Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كمال رحيم كتب ثلاثية اليهود المصريين بعد حرب السويس

"وكسة الشاويش" صدرت بعد رحيله عن 76 سنة وتكشف مأزق الشخصية الوجودية

مشهد ليهود مصريين نازحين (الهيئة المصرية)

ملخص

رحل في القاهرة أول من أمس الكاتب كمال رحيم عن عمر ناهز 76 سنة، وقبل أيام قليلة من رحيله صدرت روايته الجديدة

رحل في القاهرة أول من أمس الكاتب كمال رحيم عن عمر ناهز 76 سنة، وقبل أيام قليلة من رحيله صدرت روايته الجديدة "وكسة الشاويش" عن "دار الشروق"، لكنه لم يتسن له أن يحتفل بصدورها. تجسد الرواية كل مميزات عالمه الروائي الذي يقف على تماس مع تجاربه الحياتية الغنية التي شكلت خلفية واضحة لعالمه الروائي. نال الراحل في العام الماضي جائزة الدولة التقديرية للآداب في حدث لم يمثل مفاجأة لمن تابعوا أعماله، فقد حصد قبلها جائزة الدولة التشجيعية، وعلى جوائز نادي القصة واتحاد الكتاب، في مسيرة أدبية ممتدة اتسمت بالجهد التراكمي والعمل في الظل.

جاءت شهرة رحيم في الأوساط الأدبية وخارجها في وقت متأخر بفضل ثلاثيته الشهيرة "أيام الشتات" التي صدرت كاملة عن "دار العين" قبل عامين، وضمت روايات "يوميات مسلم يهودي" و"أيام الشتات" و"شمعدانات ومآذن". وقارب فيها دوافع خروج اليهود المصريين بعد حرب السويس في عام 1956. ولعلها كانت المرة الأولى التي اقتحم فيها روائي مصري هذا العالم وسعى إلى تقديم رواية بديلة حول أسباب الخروج، تضع الجانب السياسي في خلفية الحدث، وتركز بعمق على الجانب الإنساني، وتقف بوضوح ضد محاولات "شيطنة" اليهود المصريين، من دون أن تتجاهل تعقد الوقائع التاريخية ومسار المنطقة بعد نكبة فلسطين في عام 1948، وما تولد عنها من أزمات، على رأسها قيام دولة إسرائيل بمشروعها الاستيطاني القائم على اغتصاب الأرض. وقد ترجمت الروايات الثلاث سارة عناني إلى الإنجليزية ونشرها قسم النشر في الجامعة الأميركية بالقاهرة.

عمل رحيم ضابط شرطة كما خدم في الإنتربول المصري في فرنسا منذ عام 1978، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة القاهرة. والمتابع لأعماله يجد أنها دارت بالأساس في فضاءين مكانيين، الأول مدينة بورسعيد التي خدم فيها كضابط شرطة لسنوات طويلة وشكلت المدينة خلفية لغالبية أعماله. أما الفضاء الثاني فمرتبط بالقرية المصرية التي عرفها من خلال نشأته في المنصورية، محافظة الجيزة على أطراف القاهرة. وينطق عمله الممتع "قهوة حبشي" بما تقدمه القرية من صراعات وما يطرحه سكانها من تساؤلات بسيطة عن العالم وتحدياته.

استثمر الكاتب كثيراً خبراته المباشرة، فعمله الطويل في بورسعيد مكنه من الوصول إلى "بطن المدينة" والتناقضات على الصعيد الاجتماعي الذي يجدد باستمرار الدوافع لارتكاب الجرائم. وبفضل هذه الخلفية تمسك رحيم بالتعبير عن هذا العالم بلغة بسيطة خالية من الزخارف البلاغية.

 نبرة تشويقية 

 تكشف روايته الجديدة "وكسة الشاويش" (دار الشروق) عن مدى قدراته الفريدة في الكتابة بتدفق ونبرة تشويقية تقرب الرواية من روايات الجريمة، بما تثيره من تساؤلات وشكوك، منحها الكاتب طابعاً وجودياً، هذا على رغم كونه اختار حكاية تبدو تقليدية حول تجربة الخيانة الزوجية واعتمادها على المثلث الشهير (الزوج - الزوجة - العشيق)، إلا أن بطلها الرئيس يشبه كثيراً أبطال ألبير كامو الذين ينشدون الحرية ويؤمنون بالمسؤولية، ويتعاملون مع الطابع العدمي للحياة. فهو يعيش تجربة بحث عن الأب الغائب أو الأب البديل، تذكر بصابر، بطل رواية "الطريق" لنجيب محفوظ، الممزق الراغب في التخلص من التاريخ الذي يحمله على ظهره بعد وفاة أمه، ومهمته في البحث عن والده، وكيف قادته إلى مشكلات عديدة أودت به إلى الهاوية والحكم عليه بالإعدام.

تبدأ الرواية من مشهد بالغ التشويق يرتبط بمحاكمة قاتل ارتكب جريمة قتل للانتقام من واقعة خيانة. والراوي هو مرتكب الجريمة، لكنه ليس الزوج كما نتوقع، وإنما هو ابن قتل أمه بعد سنوات من اكتشاف خيانتها، وإدراكه أنه ولد نتيجة علاقة زنى بينها وبين جارها صاحب المنزل الذي تقيم فيه العائلة، وليس من صلب الرجل الطيب الذي عاش في كنفه كما يعتقد الجميع.

هذا هو الإطار العام للحكاية، ولكن في التفاصيل يغذي الكاتب مضمون عمله بكثير من التساؤلات الوجودية التي يعكسها حال البطل اللا منتمي، المعذب بهويته ونسبه، وبالمشاهد التي رآها في طفولته في شأن انكسار الرجل الذي رباه أمام الأم المتسلطة، والتي لم تحن عليه أبداً، وهي في ذلك على عكس الرجل الذي منحه أقصى ما يستطيع من حنان.  تظهر الرواية كثيراً من المشاهد التي عززت شكوكه في سلوك الأم اللعوب التي تبدو في عين طفلها الوحيد "سيدة غير محتشمة" تشجع جيرانها على التحرش بها والتجرؤ على جسدها في كل مناسبة.

سر الأب البديل

ينمي الكاتب في لعبة السرد المكتوب بأناقة مدهشة، هذا الجانب النفسي بالتركيز على ما يعانيه البطل عادل، من صراعات داخلية تفقده عاطفته تجاه الأم، بعد أن انكشفت خيانتها أمامه، بالتالي فقدت سلطتها المعنوية وحضورها الرمزي كذلك. وتأتي الصدمة حين يستمع عادل إلى حديثها مع عشيقها زكريا الفار، وهو يضاجعها داخل البيت. ويتأكد فيه من أن اهتمام هذا الرجل به يأتي لأنه ابن له وليس صلباً من الأب/ الزوج الذي عاش معه، ورعاه أكثر من 15 عاماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضاعف هذا الاعتراف من روابط انتماء الابن عادل للزوج المخدوع حسان، ومن تعاطفه الدائم مع بؤسه وانكساره، وشعوره الفادح بقلة حيلته. وينمي النسيج السردي شعور البطل بهذا التمزق الوجودي وكآبة القلب وفقدان الهوية، ويستثمر كذلك في تتبع -وسرد- حال الوجوم والصمت، الذي يولد في البيت ويزيد من عمق الفجوة بين الأم والابن، بخاصة بعد مرض الزوج المخدوع، وموته بعد أن باع ميراثه في قريته، وشعر للمرة الأولى بقوته الناتجة من امتلاك المال مما يجعله يصلب طوله أمام زوجته. وعلى رغم الثمن البخس الذي تقاضاه من شقيقه مقابل الأرض وسقوطه في فخ خدعة أخرى، فإن هذا المال منحه ما كان يفتقده من شعور بالقوة والطمأنينة والثقة التي افتقدها دائماً في مواجهة زوجته اللعوب.

 وعقب موت الزوج يبدأ عادل رحلة تيه جديدة، تقوده للخروج من بورسعيد، والذهاب إلى قرية الرجل الذي رباه، فهو لم يعد يطيق العيش مع والدته، وقد تأكد من خيانتها، ولا يستطيع تقبل وجود الجار الخائن في البيت، بعد أن عرف أنه والده الحقيقي المتسبب في ما يعانيه من عذاب.وحين يذهب إلى قرية الأب البديل لا يجد فيها ما كان يأمله من فرص للعيش بين أفراد عائلة تمناها، لأن أفرادها انشغلوا بهمومهم الفقيرة، ولكن قبل أن يغادر يفاجأ بزوجة عمه فاطمة تمنحه وهي تودعه بعض المال وسواراً من الذهب، تقول له إنه هدية من والده الذي كان يرغب في الزواج منها، قبل أن يترك القرية إلى الأبد. وتنصحه بالمغادرة إلى الإسكندرية في رحلة يلتقي فيها مع شطا، رفيق والده الذي أحسن إليه وقرب منه. ولما عاد إلى بيته في بورسعيد وجد زكريا الفار والده الحقيقي الذي ينكر الصلة به قد احتله تماماً وحوله إلى مركز لبيع الحشيش. ومن ثم كان لا بد من الانتقام لذلك يقتل أمه. وتنتهي الرواية ونحن في انتظار جلسة المحاكمة.

تبرز كفاءة رحيم في قراءة التحولات التي عاشتها مدينة بورسعيد من أوائل ستينيات القرن الماضي وحتى دخولها مرحلة الانفتاح، فتبدو مدينة مرآة عاكسة لقلق أبطالها. فما تعانيه المدينة من اضطرابات في هويتها، بعد تحولها من مدينة مقاومة إلى مدينة انفتاح، تجسد كذلك في أرواح سكانها، وهو ليس ببعيد عما يعانيه البطل. فالقاتل لا يرتكب جريمته إلا بعد أن يستمع لأحمد عدوية وهو يغني "إدي الواد لابوه"، إنها الإشارة الرمزية التقليدية التي استعملت بإفراط، دلالة على ميلاد مدينة أخرى والدخول إلى عصر جديد.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة