النخب العربية والخليج

كتب أحمد فرحات بمجلة (أفق)، التي تصدر عن مؤسسة الفكر العربي مقالاً حول "دردشة" له مع المفكر الجزائري المعروف محمد أركون -رحمه الله- جرت أثناء زيارته الكويت عام 2008. وأقتبس:

"فوجئ المفكر محمد أركون (1928-2010) بأن له قراءً في الكويت، هم أكثر عمقاً ونضجاً في انخراطهم بأسئلته الفكرية والفلسفية من كثير من قراء عرب له، إن في أوروبا أو فيما يسمى (المراكز الثقافية العربية). بعد لقائه بالمفكرين والمثقفين الكويتيين قال لي إنه سيغير رأيه في تلكم القسمة الثقافية العربية المتداولة: (مراكز وأطراف)، لأنه تبين له وبالملموس أن أمرها هو مجرد وهمٍ بوهمٍ، وأن حقيقة المسألة تتلخص ببساطة بوجود قراء حقيقيين هنا وهناك وهنالك، بمعزل عن التقسيمات الجغرافية والبؤرية". انتهى الاقتباس.

ولعل هذه النظرة المسبقة لدى مفكر بحجم محمد أركون تلخص كيف تنظر معظم النخب العربية إلى الخليج وأهله ومثقفيه ومفكريه وكتّابه، ولم تتغير نظرة ذلك المفكر الملهم إلا قبل سنتين من وفاته. لنعترف بأن النظرة النخبوية العربية في عمومها هي نظرة فوقية لا ترى بالخليج سوى نفط وجمال وتخلف وتطرف.

ولست هنا بمعرض الاستعراض والدفاع عن الخليج ومثقفيه وأهله ولتخطئة هذه النظرة النخبوية وتصحيحها، فالواجب والمسؤولية يقعان على كاهل النخب العربية غير الخليجية تجاه أهل الخليج، لا مسؤولية الخليجيين أنفسهم.

في زيارة إلى لبنان منذ عقود فوجئ صديق صديقي المثقف اللبناني بأني أتكلم الفرنسية، وقالها بعفوية تعكس الاستغراب والدهشة اللذين لا يغفل الفطن بواعثهما: "إنوا كيف يعني كوَيْتي وبتحكي فرنسيوي؟".

محزنٌ أن تراوح النظرة الفوقية لدى معظم النخب العربية تجاه الخليج وأهله. قد يجد الواحد العذر للإنسان العربي العادي، أو الذي لم ينل قسطاً من التعليم، أو ذاك الذي لا يدعي المعرفة والثقافة، ونبرر ذلك بالجهل وعدم المعرفة، وربما المؤامرة الإمبريالية - الصهيونية التي فرَّقتنا، وخلقت العداوات بيننا، لكن أن يصر بعض النخب العربية على جمود نظرتها تجاه الخليج وأهله فتلك مسألة بحاجة إلى علاج نفسي أكثر من توعية أو لقاءات ومصارحة وحوار.

برر صديق خليجي هذه النظرة لدى البعض بأنها "حَسدٌ"، وردد بيت المتنبي: (كل العداوات قد ترجى مودتها * إلا عداوة من عاداك عن حسد).

وأختلف مع الصديق العزيز، فلا أظن بواعث هذه الفوقية والازدراء لدى بعض النخب العربية "الحسد"، لكني أظن حماقة التفكير لدى بعض هذه النخب، والعناد "التيسي" (نسبة إلى التيس) لدى بعضها هو الباعث الأساس وراء هذه المعضلة، ورددت بيتاً آخر للمتنبي: (لكل داء دواء يستطب به * إلا الحماقة أعيت من يداويها).

أظن أن بعض النخب العربية يحاول إسقاط الصور النمطيّة التي خلقها الإعلام العالمي -وبالذات الغربي- تجاه العرب جميعاً، وحصرها بأهل الخليج وحدهم، والنأي بأنفسهم عن تلك النمطية الظالمة، أملاً بأن يعطيهم ذلك صك "تطور وفوقية" يميزهم عن أهل الخليج و"عربانه" المتخلفين.

كررت في هذه المقالة -عزيزي القارئ- عبارة "بعض النخب العربية"، ولم أعمم عمداً، لأني أخاطب هنا المثقف المنصف، والإنسان العربي الشمولي والواقعي النظرة، أمَّا الحمقى فقد "أعيوا من يداويهم".