ملخص
أحيل لشهب على التقاعد، غير أنه لم يستطع تقبل الحياة الجديدة التي صارت مفروضة عليه، وهو الوضع الذي تسبب له بضيق نفسي وكآبة داخلية
يلجأ عديد من المسنين، والمتقاعدين منهم على وجه الخصوص في المغرب إلى تمضية أوقاتهم الفارغة في النهار والليل بلعب الورق، التي يسميها المغاربة "الكارطا"، أو لعبة "الداما" الشبيهة بالشطرنج، وذلك في الحدائق والساحات العامة أو قرب المحلات التجارية وغيرها من الأماكن.
وتعاني شريحة عريضة من المتقاعدين وكبار السن مشكلات اجتماعية ونفسية واقتصادية أيضاً، حيث لا يجدون في الغالب فضاءات أو أندية لممارسة هوايتهم، أو فرصاً لإفادة الأجيال الشابة بتجاربهم الحياتية، وهو ما يدفعهم إلى الانغماس في لعب "الكارطا" و"الداما" بشكل كبير.
واقع صعب
بعد سن الـ63 يحال العامل أو الموظف في المغرب على التقاعد، ليبدأ حياة ثانية له بعد مسيرة طويلة من العمل كأجير أو موظف أو مستخدم، وقد يحال على التقاعد بعد هذه السن، فيجد نفسه أمام واقع جديد قد لا يكون يحسب له حساباً أو خطط له من قبل.
وتشكل فترة الإحالة إلى التقاعد، التي تناسب فترة الكهولة (بين سني 65 و74 عاماً)، أو حتى فترة الشيخوخة (بين 75 و80 عاماً)، بالنسبة للأجير مرحلة حرجة لدى المتقاعدين وكبار السن، لأنها في الغالب تأتي بعد عقود من العمل والأوقات الممتلئة بالحركة والنشاط.
وكثيراً ما تتسم حياة كثير من المتقاعدين في المجتمع المغربي بوقت غير قصير من الفراغ في حياتهم اليومية، مما يجعلهم يمضونها إما داخل البيت أو في المقاهي أو في المساجد، وأحياناً كثيرة في الفضاءات العامة لقضاء الوقت مع أقرانهم بلعب الورق والداما. ومقابل آلاف المتقاعدين الذين يحاولون ملء أوقات الفراغ بالالتقاء مع أصدقائهم المسنين من أجل لعب "الكارطا" أو "الداما"، أو فقط لتبادل أطراف الحديث والنكات واستعراض مشكلات الحياة، هناك من المتقاعدين من استطاعوا الاندماج من جديد في المجتمع عبر العمل في مهن أخرى تناسب وضعياتهم الجسدية والعمرية.
وتفيد معطيات منظمات نقابية أن عدد المتقاعدين في المغرب بأن نحو 56 ألف موظف سيحالون على التقاعد، خلال الفترة بين عامي 2021 و2025، فيما توقعت المندوبية السامية للتخطيط (هيئة حكومية) أن ينتقل عدد من بلغوا 60 عاماً وأكثر في المغرب من 4.3 مليون نسمة في 2021 إلى أكثر من ستة ملايين في أفق 2030.
ووفق المصدر الحكومي نفسه، من المتوقع أن يرتفع عدد المسنين المصابين بأمراض مزمنة من 2.7 مليون حالياً، إلى نحو أربعة ملايين شخص في أفق عام 2030، وأن يصل عدد المسنين الذين يعانون عجز وظيفي إلى 2.8 مليون في أفق 2030.
متعة "الداما"
جلول هو أحد هؤلاء المتقاعدين في عقده السابع، يقول في هذا الصدد، إن قرار إحالته على التقاعد قبل بضع سنوات كان مثل الزلزال الذي قلب حياته رأساً على عقب على الرغم من علمه بأنه "يوم لا بد منه" بالنسبة لكل عامل وأجير وموظف. وأورد المتحدث ذاته بأن حياته التي كانت مثل "خلية نحل" في أحد المعامل لتعليب السمك، التي كانت تضج بالحياة والحركة وروائح السردين، وضجيج الآلات وجلبة العمال، "تحولت إلى حياة هادئة ورتيبة ومملة بشكل لا يطاق"، وفق تعبيره.
وتبعاً لكلام الرجل السبعيني، فإنه "وجد نفسه فجأة من دون جدوى يعيش وحيداً بعد رحيل زوجته، بينما يطل عليه أبناؤه مرة في الأسبوع أو الأسبوعين في شقته الصغيرة ناحية الرباط"، مبرزاً أن "المتقاعد المسن يعيش حياة صعبة تتسم بالوحدة على الرغم من أنه محاط بالناس". واستطرد المتحدث فذكر أنه يحاول تقسيم ساعات النهار الطويلة إلى فترات يقضيها داخل المسجد، الذي يغلق أبوابه بعد كل صلاة، لهذا يتجه مع اثنين من رفاقه إلى أحد مقاهي الحي ليلعبوا لعبة "الداما".
وحول السر وراء اختياره لعبة "الداما" تحديداً ليمضي من خلالها أوقات فراغه، قال جلول إنه يفضل ممارستها لكونها تتطلب نوعاً من الذكاء والتركيز والتخطيط أيضاً، وهو ما يسهم في بقاء ذكائه وذهنه متقداً ونشطاً.
وتعرف موسوعة ويكيبيديا لعبة "الداما" أو "الضامة"، بأنها لعبة لوحية شعبية ووسيلة تسلية وتنافس بسيطة، ولعبة استراتيجية تلعب بين شخصين فقط على لوحة تحمل مربعات، وباستعمال قطع على شكل أقراص، وهي لعبة عربية دخلت إلى أوروبا عن طريق الأندلس، مثل الشطرنج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التعويض بـ"الكارطا"
وإذا كان جلول يقضي معظم وقته في مقهى الحي ليملأ وقت فراغه في اللقاء مع رفاقه حول رقعة "الداما"، فإن الحاج لشهب في نهاية عقده السادس، لا يخفي أنه يفضل تمضية أغلب وقته بين المسجد ولعب "الكارطا" مع أصدقائه المسنين في حديقة عمومية.
ويورد لشهب أنه بعد سنوات طويلة من الوظيفة، أحيل على التقاعد، غير أنه لم يستطع تقبل الحياة الجديدة التي صارت مفروضة عليه، بأن يظل "عديم الفائدة" في البيت بين أبنائه وزوجاتهم، وهو الوضع الذي تسبب له بضيق نفسي وكآبة داخلية. واسترسل المتحدث ذاته فقال إنه للخروج من دائرة الضجر الذي كان يعتريه، وهرب من مشكلات البيت خصوصاً بين زوجات أبنائه، وصار يقضي ساعات طويلة خارج البيت في لعب "الكارطا"، وتحديداً لعبة "الروندا" الشهيرة في المغرب.
وتلعب "روندا" بين شخصين أو أربعة أشخاص موزعين على فريقين، وتضم 40 ورقة مقسمة من واحد إلى سبعة، ثم من 10 إلى 12، حيث يعمد اللاعب إلى توزيع أربع أوراق على اللاعب الخصم ومثلها لنفسه، ويضع أربع أوراق مكشوفة على طاولة اللعب، بغية الحصول على الأوراق الموجودة على طاولة اللعب.
وبالنسبة للحاج لشهب، فإنه "ينسى مشكلاته وتبرمه النفسي، عند لعب الورق مع رفاق حياته الذين تتأرجح سنوات أعمارهم بين الـ60 والـ70 وحتى الـ80 سنة"، متابعاً أنه لما يعود إلى البيت يتمنى متى يحل اليوم التالي من أجل لقاء أصدقائه ولعب "الكارطا".
فرار اجتماعي
هذا اللجوء إلى مثل هذه الألعاب الشعبية البسيطة، تراه الباحثة في علم الاجتماع ابتسام العوفير، نوعاً من "الفرار الاجتماعي والنفسي أيضاً من واقع يرفضه هؤلاء المتقاعدون والمسنون، صوب واقع يجدون فيه متعة خاصة وأجواء حميمية ربما لا يجدونها في كنف أسرهم خصوصاً بعد إحالتهم على التقاعد".
وسجلت الباحثة غياباً فادحاً في الفضاءات التي تهتم بالمسنين والمتقاعدين، وتتيح لهم أن يعيشوا حياة ما بعد التقاعد أو مرحلة الهرم العمري، ما يفسر اتجاه بعضهم إلى تمضية وقته في المسجد أو بجانبه أو الالتصاق بمقاعد المقاهي أو لعب الورق والداما، بينما الأجدى أن تتم الاستفادة من مهارات وخبرات هذه الشريحة سواء في الحياة أو في المهن التي زاولوها".
ولتجاوز هذا الواقع تبحث جهات حكومية عن ضرورة إعادة النظر إلى الواقع الذي يعيشه المتقاعدون والمسنون وكبار السن بصفة عامة، وأن يتم تحويلهم إلى قوة تفيد المجتمع، عوض الصورة النمطية الملتصقة بهم، التي تتسبب في التأثير سلباً على حياتهم الشخصية والنفسية والاجتماعية.