رغم أنَّ الاهتمامات الجيوسياسيَّة والاقتصاديَّة تركز بشكل عام في واشنطن على الأزمات الموجودة بالشرق الأوسط، خصوصاً في إيران وسوريا والعراق وليبيا واليمن، فإنه وفي الأسبوع الماضي تحوَّلت الاهتمامات إلى تطورٍ لا يرتبط بالأمن والجغرافيا والسياسة.
المادة الجديدة التي حظيت بالاهتمام في واشنطن كانت المناهج الجديدة بالسعودية، إذ عملت الدوائر المعنيَّة وبشكل غير اعتيادي على متابعة هذا التحوّل، ما يعني أن هذا الأمر سيكون له تأثيرٌ في الرأي العام الأميركي والغربي بعد أن يأخذ مداه بالداخل السعودي والشرق الأوسط.
ومِنْ المتوقع أن تبدأ حلقات نقاش حول هذه المناهج الجديدة فيما يتعلق بمحتوياتها وخلفياتها، إذ إن التغريدات والتعليقات التي تناولتها على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الكتَّاب والمحللين تؤكد أن إطلاق هذه المناهج التربويَّة الجديدة سيكون له تأثيرٌ في الإعلام بالمنطقة، وعلى مستوى النقاش الدولي فيما يعرف بـ(حرب الأفكار)، وبالتالي يجب علينا في واشنطن أن نسعى إلى فهمها والتعاطي معها حدثاً تاريخياً كبيراً.
إن الإصلاحات التربويَّة بالسعودية تشكّل أهميةً كبيرةً بالنسبة إلى العالمَين العربي والإسلامي، لكن أهميتها الكبرى ستكون لمواطني السعوديَّة، لأنها تتجسَّد في تحرير التاريخ الوطني للسعودية على مدى أكثر من قرنين بشكل يبين الهُوية الوطنيَّة السعوديَّة، وهو أمرٌ قام به معظم الدول والشعوب بالمنطقة، واستعجلت القيادة الحاليَّة في توفير الظروف الملائمة لتمكين المفكرين والتربويين والمؤرخين من اللحاق بموكب المجتمع العالمي فيما يتعلق بتعليم التاريخ الوطني بمختلف الدول، وهذا يعني أن الأجيال الصاعدة بالسعودية ستتمكّن من التعرف من كثب على تاريخهم القريب والبعيد والأبعد.
ومِنْ بين المؤشرات التي عبّرت عن هذا الاتجاه للتعرّف على الغِنى التاريخي للجزيرة العربية سلسلة (على خُطى العرب)، التي أُذيعت منذ سنوات على قناة (العربيَّة).
اقرأ المزيد
وكتابة التاريخ بشكل دقيق سوف تسلّط الأضواء على تاريخ الفنون بالجزيرة العربيَّة والسعوديَّة، مثل الغناء والشعر وغيرهما، للتعرف بشكل أعمق على الكنز الثقافي كما حدث في سوريا ولبنان ومصر وغيرها.
وتشمل هذه الإصلاحات، كما رأينا، عملية توضيح الحقبة العثمانية التي امتدت قروناً، ودورها في تأخير تطور الهُوية الوطنيَّة العربيَّة والسعوديَّة، وإضعاف هذه الوطنيات حتى سقوط السلطنة بعد الحرب العالميَّة الأولى.
إذن، نحنُ نتكلم عن إعادة بعث للهُوية الوطنية للجزيرة العربيَّة والسعوديَّة، وتوجد أهمية استراتيجية للإصلاحات فيما يتعلق بالعرب وأميركا، فالسنوات الماضيَّة كانت شاهدةً على فجوةٍ هائلةٍ بين الرأي العام الغربي والأميركي من ناحية، والمنطقة والسعودية على وجه الخصوص، لا سيّما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية في أميركا، واُستعملت هذه الفجوة من قبل إيران والإخوان المسلمين والشيوعيين الجدد في المنطقة، فعمدوا إلى خلق جوٍ من عدم الثقة بين المجتمع الدولي والسعودية، وانهمرت في واشنطن الانتقادات على المناهج السابقة، ما أسهم في إيجاد بيئة معادية للسعودية رغم التحالف الاستراتيجي بين واشنطن والرياض.
الإصلاحات التي تقوم بها القيادة السعودية، ملكٌ ووليٌّ عهدٍ وحكومةٌ، تهدف إلى توضيح الهُوية وإبراز قدرات المنطقة بشكل عام فيما يتعلق بالعلاقات الدوليَّة السلميَّة والشراكة ضد الإرهاب، ومن أبرز ما قرأنا مع انتشار خبر البرامج الجديدة من قبل الخبراء تحميل جماعة الإخوان مسؤولية تكبيل السعودية في الماضي، وخلق فجوة مع العالم الخارجي، وهذا دورٌ قديمٌ لعبته الجماعة أولاً في نهاية عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، ثم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبالتالي فإن إصلاح البرامج هذه ثورة فكريَّة هائلة تعد بمثابة بوليصة تأمين لمكافحة الإرهاب، وهنا لا بد من إعادة التذكير بزيارة الرئيس دونالد ترمب إلى الرياض، إذ دعا خمسين زعيماً عربياً ومسلماً لتوحيد الجهود ضد التطرف، وها هي السعودية وقيادتها تُقدم على هذه التغييرات المهمة المفيدة للشعب السعودي وعلاقات البلاد مع الخارج.
ويبقى الدور الآن على الرأي العام الأميركي والغربي للتعرف على هذه البرامج الجديدة، وامتثال الدول العربية الأخرى بها، فهذه الحركات الإصلاحيَّة التي بدأت منذ 2016 تؤكد وجود قيادة تعمل على مستوى بعيد المدى، وليست فقط إدارة أزمات، وبالتالي فإن هذه البرامج الجديدة ستكون قاعدةً لحماية مشروع التغيير في السعودية لعقودٍ آتية.