Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما نصبح جميعنا مصورين حربيين

اعتقد متفائلون كثر بالتكنولوجيا أن توثيق الهواة يسعه أن يكشف حقيقة الحرب ويطيح بالحكومات ولكن يبدو أن الكاميرا الرقمية تفقد براءتها في حروب هذا القرن

الحرب بين إسرائيل و"حماس" عبر عدسات الهواتف الذكية. على اليسار، عمود من الدخان يتصاعد فوق مدينة عسقلان، إسرائيل، وعلى اليمين، تظهر اللقطات الأضرار التي لحقت بحي الرمال في مدينة غزة (حسابات خاصة على "إنستغرام" عبر "ستوريفول")

ملخص

أصبحت الصور الرقمية معلومات بحد ذاتها بدل أن تكون استكمالاً للمعلومات الآتية من جبهة الحرب وتضعها في سياقها

"ابني يوسف شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"، أخذت إحدى الأمهات الفلسطينيات المكلومات تصف طفلها ذا السبع سنوات بشعره الأجعد وبشرته البيضاء الناعمة وجمال محياه، علها تجده في أحد مستشفيات قطاع غزة بعدما فقدته إثر إحدى الغارات الإسرائيلية فيما الكاميرا تلاحقها من كل حدب وصوب، قبل أن يأتيها خبر وفاته وتصر على رؤيته كي تطبع على وجنته قبلة أخيرة. انتشر الفيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، وأضرم النيران في قلوب المستخدمين. إنها واحدة من قصص كثيرة تكتبها الحروب، بل تكتب نهايتها، وتخرج إلينا من بين أنقاض القذائف موثقة بعدسة الكاميرا.

في الحروب، ربما يموت الجميع في هذه الغارة أو تلك، ولكن صوراً وفيديوهات كثيرة تصل إلينا حية ترزق، وقد أخذت أعداد مهولة منها تتدفق إلى هواتفنا الذكية المحمولة أخيراً منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، تاريخ بدء الصراع الأخير بين إسرائيل وحركة "حماس"، ويعود الفضل في كثير منها إلى مقاتلين أو جنود، مدنيين أو محاصرين، ليسوا في الحقيقة مصورين محترفين أو موظفين لدى وكالات أنباء وصحف وتلفزيونات، يوزعون نتاجهم بوصفهم شهوداً على الحرب أو مناصرين لهذه الجهة أو تلك.

في مقال أخير عنونته "عندما يصبح الجميع مصوري حرب"، تحدثت "نيويورك تايمز" عن فيض الصور التي تجلبها معها الحرب، والتي تتنقل بين الناس على نحو أسرع وأوسع من أي رواية رسمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا، مهما ابتعدنا في المسافة من ساحات الصراع في الواقع، أصبحنا اليوم عبر شاشاتنا الصغيرة أقرب إليه من أي وقت مضى. في سوريا وأوكرانيا، والآن في إسرائيل وغزة، صارت الحرب في القرن الحادي والعشرين، وفق توصيف الصحيفة الأميركية، أشبه بخرطوم مطافئ من الصور الرقمية، سيل لا ينضب من صور ذات جودة متدنية، تلتقطها غالباً مجموعة من الهواة.

تذكيراً، شرعت الكاميرات في توثيق الحروب منذ عام 1855، عندما سافر المصور البريطاني روجر فينتون إلى ساحات القتال في سيفاستوبول، وكانت حينها ساحة حرب بين روسيا من جهة وفرنسا وبريطانيا والعثمانيين من الجهة الأخرى، بعدما حول عربة لبيع النبيذ إلى غرفة مظلمة تجرها الخيول. ومنذ بدايتها، انغمست وسيلة التصوير الفوتوغرافي في حوار مع الموت.

وكتبت الناقدة والمخرجة والروائية الأميركية سوزان سونتاغ عام 1977 أن "التصوير الفوتوغرافي يحول العالم كله إلى مقبرة. المصورون هم أيضاً، عن قصد أو عن غير قصد، ملائكة يسجلون لحظات الموت". ولكن هذا الأسبوع كان بمثابة تذكير مروع بضرورة فتح النقاش بشأن مصداقية تلك الصور التي يلتقطها كل من تتوافر لديه كاميرا، أي كاميرا.

بدل أن تعمل هذه الصور بوصفها استكمالاً للمعلومات الآتية من الجبهة وتضعها في سياقها، كما كان يفعل التصوير الفوتوغرافي التقليدي للحرب، تعمل هذه الصور الرقمية كمعلومات بحد ذاتها. تشارك في سوق جديدة للصور، حيث يتنافس جامعو الأخبار المحترفون مع حكومات وجهات فاعلة غير حكومية ومارة مرعوبين، وحيث يصار إلى ضغط الصور إفساحاً في مساحة التخزين أو النقل، وإعادة نشرها وتعريفها أثناء انتقالها عبر الشبكات اللاسلكية.

وبطبيعة الحال، أصبحت هذه الصور أيضاً ناقلة للمعلومات المضللة، خصوصاً على "إكس" أو "تويتر" سابقاً. نشرت هذه المنصة لقطات يُفترض أنها تصور مباني مدمرة في إسرائيل ولكنها تقع في الحقيقة في غزة والعكس صحيح، إضافة إلى فيديو حصد آلاف المشاركات والتعليقات ادعى ناشروه أنه لمروحيتين عسكريتين أسقطتهما "حماس"، غير أن الادعاء غير صحيح لأن الفيديو في الحقيقة مجرد مشهدٍ من لعبة فيديو إلكترونية.

وجاء في المقال بقلم جيسون فاراغو أنه خلال الحرب العالمية الأولى، كان امتلاك جندي لكاميرا يمكن أن يودي به إلى محاكمة عسكرية؛ فيما أنه اليوم في أوكرانيا، يصار إلى تشجيع القوات رسمياً على نشر مقاطع الفيديو والصور، اعتقاداً بأن الفوائد المترتبة على الروح المعنوية تفوق الأخطار الاستخباراتية المطروحة. وفي الآونة الأخيرة، في سوريا، كان تنظيم "داعش" يعمل على تحميل برامجه الجهادية المضادة عبر الإنترنت.

في كتابها الصادر عام 2021 بعنوان "لقطات الشاشة"، تشرح عالمة الأنثروبولوجيا في "جامعة ديوك"، ريبيكا إل. ستاين، كيف استخدمت أطراف مختلفة في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني التصوير الرقمي لتوثيق الأراضي المحتلة: الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي، السلطة الفلسطينية و"حماس"، اليهود المستوطنون والقوميون، كذلك منظمات المجتمع المدني.

كان لدى كل مجموعة ما تسميه الدكتورة ستاين "حلم الكاميرا المثالية". وكان كل منهم يعتقد أن الأدوات الرقمية الرخيصة (أو أجهزة المراقبة المتطورة) من شأنها أن تسمح له بتجاوز وسائل الإعلام أو خصومه السياسيين، وأخيراً توفير الشفافية التي من شأنها أن تؤكد وجهة نظره الخاصة في الصراع. ولد هذا الأمل منذ الأيام الأولى للتكنولوجيا الرقمية، عندما اعتقد متفائلون كثر بالتكنولوجيا أن توثيق الهواة يسعه أن يكشف حقيقة الحرب، بل ويطيح بالحكومات.

ولكن الكاميرا الرقمية تفقد براءتها في حروب هذا القرن. بحلول منتصف 2010، عندما ترك كثير منا الخوارزميات تتولى توزيع خلاصات الأخبار، وقعت الصور الرقمية للحرب في الفخ عينه شأن أي مجموعة أخرى من المعلومات السياسية: الصور التي تعجبك يمكن تضخيمها، في مقابل استبعاد الأخبار الأخرى باعتبارها أخباراً مزيفة.

والحال أن المعنى الذي تحمله الصورة عموماً لا يتأتى مما تجسده فحسب؛ بل من طريقة انتقالها بين الوسائط والناس، ومن التحولات التي تمر بها خلال هذا المسار، ومن الجهة التي تختار لها أن تقطع هذا المسار وليس ذاك.

يبقى أنه من أسوأ ما ترتكبه الكاميرا نفسها من جرائم أنها أحياناً كثيرة تؤثر هذه الضحية على تلك، تصوغ لها حكاية، تضعها في مصاف "الضحايا الأجمل" (يوسف مثالاً) أو "الضحايا الأذكى" (مثلاً الطالبة الأولى على الشهادة الثانوية في فلسطين) أو "الضحايا الأصغر سناً" (غرقت وسائل التواصل الاجتماعي بصور تعبيرية ترسم الأطفال ملائكة بأجنحة تحلق صوب السماء أو الجنة)، أو "ضحايا المهنة" وغيرها، لتصبح البقية غير الباقية من الضحايا مجرد أرقام.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل