Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الطفولة تواجه مأساتها في نصوص سعيد منتسب

السرد في "طائر أبيض بأجنحة موقتة" يراهن على التجريب وتحتفي بالجماليات اللغوية

لوحة للرسام مهند عرابي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

السرد في "طائر أبيض بأجنحة موقتة" يراهن على التجريب وتحتفي بالجماليات اللغوية

عرف السرد في العالم العربي خلال الفترة الأخيرة انفتاحاً على مختلف أشكال الكتابة والفنون، وصارت مساحات التجريب شاسعة، إلى الحد الذي جعل النقاد يتعبون وهم يبحثون عن أدبية النص في أعمال لم يعد الأدب رافدها الوحيد. وعلى سبيل المثال فقد برزت تجارب في الكتابة لم نعد نعرف معها متى ينتهي السرد ويبدأ الشعر.

في هذا السياق تأتي تجربة الكاتب المغربي سعيد منتسب الذي ينحو بنصوصه القصصية جهة قصيدة النثر. غير أن هذا لا يعني بالضرورة أننا أمام تداعيات وتنويعات أدبية مفتوحة أو اشتغالات لغوية تراهن على الجماليات على حساب ما تحمله من مضامين، بل إننا نواجه نصوصاً سردية اشتغل عليها صاحبها بعناية فائقة، عبر تكثيف الدلالات وتفريع معانيها وتعميقها، كما لو أن الكاتب يريد أن يقول كل شيء في جمل قصيرة ولاسعة.

في مجموعته القصصية الجديدة "طائر أبيض بأجنحة موقتة"، الصادرة عن دار خطوط وظلال، ينطلق سعيد منتسب من تيمة الطفولة ليبني حكايتين مختلفتين، الأولى عن مأساة الطفلة فدوى التي ذبحت العائلة ديكها الأليف، وقد قادتها هذه الحادثة إلى نهاية تراجيدية لاحقاً، والحكاية الثانية عن غزارة النسل لدى القرويين، وما يعقبها من ألوان المعاناة التي تلحق بالأطفال. وإذ يستهل منتسب كتابه بهذه الموضوعة فكأنما يوحي للقارئ بأن الطفولة هي الأصل، أو "العبقرية المستعادة" على حد تعبير بودلير. إن الحكمة تقتضي العودة للطفولة كما كان يقول باسكال، لذلك سيعود منتسب في منتصف كتابه القصصي إلى تيمة الطفولة، فنعيش معه هذه الاستعادات في قصص "فدوى بين الأغراس الزرقاء" و"الأطفال يلعبون" و"زرافة الفقيه حمداش".

تقريب الشخصيات

يلجأ منتسب إلى تقنية Clos-up في تجسير العلاقة بين القارئ وشخوص نصوصه، فاللقطة المقربة تجعل الشخصية متجسدة بصورة واضحة أمام المتلقي، وتتيح لهذا الأخير إمكانية الإبصار والاكتشاف والإحساس بما يعتمل داخل الشخصيات، خصوصاً أن الهاجس النفسي يشغل سعيد منتسب على نحو كبير. وملامح الشخصيات وتعابير وجوهها هي المفتاح الأساس لسبر مجاهيلها، والالتحام معها في ما تعيشه من مكابدات.

بكلمات قليلة يجعلنا صاحب "طائر أبيض بأجنحة موقتة" نتضامن مع الطفلة فدوى. إنه يقودنا عبر مشهدين، افتتاحي وختامي، إلى مناطق التحول النفسي لدى الطفلة، وذلك بالتركيز على الوصف الخارجي. فالانتقال الوصفي من العيون التي تبرق إلى النظرة الجامدة والهالات الزرقاء هو انتقال دلالي من الفرح إلى الكآبة.

تتكرر هذه اللقطات المقربة في مختلف النصوص لتؤطر حضور الشخصيات، مثلما هو الشأن لحضور الرجل العاشق في "قبلة التنين"، والمحارب الافتراضي في نص "ثلاث أوراق من دفتر ميت"، والغريب في نص "إسكيمو في بلاد الشمس"، وبطل قصة "ميت عائد من الحرب بسفرجلة" وقصة "تفاصيل الطائر الأبيض" وغيرها من النصوص.

يكشف "طائر أبيض بأجنحة موقتة" عن المرجعية القرائية الغربية لمؤلفه. فثمة كثير من الاستدعاءات لأسلاف الكتابة من جغرافيات وأزمنة متباعدة، إذ تحضر في النصوص أسماء كتاب يبدو واضحاً أن المياه التي يسبحون فيها هي مصدر دفء لسعيد منتسب، أمثال: إدغار ألان بو وماريو بنيديتي وجوليا هاريس وويليس لاندكسيت وصوفي شوشارد وفرنسوا دولاكور وغيرهم.

لا تحضر الأسماء الأدبية وحدها في نصوص سعيد منتسب، بل تجاورها أيضا أعلام التشكيل، مثل بيكاسو وسلفادور دالي وموديلياني، ورموز السينما، مثل أنطوني كوين وروبير دنيرو وألباتشينو ومايكل دوغلاس وتوم كروز.

بين السوريالية والعجائبيبة

تبدو معظم المقاطع التي تتشكل منها نصوص سعيد منتسب كما لو أنها قصائد نثر، تتخلق من صور شعرية، تسبكها الإيقاعات الموسيقية الخفيفة: "هكذا قال لنفسه قبل أن تنبت في رأسه أرجوحة بين شجرتين، وامرأة تصرخ في وجه امرأة أخرى، وطفل مبتل يضحك لرجال يصطادون السمك عراة".

يبني سعيد كثيراً من جمله السردية وفق بنى سوريالية: "تدلى من جبينه طفل يجلس على حافة نهر"، و"كانت تعلق الشمس في جبين الطفل الذي توقف عن الصراخ". إنه يريد أحياناً أن يوصل المعنى على نحو مدهش، بينما يبدو في أحيان أخرى كما لو أنه غير مشغول بالمعنى، بل بالمغامرات الجمالية التي تقود إليه.

يبدو نص "إسكيمو في بلاد الشمس" نموذجاً صارخاً للأدب العجائبي، إذ سيتفاجأ الراوي بوصول رجل من جزر بحر بيرنج إلى بيته، بعد أن كان يتجول على زلاجة تجرها كلاب بيضاء، ثم غمره دخان كثيف في بلاد الثلج فخرج من جدار في غرفة ببلاد الشمس. تنسحب هذه الغرائبية على عدد من النصوص، إذ تتجاور مساحات الواقعية مع مساحات التخييل، لتزكي عنصر الدهشة لدى القارئ، كما هو الشأن في نص "أنبوبة أوكسجين تنام على سرير أبيض" الذي يستهله الكاتب المغربي بهذا المقطع السردي الوامض: "شعرت ببرد شديد ليلة أمس. وحين فتحت عيني لم أكن في فراشي. كنت ممدداً في ثلاجة البيت، مع أكياس الحليب والجبن والمعلبات"، ويختمه بمشهد سوريالي لـ"رجل ينشق عن حجر في جدار قديم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتجلى هذا الجنوح السوريالي عند الكاتب المغربي في عدد من النصوص. فالرجل في قصة "حياة" يتحول في آخر النص إلى خفاش. وفي نص "نزال مفتوح مع تمساح" يكتشف القارئ أن للراوي أسناناً حادة وذنباً وحراشف تمساح. وفي نص "حدائق" يوجد الرجل في الخارج، بينما وجهه يضحك في صندوق. في قصة "ابتسامة" يدخل الرجل إلى غرفته، فيجد جثته نائمة على السرير، ويلقي عليها التحية، ويتمنى لها ليلة سعيدة. وفي قصة مكثفة بعنوان "السقف" تفتح المرأة العارية الباب لرجل يتجه بها نحو السرير، ثم فجأة ترنو إليه من السقف. أما نص "النقطة" فيبدو شبيهاً بأعمال سلفادور دالي، المشار إليه في النص، حيث تتدلى الملامح وتسيل من اللوحة.

في عدد من النصوص يتخلى سعيد منتسب عن قصصه، ويخرج من إطارها السردي، ليضع القارئ أمام نوع من المكاشفة والمناجاة المتخففة من كل عناصر السرد، كما هو الشأن بالنسبة إلى نص "رسالة منتسب إلى فدوى".

ما راهن عليه سعيد منتسب في "طائر أبيض بأجنحة موقتة" هو السفر بالقارئ، عبر هذه الأجنحة المستعارة، إلى مناطق الحلم وإلى البقاع الجمالية للسرد الراهن الذي ينفتح على أشكال تعبيرية مختلفة. وقد راكم أعمالاً قصصية غزيرة، تبلورت فيها تجربته السردية، وهي تجربة تكشف عن وعي كبير بالشق النظري للكتابة، وعن رهان صاحبها على التجريب الأدبي من دون التفريط في عنصر الإمتاع والتشويق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة