Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المصري صبري منصور يرسم كائنات الليل الأزرق

عالم أسطوري متخيل في ضوء القمر

لوحة من معرض الرسام المصري صبري منصور (خدمة المعرض)

يرسم شجرة ليستأنس بظلها العشاق، يتمدد ظل الشجرة فيلتف حولها المريدون، بينما يجلس المستنير في مهابة، فيبعث الطمأنينة في قلوب المحبين. في هذا الليل المشوب بالزرقة والأسرار تتداخل العصور والحقب، وتنفتح أبواب السماء لطيور عجيبة وأجساد ملائكية محلقة، أجساد تستمد ألقها وغموضها من ضوء القمر، فيستحيل الليل الموحش إلى سكينة.

هذه جوانب من أجواء اللوحات التي يقدمها الفنان المصري صبري منصور في معرضه الحالي المقام بالتعاون بين غاليري إرم في مدينة الرياض وغاليري مصر في القاهرة، والمستمر حتى الرابع من يناير (كانون الثاني) المقبل. في هذه اللوحات، كما في تجاربه السابقة، يشكل الضوء عنصراً محورياً، أو هو بطل المشهد في كثير من الأحيان، وأجمل ما فيه خفاء مصدره. لا ترهقوا أنفسكم بالبحث عن مصدر الضوء هنا، فهو ينبثق من العناصر.

هكذا تتشكل مفردات صبري منصور على مساحة اللوحة وكأنها كائنات نورانية ذائبة في التكوين وسابحة في فضاء أسطوري. أو أنه يشكل تفاصيلها وملامحها من الضوء وحده من دون سواه. الولع بضوء القمر قد فرضته أجواء الغموض وطبيعة التكوين والميل الشخصي المتأرجح بين المنطق الخيالي والرمزي في رؤية الوجود والعناصر. هي مشاهد خيالية وليست سوريالية، فالفنان صبري منصور ليس سوريالياً بالمعنى الصريح لهذا المصطلح، أو كما قد يحلو للبعض وصفه أحياناً، حين يحيلون كل عمل فني غامض أو غير مفهوم إلى السوريالية. تعتمد السوريالية على مجموعة من الخيالات الجامحة الشبيهة بهلوسات العقل الباطن.

 أما أعمال صبري منصور فهي ليست من هذا النوع، هي أعمال تعتمد على المواءمة ما بين الواقع والخيال، وتستند إلى مفردات وعناصر راسخة في الثقافة المصرية والإنسانية على نحو عام. يميل الفنان صبري منصور في أعماله إلى الرمز، لكنه في الوقت نفسه لا يستكين إليه، ولا يترك له الفرصة للسيطرة الكاملة على العمل. نعم، لقد قربته أجواء الغموض والخيال من روح السوريالية، غير أن مفرداته وعناصره الدالة جعلته أدنى إلى عالم الرمز. هو سلوك اختاره في سبيل بحثه عن قيمة جمالية تخصه وحده، وهي قيمة نابعة من رؤيته كإنسان يعيش في كون فسيح لا نهائي مليء بالتساؤلات، ونابعة أيضاً من ثقافته التي شكلتها مشارب عدة، تنطوي هي الأخرى على كثير من نقاط الغموض والتشابكات.

في أعماله الأولى برزت الشخوص في صدارة اللوحة مع شح في العناصر المصاحبة، ومثل الضوء عنصراً مهماً بين العناصر الأخرى، يتسلل خافتاً بين المساحات التي يخيم عليها الصمت. رجال ونساء يقفون في المواجهة كأنهم في حضرة المجهول، أو يتهيأون لمشهد تذكاري. في البداية كانت العلاقة بين المساحة والأجساد القوية للرجال والنساء، والمعالجة اللونية للمشهد تفرض سطوتها على العمل، ولكن حين انفتحت طاقة النور في أعماله اللاحقة اشتبكت العناصر مع الضوء واتسعت حدود المساحة، لينفتح فضاء اللوحة على عوالم أرحب. تلاشت الملامح لتترك لنا براحاً للتأمل، واتسعت المساحة للجميع: ملائكة وجنيات وأرواح هائمة تتلاقى معاً فوق مساحة اللوحة، وبشر يسكنون البيوت وتسكنهم الأبدية. هنا يتشكل نسق جديد وفصل مغاير لأسطورة صبري منصور التصويرية، حين تمتد الخيوط وتتلاقى مع ما أبدعه الأسلاف. وإن كانت القرية هي التي فجرت في داخله كل تلك الصور التي تتابعت بلا توقف في لوحاته، فقد انتقل من القرية إلى مسارات أخرى جديدة بالروح نفسها. انظر واقترب. فالمشهد هنا يبدو كترنيمة حزينة أو طقس بدائي يحتفي البشر خلاله بوجودهم العبثي، وثمة مواكب جنائزية وأعراس، وكائنات محلقة وأحصنة مجنحة بدرجات لون كضوء القمر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه الأشكال التي يرسمها الفنان صبري منصور ليست سوى مفردات للغة التي تتموضع داخل أطر يحمل كل منها سردية مختلفة، وهي سردية تحمل سراً وتروي حكاية. وإذا ما أردنا أن نتفهم جيداً هذا الأسلوب الذي يتبعه الفنان في بناء لوحاته، فليس علينا سوى العودة إلى هذه الصور التي رسمها المصري القديم على جدران المعابد والمقابر الفرعونية. أغمض عينيك قليلاً وتأمل، وستدرك أن هذه الأشكال المرتبة على هيئة مصفوفات تشترك مع هذا السرد البصري الذي أبدعه المصريون القدماء على الجدران، فكلاهما يعتمد على الحكي والرغبة في التدوين. وكما دون المصريون القدماء حكايتهم على الجدران، يدون صبري منصور حاضرنا، أو بالأحرى يدون ألم البشرية وحيرة الإنسان المعاصر في هذه اللوحات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة