Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لينا خوري تمزج عسل الحب بفيزياء المرض مسرحيا

اقتبست نص البريطاني نيك باين وقدمت الممثلة رينا حايك في تجربة ما بعد حداثية

ريتا حايك وألان سعادة في مسرحية لينا خوري "فيزيا وعسل" (خدمة الفرقة)

ملخص

اقتبست المخرجة اللبنانية لينا خوري نصاً مسرحياً للكاتب البريطاني المعروف نيك باين، وقدمته في صيغة مشهدية جديدة، تنتمي إلى فن ما بعد الحداثة. تروي المسرحية قصة حب بين عالمة فيزياء ورجل يعمل في تربية النحل.

تتيح المخرجة لينا خوري الفرصة أمام الجمهور اللبناني وحتى العربي، ليتعرف للمرة الأولى إلى الكاتب المسرحي والسينمائي البريطاني المعروف عالمياً، نيك باين ابن الـ42، من خلال مسرحيته الشهيرة "كواكب" (كونستلليشين) التي ترجمتها ولبننتها وأخرجتها، وتقدمها بعنوان "فيزيا وعسل" مع الممثلة القديرة ريتا حايك (ماريان) والممثل الموهوب الآن سعادة (رولان). هذا النص المسرحي عرف نجاحاً كبيراً منذ صدوره في عام 2012 وتقديمه على مسارح عدة في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وسواها، وحاز جائزة هارولد بنتر وتوجته "لندن إيفيننغ ستاندرد" كأفضل عمل مسرحي، ورشح إلى جائزة لورانس أوليفييه ودراما ليغ أوورد وتوني أوورد وسواها. وكتبت عنه أبرز الصحف العالمية ومنها "نيويوركر" الأميركية.

كان لا بد من هذه اللمحة السريعة عن المسرحية وصاحبها، الكاتب الدرامي والسينمائي، مع أنها تستحق أكثر، بعد أن مثلت نقطة تحول في المسرح البريطاني الجديد أو "البوست مودرن"، وعلى رغم من فرادتها نصاً ورؤية، بل صعوبتها إن جاز الكلام، لكننا هنا أمام كتابة إخراجية جديدة تماماً للنص، يحمل توقيع لينا خوري صاحبة المفاجآت الدائمة، وأمام أداء تمثيلي ثنائي (ديو) متناغم ومتواصل ومتقطع في تواصله، رسخته ريتا حايك ومعها ألان سعادة، بل أمام سينوغرافيا بديعة وما بعد حداثية (حسن صادق) نابعة من رؤية المخرجة وتأويلها للنص، وأمام تصميم ملابس (سوزي شمعة) هو جزء أساس من "الميزانسين" وكذلك الإضاءة (محمد أسعد).

في إمكان المشاهد أو الناقد متابعة بعض العروض أو الصيغ الإخراجية، التي حظيت بها هذه المسرحية عالمياً عبر الـ"يوتيوب"، ومشاهدتها كاملة أو مشاهدة مقاطع منها، بالإنجليزية والفرنسية وسواهما، وبعضها لمخرجين وممثلين معروفين. سيكتشف المشاهد أو الناقد، كيف أن لينا خوري تمكنت، مع الفريق كاملاً، أن تنجز صيغتها الخاصة جداً والمميزة والمختلفة أوالمتفردة، مشهدياً وبصرياً وسينوغرافياً وتمثيلياً، وكذلك في تأويلها للنص ودلالاته. خلقت لينا نصها البصري الدرامي على طريقتها، و"لبننته" ليس لغة فقط، ولا عبر اعتماد تعابير لبنانية وأسماء وأماكن (الجميزة، الحمرا، برج حمود، عكار...)، بل إنسانياً أيضاً، خصوصاً مع البطلة ماريان عندما تقع مريضة سرطان. بدت فعلاً "فيزيا وعسل" مسرحية بريطانية عالمية ولبنانية في آن واحد. غربة النص وغرابته وحداثته وما بعد حداثته، ذابت كلها في صيغة لينا خوري وأداء الثنائي وتفرد ريتا حايك في تجسيد شخصية امرأة لبنانية، هي عالمة فيزياء، وعاشقة، ومتحررة، ومريضة في الختام.

أكثر من لقاء حب

ليس لقاء حب عادي ما تقدمه مسرحية "فيزيا وعسل"، بين شاب وفتاة أو رجل وامرأة، بل هو أكثر من لقاء وأكثر من حب، لقاء بين شخصين مختلفين تماماً، سرعان ما يتناغمان، ليصبح الواحد مرآة الآخر، على الرغم من "تغبش" المرآة وغموض الشخصيتين وما تحملان من مواقف وأفكار وتناقضات. فهو شخص يعمل في تربية النحل وإنتاج العسل، وخبير في الثقافة "التقنية" الفطرية أو الغريزية التي يملكها النحل، أما هي فعالمة فيزياء، معنية خصوصاً بما يسمى الفيزياء "الكمية"، التي تقول بـ"العالم المتعدد".

غير أن اللقاء بين رجل آت من عالم النحل و"خليات" القفير المتعددة، وامرأة تؤمن أن ثمة "إمكانات" لا متناهية يمكن أن توجد في كل لحظة من الحياة، لن يقتصر على مثل هذه الأفكار العلمية أو السلوكية، بل سينفتح على الحياة في كل ثنائياتها، في جمالها وقبحها، في سيئاتها وحسناتها. في هذا المعنى يكشف الثنائي هنا عن حياتهما الممكنة والمستحيلة في وقت واجد، عن الحب والجنس والخيانة والوفاء والحسد والحماسة والأمل والمرض (السرطان) والموت، وعن القدر أيضاً والزمن والخيار الإنساني الحر أو الخيار المفروض... يتخاصمان ويتصالحان، يتوتران ويهدآن، يتبادلان القبل والحنان والكلام النافر إلى حد الشتائم.

الصدفة جمعتهما في مأدبة "باربكيو" والصدفة نفسها التي ستكون المرض المميت، ستفرق بينهما في الختام، ولكن بعد زمن غير محدد من علاقة "عاطفية" مصحوبة بخليط من المشاعر والأفكار والمقولات العلمية المتعلقة بالفضاء وبحياة النحل وموت الذكور بعد تلقيحهم الجنسي لـ"ملكة" القفير...

لعل أطرف لقطة تُستهل بها المسرحية هي اللقطة التي يحاولان فيها "لحس" الكوع او المفصل بين اليد والذراع، فيكتشفان عجزهما عن "لحس" كوعيهما أي استحالة بلوغ هذه النقطة من الذراع بالفم، وهذه حال من أحوال الإنسان العبثية. وقد تشبه بعضاً من الكلام الذي يتبادلانه ثم يكررانه وكأنهما لا يقولان شيئاً بينما هما يقولان كل شيء، على طريقة شخصيات الكاتب أوجين يونسكو، أحد رواد المسرح العبثي.

غير أن الحوار المتقطع بينهما تقطعاً مشهدياً وسينمائياً وسينوغرافياً وحركياً، يسترجع  في طريقة مختلفة، ما يسميه رولان بارت "مقاطع من حب عشقي". فحوار ماريان ورولان المملوء بالتكرار والإعادة اللذين قصدهما المؤلف الأول للنص نيك باين، وأخذت بهما المخرجة لينا خوري، هو حوار الحياة نفسها، بما تضم من مفارقات واختلافات، من تذكر ونسيان، من تردد واستعادة، من بناء وهدم. وقد تبدو اللعبة هنا، بما فيها التمثيل، كأنها "تمرين أسلوبي" (اكزرسيس دو ستيل) الشائع في المسرح وحتى في السينما، لكنها تتخطى هذا "التمرين" وهذه الأسلوبية، لتصبح لعبة الحياة نفسها، بحقيقتها ووهمها. الممثلان يؤديان دورين حقيقيين، بينما هما يؤديان في الوقت نفسه دورين مسرحيين.

كم نجحت خوري في نقل السينوغرافيا المتخيلة مبدئياً أو المفترضة فضائياً بحسب علم الفيزياء الكمي من ناحية، وهندسة قفران النحل من ناحية أخرى، إلى أرض المسرح فأظهرت المثلثات مرسومة في ما يشبه التوازي، وأضافت إليها مقاعد هي عبارة عن مكعبات ومستطيلات، حتى غدت السينوغرافيا فضائية وأرضية في وقت واحد. وبدا قفز ماريان أو ريتا حايك خلال أدائها، بين المثلث والآخر أشبه بالانتقال المتوهم بين جهة وجهة أو بين كوكب وآخر. إنها السينوغرافيا المتقطعة بدورها في موازاة النص والحوار المتقطعين، والأداء المتقطع، وهذه جميعاً إنما تتواصل بتناغم كلي، حتى إن المشاهد يشعر بأنه أمام لعبة سينمائية ذات إيقاع متردد بين الصوت وصداه. إنها لعبة الفلاش باك والفلاش فورورد، لعبة التنقل بين الأمام والوراء، بين الماضي والحاضر، بين المعلوم والمجهول. وفي معنى آخر عملت خوري على مفهوم التنويع (فارياسيون) المشهدي والحركي والأدائي، جامعة بين الوجه وقفاه، الشيء ونقيضه، الحركة وسكونها. ويمكن القول إن الممثلين نفسهيما كانا يؤديان دوريهما وينوعان عليهما. فلا أفقية هنا، ولا استقرار، بل تعدد وتداخل وحركة "لف ودوران" كما يقال، لقول ما يمكن قوله وما لا يمكن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الممثلة ريتا حايك تبدو هنا حاضرة بقوة، إنها في دور جميل ومعقد، وربما "مفخخ"، لكنها أدته أو جسدته ببراعتها وقدرتها على التجاوب مع الشخصية والتحاور معها. إنها لا تمثل هنا، بل تؤدي، تعيش، تتحول، تنتقل من موقف إلى آخر، تتردد حين يجب التردد، تنهار، تنهض. عندما تضع النظارتين تبدو ماريان أخرى، وعندما تخلعهما كذلك. ترقص، تقفز، تنحني على نفسها، تذوب، تشتد. إنها عالمة الفيزياء التي تفكر وتحلل وتقارن، لكنها أيضاً العاشقة، المتحررة، المترددة، تعبر عن أحاسيسها ورغباتها بجرأة، تخون وتعترف أنها خانت (علاقة عابرة مع جيمس) ثم تصبح وفية ثم تمرض وتواجه موتها. وقد نجحت ريتا في توظيف الملابس التي ترتديها في شكل لباس واحد تحوله إلى ثياب عدة، تتبدل عبرها بين لحظة وأخرى، بين عالمة الفيزياء والعاشقة ثم المريضة التي تضع على رأسها غطاء يخفي سقوط الشعر. شخصيات عدة أو أحوال عدة لشخصية واحدة تدعى ماريان هي في الواقع ريتا حايك.، التي هي نقطة البدء ونقطة النهاية. أما رولان فجسّده الممثل آلان سعادة الذي تمكن من الوقوف أمام ريتا ومواجهتها كعاشق و"نحال" وحبيب وخائن، مؤدياً دوره كما يجب أن يؤديه في إدارة مخرجة بارعة.

مفاجأة جميلة حملتها إلينا المخرجة لينا خوري، كعادتها. لكنها بعد غياب نحو خمسة أعوام، بعد مسرحيتها "حكي رجال" (2018) وموجة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، شاءت أن تصدمنا بمسرحية حديثة جداً وما بعد حديثة، جاعلة إيانا وجهاً لوجه، أمام قصة حب وعشق وخيانة ومرض وموت، بل أمام عرض يتحدى الزمن اللبناني في كل وجوهه، ويتحدى المسرح نفسه كاسراً معطياته الراسخة وإطاره الجاهز، مرتقياً به إلى مصاف المغامرة التي لا حدود لها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة