ملخص
كيف يمكن إعادة الدفء للعلاقات بين الجزائر ومالي؟
من دون سابق إنذار اشتد التوتر بين الجزائر وباماكو في مشهد لم تعهده العلاقات الثنائية من قبل، وعلى رغم توتر الوضع الأمني في شمال مالي منذ أغسطس (آب) الماضي بين الجيش الحكومي والجماعات الانفصالية والإرهابية، إلا أن الصمت كان سيد الموقف في الاتجاهين حتى استقبال الجزائر الزعيم الديني محمود ديكو، إذ عبر المجلس العسكري عن غضبه واستدعى السفير الجزائري للاحتجاج.
واستمرت القبضة الحديدية بين الجزائر ومالي بشكل مفاجئ، بعد أن استدعت الجزائر سفير باماكو لتقديم توضيحات في شأن استقبالها عدد من قيادات ورموز الحركات والتنظيمات المسلحة التي يعتبر غالبها من الموقعين على اتفاق الجزائر للسلم والمصالحة مع الحكومة المالية، ثم يتبعها "سحب" البلدين سفيريهما للتشاور.
ممارسات غير ودية
وزارة خارجية مالي قالت في بيان إنها استدعت سفير الجزائر للاحتجاج على "ممارسات غير ودية من بلاده وتدخلها في الشؤون الداخلية للبلاد تحت غطاء عملية السلام في مالي"، مشيرة إلى اجتماع سلطات الجزائر مع الانفصاليين من دون إشراك السلطات المالية.
وحذرت الخارجية من أن مثل هذه الاجتماعات ستفسد العلاقات الجيدة بين البلدين، وأكدت رفضها "اجتماعات متكررة تعقد في الجزائر على أعلى المستويات، من دون أدنى علم أو تدخل من سلطات باماكو، من جهة مع أشخاص معروفين بعدائهم للحكومة المالية، ومن جهة أخرى مع بعض الحركات الموقعة على اتفاق 2015 التي اختارت المعسكر الإرهابي".
واعتبرت باماكو تصرفات الجزائر تدخلاً في الشؤون الداخلية، وأن عليها تفضيل مسار التشاور مع السلطات المالية التي تمتلك الشرعية الوحيدة في البلاد، للحفاظ على تواصل الدولة المتبادل.
اتفاق السلم
وردت الجزائر باستدعاء السفير المالي، وقالت خارجيها إن "الوزير أحمد عطاف ذكر بقوة أن كل المساهمات التاريخية للجزائر في تعزيز السلم والأمن والاستقرار في جمهورية مالي كانت مبنية بصفة دائمة على ثلاثة مبادئ أساسية لم تحد ولن تحيد عنها بلادنا، أولاً وقبل كل شيء، تمسكها الراسخ بسيادة جمهورية مالي، وبوحدتها الوطنية وسلامة أراضيها، ثانياً القناعة العميقة بأن السبل السلمية دون سواها هي وحدها الكفيلة بضمان السلم والأمن والاستقرار في باماكو بشكل ثابت ودائم ومستدام".
وأضاف الخارجية الجزائرية أنه "نتيجة للمبدأين الأولين، نؤكد أن المصالحة الوطنية، وليس الانقسامات والشقاقات المتكررة بين الإخوة والأشقاء، تظل الوسيلة المثلى التي من شأنها تمكين دولة مالي من الانخراط في مسار شامل وجامع لكل أبنائها من دون أي تمييز أو تفضيل أو إقصاء"، وشددت على أنه هو المسار الذي يضمن في نهاية المطاف ترسيخ سيادة جمهورية مالي ووحدتها الوطنية وسلامة أراضيها.
وأوضحت الجزائر أن الاجتماعات الأخيرة التي جرت مع قادة الحركات الموقعة على اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر، تتوافق تماماً مع نص وروح دعوة جميع الأطراف المالية إلى تجديد التزامها بتنفيذ اتفاق السلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر استجابة للتطلعات المشروعة لجميع مكونات الشعب المالي الشقيق في ترسيخ السلم والاستقرار بصفة دائمة ومستدامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأعربت الجزائر عن أملها في أن تنضم الحكومة المالية، التي جددت تمسكها بتنفيذ هذا الاتفاق، إلى الجهود التي تبذلها الجزائر حالياً بهدف إضفاء حركية جديدة على هذا المسار، وختمت أن العلاقات الكثيفة والعريقة التي تربط البلدين تفرض عليها بذل كل ما في وسعها لمساعدة هذا البلد الشقيق في درب السلم والمصالحة الذي يبقى الضامن الوحيد لأمنه وتنميته وازدهاره.
ولم يبق الوضع المتصدع على المستوى السياسي أو الدبلوماسي بل انتقل إلى الإعلام، إذ تبادلت الصحف والقنوات في البلدين التقارير "السلبية"، وتعدى الأمر إلى المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي الذين دخلوا على الخط بشكل جعل المتابعين يعجبون للتغير المفاجئ في علاقات البلدين.
موقع قوة
وفي السياق يعتبر متخصص العلوم السياسية والعلاقات الدولية المالي محمد أغ إسماعيل أن الضغط الدبلوماسي الحاصل بين الجارين معقد، وهو سابقة في تاريخ العلاقات بين الجزائر وباماكو، متابعاً "نتصور أنه قد تكون هناك أسباب أخرى غير تلك التي سبق أن طرحتها الدبلوماسية المالية أثناء استدعاء السفير الجزائري لدى باماكو".
وأضاف الخبير السياسي أن "السلطات المالية الجديدة باتت لا تقبل اتفاق الجزائر كحل للسلم عكس الجزائر التي ترى في تطبيقه السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة مالي وتعزيز سيادتها"، وقال "باماكو تعتقد أنها في موقع قوة ولم تعد تريد أن تملى عليها الأمور".
وأشار متخصص العلاقات الدولية إلى أن الأزمة كانت متوقعة بعد فشل محاولات جزائرية وأممية عدة لإعادة إطلاق تنفيذ الاتفاق وذلك منذ 2022، وبعد أن أنشأت باماكو تحالفاً عسكرياً مع النيجر وبوركينا فاسو، واعتمادها على الروس لترسيخ قيادتها في المنطقة.
ويتابع إسماعيل أن هناك سبباً آخر وراء التوتر ين البلدين، وهو أن التعاون في استعادة منطقة كيدال بشمال مالي لم يسر كما هو مخطط له، إذ ترغب باماكو في وضع حد للنفوذ الجزائري على كيدال من خلال تغيير إدارة المنطقة، مضيفاً "أصبح النظام الحالي في باماكو يرى أنه في موقع قوة لمواجهة الجميع".
وفي رده على سؤال حول مصدر هذه القوة أوضح إسماعيل أن المجلس العسكري في مالي يستمد القوة من المجموعة العسكرية الروسية "فاغنر" وبعض الدول العربية، وأردف أن "هؤلاء المرتزقة أو المدربين الروس عززوا القدرة والثقة في القوات المسلحة المالية وصدقية السلطات السياسية"، مشيراً إلى أن هذا التوتر ليس في صالح البلدين الجارين والشعبين الشقيقين، وأنه يجب تفضيل قنوات الحوار لحله سريعاً، لاسيما أن المنطقة تحتاج إلى أن أكثر من أي وقت مضى إلى تعزيز التعاون والتوافق، وختم أنه لا يمكن للجزائر باعتبارها وسيطاً، أن تظل مكتوفة الأيدي في مواجهة تطور العنف، لكن المشاورات مع باماكو ضرورية أيضاً لتجنب التفسيرات السيئة الأخرى.
تصعيد مفتعل
من جانبه يرى الدبلوماسي الجزائري محمد خدير أن ما يجري بين الجزائر وباماكو مفتعل، إذ تتحرك منذ فترة أطراف خارجية في محاولة لإشعال الجهة بهدف إلهاء الجيش الجزائري بمعارك جانبية، وقال إن الموقف المالي غريب نوعاً، واستدعاء السفراء كان يكفي لحل المشكل التي هو في الأصل سوء تقدير من الطرفين فقط، غير أن الدوافع الحقيقية ستكشف عنها الأيام المقبلة.
وأضاف خدير أن استقبال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون لرجل الدين المالي محمود ديكو، ليس جريمة باعتبار الجزائر الوسيط بين الحكومة المالية والحركات المسلحة، ووصف ما حدث بالغضب الذي تسبب في برودة موقتة أو اختلال في العلاقات، محذراً من أنه يمكن أن يتطور الوضع إلى أخطر من ذلك بسبب تدخلات خفية لجهات خارجية، لأنه لا صديق دائم ولا عدو دائم في السياسة، وإنما المصالح تفرض نفسها.
من جهته يعتقد السياسي الجزائري حليم بن بعيبش أن الأزمة لا علاقة لها باستقبال الجزائر للشخصيات المالية السياسية والدينية والعسكرية، ولكن الأمر مرتبط بخرق السلطة في باماكو لاتفاق الجزائر من خلال قيامها بحملة عسكرية في شمال البلاد.
وأوضح بعيبش أن المجلس العسكري الانتقالي لا يعتبر الحركات والتنظيمات الأزوادية شركاء سياسيين بل يصنفهم في خانة الانفصاليين، لذلك جاء اعتبار استقبال بعض الشخصيات المالية بالتصرف غير الودي، وما تبعه من إجراءات دبلوماسية من البلدين انتهت بسحب السفراء، مشيراً إلى أن باماكو غيرت تحالفاتها وفضلت التوجه نحو أطراف سارعت إلى استغلال فرصة خروج الجيش الفرنسي من البلاد من أجل التموقع.