Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين باريس كما رآها الطهطاوي و"اليوتوبيا" كما وصفها توماس مور

كيف قضى القرن الـ20 وثوريوه على أحلام "المدن الفاضلة" وأفشلوا مشروعها الخيالي؟

من تخاييل "جمهورية أفلاطون" (غيتي)

هناك في الأنواع الفكرية، الفلسفية غالباً، نوع يطلق عليه اسم "أدب اليوتوبيا" وهو مصطلح يعادل ما سماه أبو نصر الفارابي في نص أساسي له "المدن الفاضلة". ويقوم هذا النوع عادة على تخيل مدن أو جزر أو مناطق نائية من العالم، يزعم الكاتب أنه زارها ورصد فيها مجتمعات وعوالم أكثر إنصافاً للبشر وأقل معرفة بالفوارق الطبقية وأشد اهتماماً بسعادة الناس ورفاهيتهم. وفي كل تلك الكتب التي تتناول بالشرح والتحليل ما يمكن أن نسميه "المدن الفاضلة" استناداً إلى الفارابي إذاً، ثمة مكانة خاصة تكرس لكتاب "يوتوبيا" للسير توماس مور. وهو الكتاب الذي سنتوقف عنده بشكل خاص هنا لمقارنته مع كتاب لا يمت طبعاً إلى اليوتوبيا بصلة، لكنه يشارك كتبه غايات محددة. أما بالنسبة إلى كتاب توماس مور فلقد اخترناه بالنظر إلى أنه بالتحديد كتاب كان رائداً في الدنو من هذا النوع الفكري وتناول "مدينة فاضلة" تخيل الفيلسوف الإنجليزي النهضوي الإنساني، الذي كان مستشاراً للملك هنري الثامن، وجودها في جزيرة متخيلة تقع في نصف الكرة الجنوبي في موقع يرى كثيرون أنه موقع يبدو قريباً من جزر اليابان، بمعنى أن توماس مور استعار اليابان، إلى حد ما، ليجعل منها المكان الذي يعيش فيه الناس تلك الحياة "الفاضلة" التي نقل تفاصيلها، كما يدعي الفيلسوف، بحار يدعى رافائيل هيثلوداي، بعد أن عاش فيها خمسة أعوام.

من هنا كانت البداية
في البدء لا بد من الإشارة إلى أن الاسم الذي اختاره توماس مور لكتابه ولمدينته الفاضلة، "يوتوبيا"، ويعني المكان الذي لا وجود له، عاد وأسبغ لاحقاً على المدن الفاضلة المتخيلة جميعاً، من جمهورية أفلاطون إلى عالم هاكسلي "الطريف الشجاع" مروراً "بمدينة الله" للقديس أوغسطين، و"مدينة الشمس" لتوماسو كامبانيلا، وعشرات "المدن" الأخرى التي كانت غايتها دائماً إعطاء صورة مسهبة، للعالم كما يجب أن يكون من وجهة نظر المفكرين. العالم كما يجب أن يكون، هو الغاية إذاً من كتابة تلك النصوص، وهذه الغاية لئن دلت على شيء فإنها تدل بالطبع على نوع من الاختلال بين الأفراد المتميزين، والمجتمعات التي يعيشون فيها، ما يدفعهم إلى البحث عما هو أفضل. وبالنسبة إلى توماس مور، كانت الحياة في "يوتوبيا" هي الحياة المثالية التي يتعين على بني البشر اتباعها. غير أن ما ينبغي التوقف عنده هو أن هذا الكتاب الغريب والمسهب في تفاصيله، لا يمكن احتسابه صورة لدولة يتعين بناؤها، بقدر ما ينبغي اعتباره، وفي الوقت نفسه، انتقاداً للمجتمع الإنجليزي والأوروبي زمن وضع الكتاب، أي بداية القرن الـ16 (1515). الكتاب هو بعد كل ذلك دعوة إلى اتباع أعلى القيم الروحية بغية الإفلات من مجتمع المادة المفسدة والحكم الفردي القاسي.

على خطى أفلاطون
في "يوتوبيا" توماس مور، كما هي الحال في "جمهورية أفلاطون" ليس ثمة ملكية خاصة، هناك الخير العام والمساواة ضمن مبدأ "لكل بحسب حاجته" بمعنى أنه لا أحد يحتفظ بما يفوق تلك الحاجة. و"يوتوبيا" تنقسم إلى 54 مدينة صممت كلها على نمط واحد باستثناء العاصمة. وفي كل مكان للشوارع العرض نفسه وللبيوت الهندسة نفسها والأبواب بلا إقفال. وكل عقد من السنين يبدل الناس مساكنهم. وهنا، الكل يلبس الثياب نفسها. وكل شخص يعمل ست ساعات في اليوم. وينام في الثامنة. وعند الصباح تعطى دروس للجميع. وبعض الناس، بسبب قدراتهم العقلية، ينتخبون رجال معرفة. والأبناء يعيشون في بيوت الآباء، حتى يفيض عدد الأطفال عن مقدرة المنازل الاستيعابية فتنشأ فروع جديدة.

واللافت هنا وجود الرقيق كجزء أساسي لا بد منه، من السكان، لكن الرقيق لا يتمتعون بالامتيازات نفسها التي يتمتع بها الأحرار، وهم يزاولون الأعمال القاسية، لا سيما ذبح الحيوانات لكيلا تعم روح القسوة بين الأحرار. والطعام جماعي، تطبخه النساء، ويوزعه العبيد. والزواج يتم بين الأحرار. والتجارة الخارجية مزدهرة، بالتالي ثمة علاقات مع الخارج، ولكن ثمة حروباً أيضاً. أما المحاربون فمرتزقة يستأجرون لذلك، وهم غالباً من الأجانب. والنساء تحارب كالرجال.


حياة مملة؟

وفي مقابل ذلك يخبرنا توماس مور كم أن القواعد الأخلاقية في "يوتوبيا" صارمة، وصارمة إلى درجة أن برتراند راسل حين كتب عن "يوتوبيا" من خلال كتابته عن مؤلفه قال، إن الحياة لا شك تبدو في كل الحسابات مملة في هذه المدينة الفاضلة إلى درجة لا تطاق، ولكن مملة أو غير مملة، من المؤكد أن وصف الكتاب للحياة هناك قد داعب مخيلة كثيرين، وكان في خلفية كثير من النظريات الخيالية وغير الخيالية. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن كتاب "يوتوبيا" كان في الأصل كتابين، "اكتشف" توماس مور كما يخبرنا ثانيهما حين زار هولندا واجتمع بصديقه الفيلسوف النهضوي إيرازموس الذي يهديه الكتاب بعد أن "أعاد كتابته" في عام 1516، سائلاً إياه أن يساعده على نشره. وتوماس مور الذي ارتبط اسمه بهذا الكتاب، هو نفسه ذلك المفكر الذي تربى تربية دينية لكنه آثر التفكير الحر بعد ذلك. وهو ولد في عام 1478. وحين أنهى دراسته وتخصص في القانون، ارتبط بالملك هنري الثامن الذي منحه لقب سير في عام 1514. وذات لحظة عينه الملك مستشاراً له، في وقت كان فيه الملك على وشك طلاق كاثرين داراغون، إحدى زوجاته، والاقتران بأن بولين. وكان مور، المرتبط بالكنيسة الرومانية، معارضاً للطلاق، فأقاله الملك ثم دعاه لحضور عرسه فرفض. بعد ذلك أعلن هنري الثامن نفسه رأس الكنيسة الإنجليزية وهو ما عارضه مور أيضاً، فأدين بتهمة الخيانة العظمى وقطعت رأسه في عام 1535، ليدخل التاريخ كمفكر حر شرس، ولكن خصوصاً كصاحب ذلك الكتاب الذي يتحدث سلباً عن إنجلترا بالطبع، أكثر مما يتحدث إيجاباً عن أي دولة خيالية.

اعتراضات مواربة

ونصل هنا إلى محاولة مغرية للربط بين اليوتوبيات من خلال كتاب توماس مور، وكتاب الطهطاوي. فنحن نعرف على أي حال أن معظم هذا النوع من الكتب وقد يصل عدد الجيد والفكري حقاً منها إلى مئات كتبت في أزمنة مختلفة، إنما هي نصوص تعلن وإن بشكل موارب رفضها السياسات والأحوال المتبعة والقائمة في المدن أو البلدان التي ينتمي إليها مؤلفوها، وهم عادة من كبار المفكرين والفلاسفة بل حتى الأدباء المثاليين، فيلجأ المؤلفون إلى المواربة للتحدث عن تلك المدن "الخيالية" التي تتناقض مع مدنهم ما يفهم منه عادة أنهم يفضلون ما يدور في خيالهم على ما يعايشونه حقاً. ولعل هذه الملاحظة هي ما يمكننا هنا، ومن موقع أكثر واقعية أن نقارب بين مؤلفات "المدن الفاضلة" ولو بطريقة قسرية بعض الشيء، وكتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" للمفكر المصري رفاعة رافع الطهطاوي الذي كتبه كنوع من الاستعراض للحياة التي عايشها في باريس حين بعثت به الدولة المصرية إماماً ومرافقاً لأول بعثة أرسلت للدراسة هناك. فكتب عن باريس وكأنها "مدينة فاضلة" من دون أن يسهى عن باله انتقاد كثير من سمات الحياة والأخلاق فيها، لكنه في الوقت نفسه عرف كيف يفاضل بين تلك المدنية الغربية وما يعيشه المصريون، ليستنتج ضرورة الاستفادة من التقدم الحضاري في تلك "اليوتوبيا الواقعية" لا سيما في المجال الحقوقي والتقني والعلمي والتربوي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الواقع واقع والخيال خيال!

والحال أن كتب "المدن الفاضلة" وهي على أي حال في معظمها غربية وعقلانية، ومهما كانت أبعادها الخيالية، لا تبتعد كثيراً في أهدافها على الأقل، عن تلك الأهداف الإصلاحية والثورية التي نجدها مضمرة في ثنايا كتاب الطهطاوي. وثمة هنا فارق لا بد من الإشارة إليه وهو أن التجديدات التي طالب الطهطاوي بإحداثها تحققت في الجزء الأكبر منها، فيما نعرف أن كتب المدن الفاضلة "اليوتوبية" ظلت أمنيات خيالية وهي حين قيض لها أن تتحقق، وتحديداً في بعدها الأفلاطوني مع انتصارات الشيوعيين منذ بدايات القرن الـ20، علماً أنهم كانوا من قام بأكثر المحاولات جدية لتحقيق تلك "الفراديس الخيالية" على وجه الأرض– لكن حياتها جميعها لم تدم سوى عقود انهارت بعدها من الداخل. لقد انتهى بها الأمر إلى الإخفاق عند نهايات ذلك القرن، وربما بالتحديد لأن اليوتوبيا كان يجب أن تبقى يوتوبيا في نهاية الأمر!

المزيد من ثقافة