من الألم" (ص: 21-22)

 

وفي حديثها عن الحب، تبدأ الكاتبة من الإشارة إلى "المراهقة (باعتبارها) الميلاد الثاني"، حيث تنمو الأجسام بل تفور فوراناً كاملاً، وتتهيأ الحواس والغرائز لتنطلق من إسارها، ويبدأ عصر الرومانسية فينفتح للشابة باب المغامرات. وكانت أولى هذه المغامرات العشقية، تعلقها بمعلم متزوج، وله بنتان من عمرها، وحدث أن تعلق قلب المعلم بتلميذته، فطلب الزواج منها وتطليق امرأته، فرفضت لو، وتزامن رفضها مع خروجها عن الكنيسة. على أن حرص سالومي كان مركزاً على استخلاص العبرة من هذه التجربة الأولى، التي كشفت لها أن المحبوب يتحول لديها إلى "صورة رمزية تجسد ملامح تجربتي الدينية" (ص:37)، ذاك أن هذا المعلم كان واعظاً دينياً في الكنيسة اللوثرية هندريك جيللو. وإثر ذلك، انتقلت لو مع والدتها إلى زوريخ حيث تسجلت في الجامعة لتتابع مقررات في المنطق وتاريخ الأديان.

وفيما كانت سالومي تسرد وقائع علاقتها العشقية الأفلاطونية الأولى، راحت تنظر إلى طرفي العلاقة من منظار علم النفس الفرويدي. وتضيف إليه أبعاداً عن طبيعة المشاعر الأنثوية المدموغة بغريزة الأمومة والإنجاب. وأياً تكن أهمية هذه النظرة العميقة - التي تنبه لها فرويد لاحقاً - فإن ما تخلل سرد الكاتبة ذكرياتها مع الثلاثة الكبار سيلازمه منهج التحليل المعمق نفسه، والتأويل الفكري عينه، ترفدهما قبسات من شعرها تلائم المواقف، طمعاً في تخليدها، ورفعها فوق الزمن.

ولئن أقرت سالومي بأنها لم توفق "لإحراز النجاح... في نمط من الأنماط الثلاثة... رابطة الزواج ورابطة الأمومة والرابطة الإيروسية الخالصة" (ص:44)، فإنها رفعت من مقام الصداقة إلى مرتبة المثال الذي تتسامى عنده الميول وتتصاعد:

"هكذا الأمر حتماً، وكما يحب الصديق صديقه/ أحبك أيتها الحياة/ أيتها الحياة المجللة بالغموض/ سيان إن كنت سبب ضحكي أم سبب يأسي"، (ص:46).

مع نيتشه وباول ريه

في الفصل الخامس من الكتاب (ص:91-114) تروي الكاتبة أهم ما انطبع في ذاكرتها عن صلتها بكل من الفيلسوف نيتشه، والشاعر باول ريه، فما يستفاد منه أن لو كانت قد عقدت صداقة مع الشاعر الألماني باول ريه، عام 1882، وكان عمرها 21 سنة، في خلال لقاء عند كاتبة إيطالية. واستمرت تلك العلاقة المقتصرة على حوارات وتمشيات طويلة في شوارع روما، خمس سنوات، في صداقة روحية أساسها الثقة والميل إلى الإبداع والحرية من أي قيد.

 

ولما نشأت الصداقة بين لو ونيتشه، وأعجب بها الأخير، وألح في طلب الزواج بها إلا أنها رفضت ذلك مصرة على نهج الصداقة، قائلة بأنها "تعارض فكرة الزواج من الأساس" (ص:97)، وأن مورد رزقها الوحيد كان معاش أبيها التقاعدي الذي تحرم منه بالزواج. وقد رأت أن تخلد صلتها بالشهيرين، نيتشه وباول ريه، بأن ركبت مشهداً تكون فيه على عربة خيل، ممسكة بلجام الرجلين وهما يجران العربة بديلاً من الحصانين. وبالطبع أرادت سالومي من ذلك أن توحي بمكانة المرأة وقدرتها على قيادة الرجل إلى حيث ترغب.

وأياً يكن مصير باول ري انتحاراً في إحدى سلاسل الجبال بإيطاليا حيث كان يعمل طبيباً للفقراء، ونيتشه الذي نأى عن سالومي إثر زواجها من فريديريك كارل أندرياس المستشرق الألماني والأرمني الأصل، والفارسي الهوى، فقد حفظت الود لنيتشه، على رغم حملات التجني التي جرها عليها وزوجها. ومن المعلوم أن أندرياس هذا كان قد أغرم بلو، وهددها بالانتحار إن لم تتزوجه، فرضخت للأمر، بشرط ألا يملك حصريتها الجنسية، وأن يدعها حرة في ما تفعل ومن تصادق.

علاقتها بفرويد

وفي الفصل التاسع الذي خصته بسرد "تجربتها مع فرويد" قصدت إلى الحديث عن واقعتين متكاملتين، الأولى "مشاركتي قدره الفريد وتجربته الروحانية الشديدة الخصوصية... أما الثانية فهي نشأتي (لو) وسط شعب لديه نزوع فطري إلى الحياة الروحية"، (ص: 185).

والحال أن لو سالومي هذه، لما التقت بفرويد، عام 1911، في جمهورية ويمار، في خلال انعقاد مؤتمر الجمعية الأممية للتحليل النفسي، كانت قد أحرزت مكانة راسخة في علم النفس حملت صاحب العلم على تسميتها بـ"شاعرة التحليل النفسي". وما لبثت أن تجاوزت، بحضورها الفاتن وألمعيتها أن حازت إعجاب فرويد بشخصها، وباتت صديقة العائلة، ومقربة من آنا فرويد، وواصلت مراسلاتها مع فرويد في خلال إقامتها بمدينة فيينا، وفيها كثير من الملاحظات والمقاربات النقدية العميقة، في ما خص العلاقة بين النرسيسية والإبداع الفني، وصلة ذلك بالحب، وغيرها من المطارحات ذات الصلة بالتحليل النفسي النسائي الذي كان لا يزال في مستهله. وقد صدرت هذه المراسلات بين العامين (1911-1931) في كتاب ضاف، صار مرجعاً لدارسي سيرة لو سالومي، وعلاقتها العلمية والعاطفية بفرويد. وبحسب الباحثة إينج ويبرمان فقد كان لسالومي الفضل في إعلان "طوباوية الثقافة الأنثوية"، وفي إطلاق الدراسات النسوية في تحليل النفس والاجتماع وغيرهما.

مع ريلكه

 

ولا نحسب الحديث عن صداقات سالومي يستقيم من دون الإشارة إلى صداقتها مع ريلكه التي بدأت عام 1897، في برلين، يوم التقت به شخصياً، بعد أن كان يبعث لها بالرسائل محملة بالقصائد ذات الطابع السنتيمانتالي بحسب تسميتها لها. وأتاحت لها صداقتها مع ريلكه أن تتفهم شخصيته ذات العاطفة المفرطة ورهافة في الروح ومادية الحواس. وقد أمكنها أن تشهد على مخاض الإبداع لدى الشاعر، وعلى تكون العوامل الخارجية في صوغ الإبداع. وفي هذا الشأن، كان للو سالومي الفضل في تنبيه ريلكه إلى الجمالات الكامنة في الفن الإيطالي، ولا سيما النهضوي، مثلما كان لها الفضل في تعميق الشاعر معرفته بتولستوي "أبو الروحانية الروسية والمشرقية"، في زيارة له إلى موطنه، على أن تتكفل بدرس شخصيته وأعماله المتفردة، وفي بحثه عن الله وعن مخلوقاته. وتورد بعض الاقتباسات الشعرية توكيداً لذلك:

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"بعيداً جداً كنت أنا، حيث ترفرف الملائكة/ وعالياً جداً كنت أنا، حيث يتلاشى الضوء في ظلمة العدم/ وكان الله ملفوفاً بظلام دامس/ وكانت الملائكة هي النسائم التي تهب على قمة العدم/ وكانت تؤمن بقوة النور أكثر من إيمانها بقوة الظلام..."، (ص:153).

أعمال سالومي

من المنصف أن يعاد الاعتبار إلى لو سالومي ليس باعتبارها صديقة الأدباء والعلماء الكبار في زمنها ونصيرة الفن والإبداع فحسب، وإنما يحسن بالدارسين لها الالتفات إلى أعمالها الأدبية، القصصية والروائية، بقدر الالتفات إلى أبحاثها في علم النفس، وغيرها. ومن تلك الأعمال:

"علم النفس الجنسي" و"النرسيسية والإبداع" و"راينر ماريا ريلكه" و"الذكريات الروسية" و"المنزل" و"الشيطان وجدته" و"ساعة من دون الله" و"حكايات أخرى للأطفال" و"وجوه نسائية في مسرح إبسن" و"في النوع النسائي" و"المريض دائماً على حق" و"الإيروسية وغيرها".

المزيد من ثقافة