Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"تحجر العواطف" أمام أحداث غزة... لا مبالاة أو وجع أكبر؟

لا تزال مآسي الحروب وانفجار مرفأ بيروت في أذهان اللبنانيين ومنهم من يعجزون عن تحمل مشاهد الحرب في القطاع

يبحث رجال الإنقاذ عن ناجين بين أنقاض مبنى بعد الغارات الإسرائيلية في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ ف ب)

ملخص

يلجأ البعض إلى آليات دفاعية ليحمي نفسه في ظروف حرب كتلك التي في غزة

تبدو المشاهد التي تُنقل عن أحداث غزة صادمة بما يكفي لتؤثر في الصحة النفسية وتسبب أفكاراً سلبية ومشاعر حزن وكآبة لكل من يراها في أي مكان في العالم، وقد تختلف آثارها بين شخص وآخر، فتكون بدرجات متفاوتة بحسب عوامل عدة، فإذا كانت لهذه المشاهد وحدها تداعيات لا يمكن الاستهانة بها، فما قد يكون وضع أهالي غزة الذين يعيشون تحت القصف المستمر؟ وفي ظل مآسٍ ومجازر متواصلة من أكثر من أسبوعين؟ فمتابعة التقارير حول أحداث غزة شيء، وعيش هذه الأحداث شيء آخر لا بدّ من النظر إلى تداعياته النفسية بشكل مختلف. إنما حتى بالنسبة لمن يعيشون في ظل هذه الظروف التي تبدو صادمة لمن يتابع أحداثها ويستحيل على أي إنسان تحمّلها، يبدو واضحاً أن الأثر النفسي لا يكون ذاته على الجميع، وثمة من يلجأ إلى آليات دفاعية معينة يعتمدها بشكل أو بآخر، لحماية صحته النفسية، فيلجأ إلى ما قد يوصف بنوع من "تحجر العواطف" ليتمكن من الاستمرار بالعيش في ظل الظروف القاسية والمآسي المرافقة للحرب.

 

الحرب في غزة شيء آخر

من الضروري التمييز بين ظروف الحرب وتلك المرافقة لأي كوارث طبيعية أو غيرها من المآسي، إنما أيضاً يفرض الواقع ضرورة التمييز بين الحرب في غزة ومفهوم الحرب عامة.  ففي ظروف الحرب بشكل عام، تكون هناك مناطق آمنة يمكن أن ينتقل السكان إليها أو يمكن أن تكون هناك فترات من الهدنة يلتقط فيها الناس أنفاسهم، أما بالنسبة لأهالي غزة فالوضع مختلف، كما أصبح واضحاً للكل، فهم يعيشون في ظروف القصف المستمر والمكثف من أكثر من أسبوعين ولا أماكن آمنة يلجؤون إليهم بما أن الصواريخ تتوجه نحو المدنيين في ملاجئهم ومنازلهم والأماكن التي يعتقدونها آمنة ويلجؤون إليها، وصولاً إلى المستشفيات التي لم تنجُ حتى من الغارات.

وفق ما توضحه المعالجة النفسية ريما بجاني ما من منطقة آمنة في غزة، لذلك يعيش أهلها في حال من القلق المستمر والخوف من أن يطاولهم القصف في أي لحظة كانت. في الوقت نفسه، للنظر في الوضع النفسي لأهل غزة وكيفية تعاطيهم مع الظروف التي يعيشون في ظلّها، لا يمكن فصل الأحداث الحالية عن تاريخ القضية الفلسطينية، وهذا ما يجعل البيئة الفلسطينية مختلفة، والحرب التي تدور في غزة تختلف عما يمكن أن يدور من حروب في العالم، إذ يعيش شعبها في ظل صراع دائم من عشرات السنوات ما يجعل الحالة النفسية مختلفة هنا، فأهالي القطاع يدركون أنهم يواجهون خطراً دائماً، وقد لا يعني ذلك أنهم محصنون في مواجهة الحرب، بل تأقلموا مع ظروفها ومع الواقع الذي يعيشونه بوجود خطر دائم. ومما لا شك فيه أن القلق الدائم موجود، ومشاعر الخوف، واضطراب ما بعد الصدمة. لكن أهالي غزة قد يكونون أكثر صلابة ومرونة من الناحية النفسية، فكونهم يعيشون منذ عقود عدة في ظل هذا الصراع والحروب المرافقة له، وهم في حالة من "الجاهزية النفسية" إلى حد ما، في مواجهة الظروف القاسية، كما يلجأ الإنسان بطبيعته، في الظروف الخطرة، إلى آليات دفاعية تساعده على المواجهة. وقد يبدو للبعض عندها وكأنه أكثر صلابة وقد يفاجأ البعض بقدرته على مواجهة الظروف على رغم قسوتها لأنه يبدو وكأنه يتجاهل ما يحصل أو أنه تخطاه أو تأقلم معه، لكن هذا لا يلغي الحاجة الملحة إلى المتابعة النفسية بعد الحرب مع الأفراد لمعالجة حالات القلق والصدمات وكيفية التعامل مع الخسائر البشرية والمادية، فيكون الجهد الأكبر هنا، سواء كان الفرد يتمتع بصلابة نفسية أو كان من النوع الأكثر هشاشة وتأثراً بما يحصل من حوله. فالمآسي في غزة تؤثر في الجميع ولو بمستويات متفاوتة، وبالمتابعة النفسية يمكن مساعدة الفرد على تخطي ما مرّ به بحيث لا يبقى منه شيء كامن في داخله، أو في ذاكرته بشكل قد يسبب له اضطرابات نفسية في مراحل لاحقة، ولو بدا صلباً في فترة الحرب.

"تحجر العواطف"... إنكار أو نرجسية؟

في ظروف الحرب والكوارث والمآسي، لا يمكن الانطلاق من "الذكاء العاطفي" عند النظر في الصحة النفسية للأفراد، كما توضح بجاني، "وترتبط قدرة الفرد على التعاطي مع المشاعر من حزن وغضب وغيرهما بمدى تنمية شخصيته وقدراته الذهنية، وغالباً ما يظهر معدل النمو في هذا المجال في الظروف الصعبة في ظل الكوارث والحروب، أما التحجر العاطفي فقد يوضع أحياناً في خانة الإنكار، إلا أنه لا يعني بالضرورة مبدأ عدم متابعة الأحداث تجنباً للتأثر بها. بالنسبة لمن يتواجد في أي نقطة في العالم، فبشكل عام، في أي كارثة أو حرب أو أزمة، يشدد الخبراء على ضرورة عدم تعرض الناس إلى مشاهد الحرب والحد من متابعة الأحداث لتأثيرها الكبير في الصحة النفسية. في الوقت نفسه، لا علاقة لمتابعة الأحداث بمسألة التعاطف مع غزة، فمن الممكن أن يتابعها شخص هو في حالة تحجر العواطف، لذلك، من المهم الفصل ما بين التعاطف أو عدمه، وبين السعي إلى حماية الذات من الناحية النفسية عبر اعتماد آليات دفاعية معينة في ظل الحرب الدائرة في غزة. لحماية الذات، من الضروري تجنب المشاهد القاسية التي تُعرض بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي لأنها تؤثر في أي إنسان أينما كان وتؤذيه".

في المقابل، توضح بجاني أن بعض الأشخاص مروا بخبرات معينة أثرت فيهم إلى حد كبير، وهذه المشاهد قد لا تكون جديدة على المواطن اللبناني بشكل خاص، لأنه مرّ بتجارب عدة مماثلة، آخرها انفجار مرفأ بيروت، "تمتلئ ذاكرة اللبنانيين بمثل هذه المشاهد والصدمات، وكل صدمة جديدة لدى رؤية مشاهد الحرب والدم توقظ ما هو كامن في اللاوعي لديهم، وتعيد إلى ذاكرتهم بطريقة غير صحية هذه المشاهد القاسية والخبرات التي مرّوا بها فيعيشوها مجدداً، لذلك، يحاول كثيرون في لبنان تجنب هذه المشاهد، ويؤكدون على عدم قدرتهم على تحمل المزيد بعد كل ما مروا به من تجارب صعبة، فهم يعيشون مجدداً هذه التجارب من خلال المشاهد التي يرونها في غزة. هنا، لا بد من التمييز ما بين التأثر الناتج من استعادة مشاهد الحرب والمآسي والخبرات السابقة، وما بين التعاطف، لأن التأثر لا يعني التعاطف حكماً، ومن يتأثر انفعالياً لا يتعاطف بالضرورة، علماً أن الإنسان يظهر التعاطف من موقعه، من خلال الدعم النفسي المعنوي أو المادي رافضاً ما يحصل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتتابع بجاني "في لبنان تحديداً، قد يبدو كثيرون في حالة تحجر العواطف لأنهم سبق أن رأوا هذه المشاهد في وطنهم وعاشوا هذه الخبرات، وهي ليست جديدة عليهم، خصوصاً انفجار مرفأ بيروت الذي يتشابه في نقاط عدة مع ما يحصل في غزة. لذلك، يختار البعض اللجوء إلى تحجر العواطف لأنهم لا يزالون يعيشون صدمة الحرب أو الانفجار، فيحموا أنفسهم بهذه الطريقة ولا يغرقوا مجدداً في وضع نفسي صعب".

حماية الصحة النفسية ضرورة

في كل الحالات، من المفترض أن يكون التعاطف منطقياً ومتوازناً حفاظاً على الصحة النفسية، فدعم أهل غزة والتعاطف معهم، ورفض الحرب بكل ما فيها من وحشية أساسي، لكن، حفاظاً على الصحة النفسية يجب تجنب المشاهد الدموية وصور الحرب، خصوصاً أنها لا تساعد على التعاطف، لا بل بالعكس، هي تعيد إلينا خبرات عشناها أو تبني أخرى جديدة قد تظهر لاحقاً في وقت تؤثر سلباً في الصحة النفسية. ويمكن لكل فرد أن يعمل على تقديم الدعم والمساعدة من موقعه بطرق عدة، أما من يتأثر بمعدلات زائدة، فيجب أن يتجنب تماماً هذه المشاهد، ويمكن أن يقدم الدعم بحسب قدرته، وقد يكون ذلك من خلال الصلاة دعماً لمن هم أكثر قدرة على تقديم المساعدة، وعندها، هو لا يوضع في خانة "تحجر العواطف"، كما يعتقد البعض في وقت يطلقون الأحكام على غيرهم في هذه المرحلة.

ويحصل "تحجر العواطف" عندما يضع الإنسان حاجزاً أمام عواطفه، ويجب التمييز بين من تكون انفعالاتهم بمستويات عالية، ومن يحسنون ضبط مشاعرهم والسيطرة عليها، والأشخاص الذين يظهرون "تحجر العواطف" وقد يظهرون قسوة إلى حدّ ما، ربما لأنهم مروا بخبرات سابقة صعبة. ويمكن أن ينتج "تحجر العواطف" من نوع من الإنكار فيبدو وكأن الشخص المعني لا يتصل بالواقع، يمكن أن يكون ذلك من الآليات الدفاعية التي يعتمدها البعض في ظروف صعبة ليحموا أنفسهم، فهي حالة إنكار للوضع كاملاً، ولا يحصل ذلك في ظروف الحرب حصراً بل ربما في ظروف أخرى صعبة كما في حال مرض أحد أفراد العائلة أو في أي نوع من المآسي. لذلك، يجب تمييز الشخصيات التي تكون في حالة "تحجر العواطف" بسبب الإنكار لحماية الذات، وأولئك الذين يتمتعون بشخصيات نرجسية أو من يعانون اضطراباً عقلياً وهم فعلاً "متحجرون عاطفياً" لا يظهرون أي عاطفة أو تعاطف مع أحد، بل يسخرون أو يهزأون في ظروف صعبة يمرّ بها الآخر، إذ لا يعكس الإنكار أبداً حال عدم التأثر أو اللامبالاة أو عدم التعاطف، بل يلجأ إليه الإنسان لأن الظروف القاسية التي يراها قد مسّت به وأثرت فيه. ولا يودّ أن يظهر تأثره هذا، وآلية "تحجر العواطف" قد ترتبط بواقع عاشه الفرد أو ربما أنه أسهم في تطوير هذه الآلية لتنعكس على شخصيته على أثر جهد كبير بذله، وذلك حتى يحمي نفسه ولا يتأثر بشكل زائد.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات