Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أجيال الصمت

هل يسير الإنسان باتجاه التخلي عن قدرته الكلامية التعبيرية؟

يعيش الجيل الرقمي في أجهزته الذكية التي تسلبه ذكاءه الفطري وقدرته اللغوية الرائعة (رويترز)

جلستُ إلى جانبه قبل أيام في الطائرة، شابٌ لم يبلغ الـ 20 من عمره، لاهٍ في جهاز هاتفه يلعب لعبة تتطلب حركة يديه معاً بطريقة سريعة جداً، طلبتُ منه قلماً، تضايق من طلبي كثيراً، هزّ رأسه بعصبية أنه لا يمتلك قلماً. لم يقل كلمة طيلة الرحلة، لعب بجهازه، ثم غفا قليلاً واستيقظ ليلتقط الجهاز ثانية ويكمل بسرعة وتوتر. كان مثالاً لكثيرين من أبناء جيله الرقمي، جيل صامت لا يتكلم.

 كان يقال لنا صغاراً "اللي ما له لسان، تاكله الخنفسان"، والكلام نعمة التعبير عن الفكرة والرأي والطلب والاستفسار والمشاعر بحلوها ومرها، بغضبها وفرحها، بسعادتها وكآبتها. قبل اختراع الكتابة منذ ستة آلاف سنة تقريباً، كان الكلام والإيماءات هي الطريقة التي يعبر بها الإنسان ويتميز بها عن سائر المخلوقات. والكلام يعكس الشخصية، ويرسم صورة المتحدث أمام مستمعيه، يقول سقراط: "تكلم كي أراك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الجيل الرقمي يفقد القدرة على التعبير، كي لا أبالغ بالقول إنه يفقد القدرة على الكلام. منذ أكثر من 30 عاماً في التدريس الجامعي، تعاقبت عليّ أجيال وأجيال، وكمراقب ومهتم بحياة هذا الجيل الرقمي والتحولات التي تطرأ عليه، فإنني ألحظ أن هذا الجيل غير قادر على التعبير عمّا يدور في ذهنه عبر الوسيلة التي تميز البشر عن باقي المخلوقات، أو هو في أحسن الأحوال غير قادر على التعبير بالكلام بالطريقة التي كانت لدى الجيل الذي سبقه.

يعيش الجيل الرقمي في أجهزته الذكية التي تسلبه ذكاءه الفطري وقدرته اللغوية الرائعة. يمضي الجيل الرقمي أمام الجهاز الذكي، حاسوب وهاتف ذكي وخلافه، أكثر ممّا يمضي بالتأمل والحركة والكلام. جيل لا يستمع إلى الكلام كثيراً، ناهيك عن عدم ممارسة مهارة الكلام والقدرة على التعبير الشفهي عمّا يدور في ذهن الواحد منهم.

لا أقصد القسوة على هذا الجيل أبداً، ولكنني أصف ما يجري حولنا، حاول أن تتكلم مع مواليد التسعينيات وما بعدها، قلة منهم قادرة على الطلاقة والاسترسال في الحديث بطريقة واثقة ومنظمة وجزلة.

هل يسير الإنسان باتجاه التخلي عن قدرته الكلامية التعبيرية؟ أم أن الإنسان سيبقى حيواناً ناطقاً إلى الأبد؟ وهل يتلاشى الكلام المسهب والاكتفاء بكلمات ومفردات محدودة؟ هل يتحول الكلام إلى "شيفرة" من الاختصارات مثلما في التراسل عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل تتحقق نبوءة بروفسور التاريخ الإسرائيلي يوفال نوح هاراري بأن الإنسان الحالي سيتلاشى خلال قرن، لأن الذكاء الصناعي سيجعل منه مخلوقاً آخر يتشكل الآن؟

ويجادل هاراري أن الإنسان يعمل على تعطيل قدراته الذهنية والمعرفية والإدراكية التي طورها منذ 50 ألف عام، مثل الكلام، ويتنازل عن هذه القدرات طوعاً للآلات الذكية. وبالتالي، فإن التخلي عن هذه القدرات الذهنية ستنفي الحاجة إلى وجودها.

نحن نتخلى حقاً عن قدرات الحفظ مثلاً، فمن منّا يحفظ اليوم أرقاماً لهواتف أقرب أقربائه؟ ومن مناّ يحفظ عناوين وأرقام حسابات مصرفية أو رقم سيارته؟ ومن من الجيل الرقمي يمكنه أن يقود سيارته من دون خرائط غوغل أو ما شابهها؟ ذلك لأن الإنسان تنازل عن قدرة معرفة الطرق والأماكن لصالح الجهاز الذكي. لن يُستخدم المثل العربي "فلان أهدى من قطا" بعد اليوم.

ما ينطبق على الكلام ينطبق على خط الكتابة، مَن من جيلي من المدرّسين لا يلحظ خط كتابة طلبته التي تشبه الطلاسم؟ جيل لا يحتاج إلى تعلم الكتابة أصلاً، فكيف له أن يكتب بطريقة مقروءة أساساً.

بعض الدول، مثل فنلندا، تدرس جعل تعلم الكتابة في مناهجها اختيارياً! قدرة الكتابة هي قدرة التعبير الشفهي، فمن كان "خطيباً مفوّهاً"، لا شك بأن يكون أسلوبه الكتابي قوياً نسبياً. ولا يكون العكس صحيحاً دوماً، فكم من باحث مبدع في بحوثه، لكنه ضعيف في قدرته على توصيل الفكرة شفهياً.

أظن أن الجيل الرقمي بحاجة إلى برامج كلامية، تدفع الشباب إلى الكلام والتعبير، أندية لغوية شعارها "تعال نسولف"، فالقدرة على الكلام والتعبير مهمة لفهم أنفسنا وسبر أغوارنا. نحتاج أندية لغوية تكسر الصمت، وتحدث التعبير في أوساط هذه الأجيال الصامتة.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء