كيف يصبح المرء قاتلاً، من دون وعي، وفي الوقت نفسه، طوعاً، بشراسة؟ الجواب، المفصّل إلى حدّ الدوّار، ينتظرنا في رواية أحمد ألتان الجديدة، "النرد"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود"، ويلجأ هذا الكاتب التركي اللامع فيها إلى كتابة شعرية ــ استنباطية لحبك قصة مشحوذة مثل نصل سكين، قصة شاب يقع في صغره ضحية القيَم الذكورية السامة، وينتشي بها إلى حد التخمّة القاتلة.
أحداث هذه الرواية، الساحرة بنثرها وسرديتها، تدور في إسطنبول، خلال العقد الأول من القرن العشرين. وبطلها، الشاب زيا، يشكّل نقيض بطل رواية ألتان السابقة "حياة هانم"، الشاب فاضل الذي يجد في الأدب ملجأ له، للإفلات من عبثية وجوده، ويتعلّم الحرية في أحضان الحب. ولا عجب في هذا التناقض، فزيا ولد في إسطنبول داخل الطائفة الشركسية التي "كان البؤس والخوف يصبغان ظروف حياتها"، ويمثّل الشرف حجر الزاوية في تربية أبنائها. طفلٌ يصبح إذاً رجلاً بتعلّمه باكراً قمع عواطفه، باعتبارها نقاط ضعف دنيئة، وبسجن نفسه داخل صورة مثالية قاتلة، صورة شقيقه البكر عارف، الوسيم، المخيف، وأحد أشهر أشقياء العالم السفلي للمدينة.
منذ نعومة أصابعه، لم يحب زيا أحداً، ولم يخشَ أحداً، سوى عارف، بطله الذي علّمه الرمي بالمسدس وهو صغير، ولقّنه مبادئ الشرف التي تتحكّم بالحياة داخل مجتمعهما. وذات مساء، يقع عارف في الشارع على أحد رجال السلطان الألبانيين في حالة سكر شديد. وحين يراه يعنّف المارّة ويكيل الشتائم لرجال الشرطة من دون أن يتجرأوا على التدخل، يتقدّم فوراً ويرميه أرضاً بصفعة واحدة، معتبراً أنها إهانة شخصية أن يسمح شقي آخر لنفسه بتخويف الناس في حضوره. لكن بعد شهرين، يباغت هذا الألباني عارف في مقهى ويقتله برصاصة في صدره. وحين يتباطأ شقيق عارف، حقّي، في "غسل شرف" العائلة، والشركس عموماً، يركن زيا، الذي كان آنذاك في سن السادسة عشرة، في إحدى زوايا صالة المحكمة، حيث كان مقرراً محاكمة قاتل أخيه، ويرديه قتيلاً برصاصة واحدة في رأسه خلال جلسة المحاكمة، فينال إعجاب جميع أبناء طائفته.
في السجن
بسبب فعلته هذه، يُحكَم على زيا بالسجن المؤبّد، في صالة المحكمة نفسها، ويرمى في سجن "سينوب" الرهيب، الذي لا يدخله الضوء ولا الهواء، ولا يغذّي المسجونون فيه أي أمل في الخروج يوماً منه. سجنٌ أشبه "بالظلمة الدموية لبطن سمكة قرش أنثى، تلتهم أجنّتها فيه بعضها بعضاً قبل أن ترى النور". جحيم لا متعة لنزلائه فيه سوى لعبة النرد التي لا يلبث زيا أن يشغف بها إلى حد الإدمان. لكن بعد عام في هذا السجن، يتمكن أحد زعماء طائفته من تحريره سراً، ويرسله للاختباء في الريف المجاور لمدينة الإسكندرية. هناك، يلتقي بنورا، وهي شابة تسكن مع والديها في المنزل الكبير المحاذي لمكان إقامته، فيستمتع بصحبتها البريئة، لكن من دون أن يفهم الشعور الذي يختلج فجأةً داخله من جرّاء هذا اللقاء. ولذلك، تقتصر علاقة هذين الشابّين، المختلفين في كل شيء، على التنزّه بصمت في البستان الفاصل بين منزليهما. لكن حين تغادر نورا يوماً إلى فرنسا لمتابعة تعليمها، تترك فراغاً كبيراً في حياة صديقها، وذكريات لن ينساها أبداً.
ولحسن حظّه، يحظى زيا بعفو في وطنه، فيعود إلى إسطنبول حيث يقضي لياليه في ممارسة لعبة النرد في الكازينوهات وصالات القمار، لهوسه بهذه اللعبة، وأيضاً لعثوره على السكينة في تلك الأماكن التي تنتفي فيها كل المشاعر، ويبتلع النسيان كل شيء... إلى أن يعرّفه أحد اللاعبين يوماً إلى وسيلة أخرى للنسيان: بنات الهوى، فيتبنّاها أيضاً، علماً أن علاقاته بالجنس اللطيف تبقى محدودة وخاصة جداً، يطبعها تحفّظ كبير. لماذا؟ لأن كبرياءه التي تجعله عدوانياً قاتلاً تجاه الذكور، تتحلّل ويبطل مفعولها أمام النساء. ولذلك، حين يستدعيه زعيم عشيرته الذي ينتمي إلى مجموعة من معارضي النظام، للمشاركة في انقلاب على الحكومة القائمة، وقتل الصدر الأعظم للسلطان محمد الخامس، محمود شوكت باشا، لا يتردد زيا في تولي زمام العملية...
"نتعرّف إلى كاتب كبير من خلال حبكة النفوس المنسوجة بخيط اللذة الذهبي أو بحرير الفاجعة"، كتب أحد النقّاد الفرنسيين لدى مراجعته "النرد". إطراء جميل، لكن صائب، لأن ألمعية ألتان الكتابية تتجلى قبل أي شيء، في هذا الرواية، من خلال حبكتها المنسوجة بخيطٍ حريري أسوَد. حبكة تشكّل فتنة بذاتها، وأيضاً خير ركيزة لاحتضان عملية التشريح السيكولوجي التي يجريها الكاتب لبطله، وتعزيز وقعها. تشريح يتجاوز في بصيرته علم المحللين النفسيين، ويحوّل هذا العمل الأدبي إلى نص أساسي، مرجعي، لفهم الآليات الذهنية لإرهابي (بالمعنى الواسع للكلمة) لا يعيش إلا وفقاً لمبادئ الشرف المعتمدة داخل عشيرته، ومن أجل تعبُّد ذاته وقوتها المطلقة، وواجب الدفاع عنها بأي ثمن، لأن "الموت دائماً أفضل من العيش في العار"، في نظره.
القاتل المتزهد
هكذا يتجلى زيا لنا في كل ظلمته، متزهداً، صارماً، قليل الكلام، فاقداً للإحساس، نزوياً، خطيراً، يلفح الجنون عينيه وطبعه الحاد، ويحتقر الحياة والموت على حد السواء، من منطلق شعوره بالمناعة والتفوق على كل مَن حوله. كائن "من أولئك الرجال الذين ولدوا بعدسات على عيونهم تشوّه الأشياء التي يرونها أو يعيشونها، وتعيد قولبتها وفقاً للمشاعر التي تحرّك عالمهم الداخلي، ولمتطلبات رغباتهم". رجل "كان يتعذّر على الواقع، بكل عريه، بلوغه"، ومنذ الطفولة، "شوّه تعبّده لنفسه طبيعة كل ما يحيط به، وأبعاده".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتابة ألتان المغناطيسية ترافق هذا التصوير التحليلي لبطله، مجسِّدةَ على أكمل وجه، صخب أفكاره بكلمات تعود وتتكرر باستمرار، مثل قاطرة على سكة دائرية، مرسّخةً إياه داخل ثنائيات جامدة: شرف ــ ذل، شجاعة ــ جبن، وفاء ــ خيانة، حياة ــ موت، وزارعةً في نفسه صرامة تقشعر الأبدان لها وتخدّر مشاعره وأحاسيسه وكل مفاهيم التعاطف والرأفة والحب والندم داخله. صرامة تتجلى بكل صلابتها ورعبها في مرآة شخصية شقيقه حقّي، التي يعتريها الضعف والارتباك والتساؤلات. وهو ما يقودنا إلى نقطة قوة أخرى في هذه الرواية، ونقصد المقارنة التي لا يسع القارئ عدم إجرائها بين الشقيقين، وتفضي إلى حقيقة تعرّي كلياً طبيعة زيا ومسؤوليته عمّا يختبره ويقترفه. حقيقة أن عارف الذي ربّاه وقولب شخصيته منذ نعومة أظافره، فعل الأمر نفسه مع شقيقه الآخر، حقّي، لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى النتيجة نفسها، مما يعني أن زيا كان يتحلى باستعداد لتلقّي هذه التربية وتبجيلها.
رواية سيكولوجية إذاً، وفي الوقت نفسه، فلسفية لأنها تسائل مفاهيم الحرية والإرادة والقدر والصدفة، ومدى دور كل منها في بلورة شخصيتنا وتكييف سلوكنا. وفي هذا السياق، لم يختر صاحبها بشكل اعتباطي "النرد" عنواناً لها، وشغفاً وحيداً لبطلها، ثم قدراً له، نظراً إلى تحوله في النهاية إلى نرد في يد من هو أقوى منه، وهو ما ينقلنا إلى بعدٍ أخر فيها، تاريخي وسياسي، لكون قصتها ترتكز على واقعة حقيقية (اغتيال محمود شوكت باشا)، وتفاصيلها تمنحنا صورة وافية عن وضع عاصمة الإمبراطورية العثمانية ومختلف القوى الفاعلة فيها، مباشرةً قبل انهيارها.
باختصار، لا يكتمل عرضنا لأبرز مكامن ثراء الرواية من دون الإشارة إلى أن الحب يحتل مكاناً فيها، ولو خلفياً، على رغم جانبها المعتم، ويسيّر الرسالة الأقوى داخل صفحاتها. رسالة مفادها أن زيا، الذي يمثّل كل الذكورية المدمّرة لمجتمعه، هو في الواقع رجل "لا يعرف كيف يتصرف مع كائن لا يستطيع تهديده أو ضربه أو قتله"، أي المرأة، بل يبقى أعزل، أخرق، في حضورها، يضيء وجهه تعبير هشّ وخجول. وعلى رغم كل جبروته وما يقترفه، يحتفظ حتى النهاية في جيبه بالمنديل الذي اختلسه يوماً من يد نورا.