Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروسي كونستانسين باوستوفسكي يبوح بأسرار الكتابة

فتاة تشيرنوبيل التي تموت حزنا تدفعه إلى تدوين أول قصة بعد فشله في الشعر

الروائي الروسي كونستانسين باوستوفسكي (دار المدى)

لعل السؤال الأول الذي يطرحه كتاب "الوردة الذهبية" للكاتب الروسي / السوفييتي كونستانسين باوستوفسكي، الصادر عن "دار المدى" بتعريب عدنان مدانات، هو سؤال النوع الأدبي؛ فعتبة الغلاف تصنفه في حقل الرواية بينما يتمخّض المتن عن كونه سيرة ثقافية ذاتية لصاحبه، موضوعة في إطار روائي. وبذلك نكون إزاء محتوى سِيَري وإطار روائي. وبمعزل عن التصنيف، يُشكّل الكتاب "محاولة لاكتشاف أسرار الإبداع الأدبي استناداً إلى خبرة صاحبه في إبداع أعماله الأدبية، وتأملاته حول الأعمال الإبداعية لعظماء الكتاب". وهو، في هذه المحاولة، يجانب التنظير والنظريات الأدبية، وينطلق من تجربته الذاتية في الكتابة وتجارب الآخرين التي اطّلع عليها، فينأى بالكتاب عن الجفاف الأكاديمي، ويمنحه حرارة التجارب التي يخوض فيها. ولعل صدوره عن كاتب متعدّد الاهتمامات، عابر للغات، خائض في غير حقل معرفي، يُشكّل قيمة مضافة إلى هذا الكتاب؛ فباوستوفسكي كاتب سيناريو ومدرّس وصحافي ومراسل حربي، يكتب الرواية والقصة وأدب الأطفال، وقد ترجمت كتبه إلى لغات عدّة .

 نثرات الذهب

"الوردة الذهبية" عنوان جميل. وبتقصّي تمظهراته في المتن، يتبيّن لنا أن الكاتب يكنّي به عن العملية الإبداعية، ويستمدّه من قصة عامل نظافة باريسي يكسب رزقه من كناسة مشاغل الحرفيين في حيّه، حتى إذا ما تمنّت سوزان، الفتاة التي يرعاها، أن يهديها أحدهم وردة ذهبية، يكفّ عن التخلّص من الغبار الذي كان يجمعه من محالّ صاغة الذهب، ويقوم باستخراج نثرات الذهب منه، ويدفع بها إلى صائغ ليصنع منها وردة ذهبية من أجل سعادة سوزان. هكذا، يقوم الكاتب بإسقاط هذه القصة الجميلة على العملية الأدبية بالقول: "نحن، الأدباء، نستخرجها على مدى عقود، ملايين الحبوب من الرمل هذه، نجمعها بشكل غير واضح لأنفسنا، ونحوّلها إلى سبيكة، ثم نطلق "وردة ذهبية" من هذه السبيكة، رواية، قصة طويلة أو قصيدة" (ص 24). وبذلك، تكون الكتابة الأدبية نوعاً من استخراج نثرات الذهب من الغبار، على مدى عقود، وتحويلها إلى ورود ذهبية. وغنيٌّ عن التعبير ما تحتاجه هذه العملية من دقّة ملاحظة وطول نفس وسعة قلب ورجاحة عقل. غير أن ما يفوت باوستوفسكي في هذه المقارنة هو أن صناعة الوردة الذهبية هي حصيلة جهد مشترك بين عامل النظافة والصائغ، بينما صناعة الوردة الأدبية تقع على عاتق الأديب وحده، بدءاً من استخراج نثرات الأدب من غبار الحياة حتى صوغها في ورود أدبية جميلة.

وإذا كان الكاتب يقيم مقارنته على قصة عرفها، فإن مقارنة أخرى بين الكتاب والبحّارة الذين يجمع بينهم الاستمرار في المغامرة ومواجهة المحن يقيمها على نقش من الرخام، شاهده خلال رحلة على شاطئ البلطيق. ويستنتج  أنه ليس المطلوب من الإنسان (الكاتب) أبداً أن يمارس الحرفة. "ما يطلب منه فقط هو أن يؤدي واجبه تجاه مهمته الصعبة" (ص 28). ويتقاطع في هذا الاستنتاج مع الرسام فنسنت فان غوخ الذي يرى أن "عمل الفنان هو مقاومة المعاناة بكلّ قوّته، وبكل موهبته" (ص 31).  

  المخزون الحياتي

 في كتابه، يتناول باوستوفسكي كيفية انتقاله من الشعر إلى القصة، انطلاقاً من واقعة عايشها في تشيرنوبيل، تتعلّق بموت فتاة من الحزن احتجاجاً على حؤول الإكليروس دون ارتباطها بحبيبها المختلف عنها دينياًّ. فهو، إذ يعزو كتابة الشعر إلى الاستقبال الشعري للحياة، يتناول تدرّجه في كتابته من القصائد السيئة على مقاعد الدراسة، إلى القصائد الحافلة بصيغ لا معنى لها، إلى قصائد خالية من الأناقة والتعابير الغرائبية، إلى الإقلاع عن كتابته لأنه محض بهرجة، برأيه. وهذا ما يجعلنا نستنتج أن استقباله الشعري للحياة لم يكن على المستوى المطلوب، حتى إذا ما عاد إلى كييف وقد شهد الواقعة المذكورة أعلاه، يقوم بحرق دفاتره التي تحتوي على قصائده الأولى، ويقرّر الانتقال إلى كتابة القصة، وتكون قصته الأولى عن الفتاة التي شهد واقعة موتها. ويعترف بمعاناته أثناء كتابتها، فقد بدت باهتة وضعيفة على الرغم من تراجيدية موضوعها، ويكتشف بنتيجة هذه البداية حاجة القصة إلى الصدق والبساطة، وحاجة القاص إلى التعبير عن نفسه بأكبر قدر من الكمال والسخاء والتحرّر من القيود خلال الكتابة، وهو ما حاول أن يطبّقه في قصصه اللاحقة. وإذ يدرك باوستوفسكي ضحالة مخزونه الحياتي الضروري لتغذية الكتابة، ينقطع عنها عشر سنوات وينخرط في التعالق مع الناس والتعرّف إليهم في أنحاء روسيا لبناء المخزون المطلوب لعملية الكتابة.

 تشغل كتابة القصة ومتعلّقاتها حيّزاً ملحوظاً في "الوردة الذهبية"، بدءاً من الفكرة الأولية، مروراً بتجسيدها النصي، وانتهاءً بآلية التعاطي مع شخصياتها المختلفة. وفي هذا السياق، يشبّه الفكرة الأولية للقصة بالبرق وتجسيدها بالمطر. على أنه  لتحقيق هذه العملية، لا بد للكاتب من الانخراط في العالم الخارجي وعدم التعويل على عالمه الداخلي فقط، فالفكرة الأولية "تزدهر من خلال التفاعل الدائم مع الواقع وتتشبّع من خلاصة الواقع"، على تعبيره (ص 49). ويضرب مثلاً على ذلك  بتذكره نشأة الفكرة الأولية لقصته الطويلة "كارا - بوغاز"، فقد ظهرت بشكل غير واضح من خلال مشاهدته طفلاً، كوكب المريخ الصحراوي بواسطة التليسكوب من جبل فلاديميرسك، ومن خلال إقامته المؤقتة شاباًّ في ضواحي مدينة ليفني وحديثه مع الجيولوجي شاتسكي عن الصحراء والطبقات الجيولوجية.

وفي السياق نفسه، يتحدث عن الصراع بين الكاتب وأبطاله الذين غالباً ما يدخلون في صراع معه وينتصرون عليه. وهو يستوحي هذه الفكرة من واقعة شهدها في طفولته تتعلق بالمساجين الذين يستأجرهم الناس لنقل أغراضهم من بيت إلى آخر، وتمرّد الأغراض على ناقليها ما لم توضع في الأمكنة المناسبة لها. من هنا، يؤمن باوستوفسكي بحق الشخصية في أن تنمو وفق منطقها الطبيعي وليس وفق إملاءات الكاتب، وعلى هذا الأخير أن يوفق بين نمو الشخصية الطبيعي ودوره في تحديد حياتها من خلال وعيه وذاكرته وخياله.  وانطلاقاً من إيمانه بحاجة الكاتب إلى تغذية مخزونه الحياتي، واستطراداً تجميع المواد الأولية لكتابته، يقوم بأسفار في آسيا الوسطى تلبية لهذه الحاجة الموضوعية، من جهة، وإشباعاً لولعه القديم بالخرائط، من جهة ثانية. وتقوده أسفاره إلى كارا – بوغاز على شاطئ قزوين، ويبدأ بكتابة قصة طويلة بهذا العنوان، في محل نزوله في سوليكامسك شمال الأورال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذ يجمع مادة وفيرة للكتابة، فإنه يقر بأنه لم يستخدم سوى تفاصيل قليلة من المادة المجموعة، تطل برأسها بلا استئذان خلال الكتابة، وتشغل الأمكنة المناسبة لها. على أن عملية التجميع لا تعني قيام الكاتب بتجميع الملاحظات من الحياة بل عليه أن يعيشها ويمتلئ بها حتى إذا ما باشر عملية الكتابة تحضر من تلقاء نفسها.

 عادات الكتّاب

ولعل انشغال باوستوفسكي  بالتعبير عن طقوسه وعاداته في الكتابة لم يشغله عن الإشارة إلى طقوس الآخرين من كبار الكتّاب وعاداتهم، ولكل منهم طقوسه وعاداته، فـ "عدد عادات الكتابة يساوي عدد الكتّاب"، على تعبيره. وإذ يختصر عاداته بالكتابة في أجواء هادئة بمعزل عن الهموم المختلفة، نراه يشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن نيكولاي غوغول اعتاد الكتابة واقفاً إلى جانب المكتب، وأن ليف تولستوي كان يكتب في الصباح فقط، وهو ما ينطبق على جان جاك روسو وتشارليز ديكنز أيضاً، بينما كان فيودور دستويفسكي واللورد بايرون يعملان في الليل فقط. ويشير إلى أن تشيخوف كان قادراً على الكتابة عند حافة النافذة في شقة ضيقة في موسكو مليئة بالضجيج، وأن ميخائيل ليرمونتوف كان بوسعه الكتابة على أي ورق يقع بين يديه، بينما ألكسي تولستوي لا يستطيع الكتابة سوى على أوراق نظيفة من النوع الجيد، وأن الخريف هو أفضل أوقات الكتابة عند ألكسندر بوشكين، وأن غوستاف فلوبير كان يطارد المقاطع بألم "في سعيه لجعل النثر صافياً كالبلّور"، وأن  أونريه دو بلزاك "كان أحياناً ينتفض غضباً من أبطاله، ويصفهم بالأوغاد والحمقى، ثم يضحك ويربت على أكتافهم باستحسان، وأحياناً يواسيهم في سوء حظهم" (ص 126).  ولله في خلقه شؤون.

كثيرة هي الموضوعات التي يتناولها باوستوفسكي في سيرته الثقافية ممّا لا يتّسع المقام لتفصيلها. وحسبنا الإشارة إلى أن شعرية اللغة الروسية، إحياء الطبيعة، أنسنة الأشياء، ضرورة المخيلة، أهمية علامات الترقيم، شعرية التفاصيل، والرؤية الفنية للعالم، هي غيض من فيض تفوح به "الوردة الذهبية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة