Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عائلة يعقوب اليهودية اللبنانية تتفكك في رواية "جاكوفا"

رجاء نعمة تسرد مسار جماعة وأفراد بين نزوح وإقامة في حقبة مضطربة

مواطنون يهود يصلون في كنيس وادي بو جميل في بيروت قبل الحرب (أرشيف ألبير ديشي)

ملخص

رجاء نعمة تسرد مسار جماعة وأفراد بين نزوح وإقامة في حقبة مضطربة 

ليس لأن الرواية تتناول مسار عائلة يهودية هربت من فوضى المجهول في موطنها إسطنبول، لتخوض في غمار تعقيدات جمعت بين سطوة المال والبطريركية الذكورية، وضغوط الحركة الصهيونية التي مارستها على اليهود العرب لحثهم على الهجرة إلى إسرائيل، وليس لأن الكاتبة رجاء نعمة تناولت حقبة زمنية حبلت بمتغيرات تراجيدية كان احتلال فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل إحدى نتائجها المدوية، بل لأن رواية "جاكوفا ابنة المنزل اليهودي" (شركة المطبوعات للنشر والتوزيع) جمعت بين الواقع والتخييل حتى بدت واقعية أكثر مما يمكن تخيله. فالسرد جاء خالياً من الكليشيهات المعتادة حين يتطرق الموضوع إلى اليهود اللبنانيين الذين تشتتوا في أنحاء المعمورة، وبعض منهم هرب إلى إسرائيل إبان الحرب الأهلية، شأنهم شأن اليهود في مصر والعراق والمغرب واليمن وبلدان عربية عدة.

لم يتخذ السرد جانب التسييس إلا بقدر ما يعوزه التخييل كي يلتصق بالواقع. وإن كانت الحبكة تحتاج إلى جرأة وشجاعة في عالم ما زال لا يرى غير الأسود والأبيض، فإن رجاء نعمة استعانت - لتتخطى كل هذه التعقيدات- بشخصية كاتبة مفترضة تسرد ما روته جاكوفا في مذكراتها عن حياة جدها يائيل يعقوب، لتشكل من هذه المذكرات رواية خشيت جاكوفا إن كتبتها بنفسها، أن تعوزها بلاغة السرد. فوجئت الكاتبة المفترضة بطلب جاكوفا بأن تقوم بدور كاتبة الظل لمذكراتها، والتي استمرت بتزويد الكاتبة بكل ما يستجد من حكاية عائلتها اليهودية والمصائر التي آل إليها أفرادها. عانى الجد يائيل يعقوب "الجواهري العريق" تعقيدات سياسية- وهو الذي لم يكن له شأن في السياسة- اضطرته للهجرة من إسطنبول إلى حلب ومنها إلى بيروت.

هذه الكاتبة المفترضة تتورط في الصفحات الأخيرة من الرواية لتصبح إحدى بطلاتها، والتي تحل عليها لعنة عائلة يعقوب التي تشتت أفرادها ما بين سطوة الدين والمال والجغرافيا، وعلاقات عاطفية تعارضت مع يهوديتهم. كل ذلك حدث في بيئة من الضغوط  زعزعت حياة الكثيرين إبان نشوء دولة إسرائيل وأدخلت الريبة من اليهود العرب في المجتمعات العربية.

لعنة الولادة

جاكوفا التي ترفض ترهات الحركة الصهيونية عن شعب الله المختار وأرض الميعاد كذريعة لطرد شعب فلسطين من أرضه، ورميه إلى المصير المجهول، فعلت الشيء نفسه بعائلتها وتفرقت في مجهول هجرات، دوافعها مختلفة. إذ تسبب الدين والسلطة الذكورية للخواجة سليم الذي ورث عن أبيه كنزاً من سبائك الذهب ومكانة مرموقة في بيروت، بناها الجد يائيل حين رفض أن يقيم في وادي أبو جميل. بل بنى قصراً فارهاً في رأس بيروت، يطل على البحر، على غرار قصر صديقه الحلبي نظمي الدمرداش. بل فاقه فخامة في موقعه ومقتنياته. في ذلك المنزل حملت ليزا بعد طول انتظار لتنجب الحفيد الثاني الذكر للعائلة "موييز" الذي لم يولد، وأتت جاكوفا مكانه لتكون المنبوذة في العائلة، ليس من أبيها فحسب، بل من أمها ليزا التي أصيبت باكتئاب ولم تتمكن من إرضاعها أو لم ترد أن تفعل. اضطرت حينها الأخت الكبرى راحيل أن تحمل جاكوفا وتضعها على صدر ليزا لترضع، وبعد أن ظلت بلا اسم لعدة أشهر، ما لبث أن اقترح جاكوب عليهم تسميتها جاكوفا تيمناً باسمه.

ظلت جاكوفا تعاني وضعاً دونياً داخل العائلة ليس لسبب إلا لأنها بنت حلت محل أخيها "موييز" الذي لن يولد. شكلت ولادة الابنة جاكوفا خيبة أمل للخواجة سليم، وزادت من أعباء جاكوب لكونه بقي الذكر الوحيد للعائلة، مما يحتم عليه مسؤوليات، أقلها السير على خطى جده يائيل ووالده الخواجه سليم، الجواهري العريق أباً عن جد، فيما ميول جاكوب كانت بعيدة كل البعد من هذا الدور المرسوم له، بل سار في طريق مغاير تماماً. تبنى الفكر الشيوعي وشكل مع رفاق له من طوائف عدة شلة من أبناء كبريات العائلات اللبنانية، مع شيخ صياد سمك كانوا يجتمعون في الطابق الأرضي من قصر آل يعقوب، ويخوضون نقاشات في أحوال البلد. جمعهم الإلحاد والتمرد المزدوج ضد الرأسمالية والإمبريالية ورفض صارم لنشوء دولة إسرائيل وتعاطف مع الفلسطينيين الذين طردتهم من وطنهم. هذا التمرد لم يعجب والده الخواجة سليم وحاول الاستعانة بحاخام الطائفة اليهودية في لبنان ليثنيه عن السير في طريق يخالف التعاليم اليهودية، لكنه لم يفلح، وإن ساير جاكوب الحاخام ووالده في بعض المواقف.

بين التدين والعلمانية

 جاكوفا التي أبدت رغبتها في الالتحاق بالدير حباً بالمسيح وتكريساً لحياتها في سلك الرهبنة، عانت العقاب الأشد حين حرمها والدها من إكمال سنتها الدراسية بالاتفاق مع رئيسة الدير الذي تدرس في مدرسته. وحين التحقت بمدرسة علمانية تغيرت نظرتها وعدلت عن الأمر بتأثير من أستاذ الفلسفة، لتنحو مع الوقت في مسار مشابه لمسار جاكوب من غير أن يخططا له معاً. ففيما شقيقتها إيفا تزوجت من زاكي المغترب اليهودي في أميركا الذي بنى ثروته من الصفر، وشكل قصة نجاح ألهمت الكثيرين من أبناء الطائفة، لم يكن بعيداً عن تأثره بآل روتشيلد الذي كان الخواجة سليم يتتبع أخبارهم. تحمس للعريس القادم، ومع الوقت اعتبره الابن الذي فشل في أن يكونه جاكوب.

كان جاكوب يتأرجح ما بين ميوله الشيوعية والموروث الديني للعائلة، وهو ما أدى لخسارته لميا حبيبته من غير دينه. لكن جاكوفا وجدت في حبها لمصطفى المسلم فرصة للتحرر من نير جدران منزل عائلتها اليهودية، ومضت معه سراً إلى باريس حيث تزوجا بعيداً من ضغوط عائلتها. حين يعلم الخواجة سليم بزواجها سراً ومن مسلم، يقيم طقوس موتها في منزله يشارك فيها جاكوب تحت ضغط والده وطائفته، كما الخال وجميع أفراد العائلة، بمن فيهم أختها إستر الشديدة التدين التي تهاجر إلى أميركا لا لتؤيد إسرائيل بل لتروج ضدها، من منطلقات دينية توراتية بحتة، فيما راحيل التي هاجرت إلى إسرائيل التي اعتبرتها مجرد ملاذ من خوف قادم حملته إسرائيل إلى المنطقة بدأ يهدد طمأنينة اليهود العرب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حين تعلم جاكوفا بخبر اعتقال والدها، لعلاقته بامرأة مشتبه فيها في التجسس لمصلحة إسرائيل، تعلم حينها أن والدها أقام لها عزاء بسبب زواجها واعتبرها ميتة. تقيم إذ ذاك القيامة حتى على كاتبة الظل وتخرج أمور السرد عن سيطرة الكاتبة. تخاصمها جاكوفا لأنها لم تخبرها في حينها، وتتوقف عن تزويدها بالمزيد من المذكرات، لتتولى كاتبة الظل السرد التخييلي من ذاتها، وتدخل الحبكة السردية كعاشقة لجاكوب، فتتكشف شخصية جاكوب عن ميل قاطع لمعاداة إسرائيل بعد عيشه ضروباً من الملاحقة في لبنان، تضطره للسفر لباريس ثم العودة إلى لبنان بعدما تحظى كتاباته المعادية لإسرائيل شهرة واسعة. ووسط هذا الغموض والمجهول في مسارات أفراد عائلة يعقوب وانتماءاتهم المتعارضة تتفكك العائلة فكرياً واجتماعياً وعاطفياً وجغرافياً، لتعيش (العائلة) تراجيديا تداخلت فيها عناصر السياسة وفلسفة الوجود في عالم مضطرب.

عبرت الكاتبة رجاء نعمة ببراعة متميزة عن مناخات تلك الحقبة، إن في لبنان، أو المنطقة العربية لا سيما مصر، بعدما عرجت تاريخياً على محطات شكلت فواصل متصلة –منفصلة، أدت إلى هذه المصائر المتنافرة لعائلة يعقوب، وأخرى قذفت الشعب الفلسطيني في مجهول الشتات وآلامه. استعانت نعمة ببعض المعلومات التاريخية، وروت بعضاً من أسفار التوراة وتهويمات هرتزل وحاييم وايزمان ومواقف السلطان العثماني عبد الحميد، ولكن من غير أن تُغرق الرواية في تأريخ الطائفة اليهودية في لبنان أو تبالغ في سرد الأحداث. بل كانت تأريخاً للإنسان وخياراته والمسارات التي تضطره إليها الضغوط الاجتماعية والدينية في تعارضه مع الجديد القادم في بيئة سياسية متوترة. سواء كان هذا الجديد أملاً يبزغ في وسط الظلمة أم ظلماً يوقع في المآسي شخصيات الرواية، مهما علا شأنها في السرد الروائي أو قلّ.

ربما سمحت خلفية رجاء نعمة المعرفية والبحثية والأدبية والثقافية الواسعة التي توفر بعضاً منها بعد حيازة الدكتوراه عام 1984 من جامعة السوربون عن دراستها "مأزق الحداثة في أدب الروائي السـوادني الطيب الصالح". وهي أطروحة في التحليل النفسي للأدب مكّنتها من أن تمتلك الأدوات التي تسمح لها بخوض هذه التجربة السردية الرائعة، بحرفة وذكاء، جاعلة من قراءتها غاية في المتعة والسلاسة. بخاصة أنها كانت غنية بالأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات الروائية التي أثرت في تحولاتها، وحددت خياراتها ومصائرها أو قذفت بها إلى المجهول.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة