ملخص
بعد نصف قرن على معركة أكتوبر... نظرة إلى الجولان.
حين دقت الساعة الثانية بعد ظهر السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، فتح ما يقارب 900 مدفع هاون للجيش السوري المتمركز على جبهته الجنوبية النيران على أهداف إسرائيلية في الجولان بهدف استرجاع أراضٍ سيطرت عليها تل أبيب إثر حرب سميت "نكسة حزيران" عام 1967، وهي معركة يصفها السوريون والمصريون على حد سواء بأنها "حاسمة غسلت مرارة الهزيمة".
الحرب الرابعة
اشتعلت الجبهتان السورية والمصرية في وقت واحد في ما وصف بالحرب الرابعة بين إسرائيل والعرب، وجاءت على عكس حروب أعوام 1948 و1956 و1967 وما حملته من انكسارات وهزائم، لتأتي "حرب أكتوبر" التي يطلق عليها السوريون "التحريرية" عقب إعادة السيطرة على مدينة القنيطرة جنوب البلاد.
بينما تطلق عليها تل أبيب حرب "يوم الغفران"، وهو اليوم الذي نصح به الاتحاد السوفياتي لأن الهجوم خلال احتفال اليهود به سيكون مباغتاً، ووسط ذلك دارت معركة غير مباشرة بين السوفيات الذين أمدوا مصر وسوريا بالطائرات والسلاح والمعلومات، في حين سارع الأميركيون لإغاثة تل أبيب وتلبية نداءات رئيسة الوزراء الإسرائيلي غولدا مائير وسيّروا جسراً جوياً لنقل أحدث الطائرات الحربية إلى إسرائيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وباعتراف حديث كشف وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر عن أنه عمل والرئيس ريتشارد نيكسون وبقية طاقمه بشكل قوي وحثيث في حرب أكتوبر على توفير كامل الدعم المباشر والخدمات الحاسمة لإسرائيل حتى لا يتحقق نصر عربي عليها، مضيفاً في مقابلة له مع صحيفة "معاريف" الإسرائيلية نشرت في الـ22 من سبتمبر (أيلول) الماضي "عقدنا العزم منذ اليوم الأول على منع نصر عربي في الحرب، ورأينا في نصر كهذا ضربة للولايات المتحدة نفسها لأنه كان من الممكن تفسيره على أنه انتصار سوفياتي علينا، وكنا مقتنعين منذ اللحظة الأولى بضرورة عودة القوات المصرية والسورية للخطوط المعتمدة قبل اندلاع المعركة".
وقف إطلاق النار
في الـ22 من أكتوبر وفي تطور لافت قرر مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النيران بين الأطراف سعياً إلى إحلال السلام وإنهاء حال الحرب، وعلى أثر ذلك عقدت القيادة العليا لحزب البعث الحاكم اجتماعاً لدراسة قرار مجلس الأمن، وأشارت وثائق حصلت عليها "اندبندنت عربية" إلى إجراء اتصالات مع رؤساء وملوك لتبادل الرأي حول قرار مجلس الأمن رقم 338.
دعا القرار الأممي جميع الأطراف في القتال الحالي إلى التوقف عن إطلاق النار وإنهاء كل نشاط عسكري فوراً، وبموعد لا يتعدى 12 ساعة من لحظة تبني مجلس الأمن للقرار وبدء مفاوضات بين الأطراف المعنية بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، ولم تمتثل دمشق للقرار واستمرت بحرب استنزاف طويلة الأمد.
في المقابل أعلن الرئيس المصري أنور السادات فور صدور القرار أمراً إلى القيادة العامة للقوات المسلحة بوقف إطلاق النار في الموعد الذي حدده مجلس الأمن بشرط أن يلتزم العدو أيضاً، واتخذ السادات في ذلك الوقت هذا الإجراء بعدما درس تفاصيل القرار بعناية بالغة، وأصدر القائد العام للجيش المصري الفريق أول أحمد إسماعيل علي لقادة التشكيلات والفرق أمراً بإيقاف إطلاق النار في الساعة 6:52 في الـ22 من أكتوبر بتوقيت القاهرة.
معادلة المواجهة
في غضون ذلك لم تكن طرق المواجهة عسكرية فحسب على خطوط التماس في الجولان وسيناء بل امتدت لتكون اقتصادية ودبلوماسية، واشتركت فيها الدول العربية ودول أفريقية، وبعد انقضاء 14 يوماً من الحرب أعلنت مدغشقر وقتذاك قطع علاقاتها بتل أبيب لتنضم إلى دول أفريقية كثيرة اتخذت الموقف ذاته.
وشهدت على المواجهة دول أوروبية من خلال مواقف شعبية لا رسمية كان أبرزها امتناع عمال ميناء "ليفورنو" عن تحميل سفينة شحن أميركية بالعتاد الحربي، لكن نفذت عملية التحميل بعد حصول تأكيدات من الحكومة الإيطالية أن هذه الشحنات لن تصل إلى الشرق الأوسط بل إلى الولايات المتحدة.
في الـ23 من أكتوبر اجتمع مجلس الأمن في الساعة 10:35 مساء بناء على طلب من القاهرة لبحث الانتهاكات الإسرائيلية بعد قرار وقف إطلاق النار، وبحسب الوثائق المتوافرة وبعد يوم واحد من قرار مجلس الأمن خرق الجيش الإسرائيلي وقف إطلاق النار، وعلى الفور أقر المجلس بغالبية 14 صوتاً مشروع قرار سوفياتي – أميركي بتأكيد قرار وقف إطلاق النار وإرسال مراقبين دوليين إلى الجبهة المصرية.
اللافت أنه حدثت مقاطعات بين المندوبين السوفياتي والصيني بعد إلحاح الأول على التصويت للمشروع وإرجاء كلمات المندوبين إلى ما بعد التصويت، لكن المندوب الصيني أصر على التحدث، وأشارت التقارير الإعلامية حينذاك إلى مقاطعة المندوب السوفياتي له ملحاً على التصويت، وفي هذه الأثناء أقر المجلس المشروع لإرسال مراقبين من قبل الأمم المتحدة، وفي ذلك الوقت لم تصوت الصين الشعبية على القرار.
بالكلمة والنفط
وصفت هذه الحرب بـ"معركة العرب" منذ انطلاقها وحتى بعد وقف إطلاق النار بقرار أممي واستمرار القتال على الجبهة السورية، ومع اطلاعنا على نسخ للصحف اليومية الصادرة في دمشق أثناء حرب التحرير يمكن ملاحظة إصدار نسخة مسائية للتعليق المتواصل على أجواء المعركة، وحملت "مانشيتات" الصحف عبارات الفخر والاعتزاز مثل "المقاتلون العرب جدارة تؤهلهم لتصفية العدوان" و"العنجهية الإسرائيلية تهاوت" و"كان لا بد من كسر شوكة إسرائيل واسترداد المقاتل العربي ثقته بنفسه" و"الإنسان العربي مقاتل يجيد استخدام السلاح المتطور وقادر على التفوق في المعركة الحديثة".
هذه العناوين وأكثر كانت تحملها الصحف منذ اليوم الأول للمعركة وحتى بعد إطلاق حرب الاستنزاف واستمرار دمشق بالمواجهة منفردة، لكنها في المقابل استقبلت على جبهتها مشاركة عسكرية من معظم الدول العربية عبر إرسال قوات مقاتلة بعتادها الكامل تفاوتت بين إرسال فرق النخبة أو إرسال مجموعات رمزية لاستمرار المواجهة ومن أبرزها العراق والجزائر والمغرب.
أما إذاعة دمشق، فلم تكن تتوقف عن بث الأغاني الوطنية والحماسية التي تلهب صدور المستمعين من السوريين، وتحدث المواطن السوري رضا العسلي الذي يقطن في العاصمة عن أجواء الحرب ومشاهداته لها وهو بعمر الـ20، قائلاً إن الشوارع تحولت بكل ما حملت معها من كآبة إلى ألوان زاهية، والناس في المقاهي كانت تتابع دقيقة بدقيقة أخبار ما يحدث في الجبهة.
ويردف "كنا نلوح لطائراتنا فوق سماء العاصمة ونعانق الجنود العرب الآتين إلى الجبهات أو المغادرين منها، وأذكر أبي حين عمد إلى طلاء النوافذ بلون أسود تحسباً لإفلات طائرة إسرائيلية من الدفاع الجوي وقصفها للمدن".
يروي البرلماني ورئيس اتحاد الصحافيين الأسبق إلياس مراد مشاهد من داخل المعركة، فيصف السادس من أكتوبر بـ"عنوان النصر" وهزيمة المشروع الصهيوني وإسقاط هيبة الجيش الإسرائيلي، وتحقق ذلك بفضل استعداد دقيق ومبرمج وخطة مشتركة ودعم من بعض الأصدقاء العرب.
ويجزم عضو مجلس الشعب سابقاً الذي عمل مراسلاً حربياً في ذلك الوقت (يظهر في صورة تجمعه مع الأديب السوري ممدوح عدوان فوق ركام طائرة إسرائيلية أسقطها الدفاع السوري في أول يوم من أيام الحرب)، بأن العوامل التي استند إليها النصر إلى جانب القوات المسلحة كانت الجبهة الداخلية ومنها الإعلام وفق ما يروي.
في المقابل اعترف الرئيس الإسرائيلي حاييم هيرتسوغ بتمكن الإعلام العربي من الاستفادة من أخطاء الحرب الإعلامية عام 1967 بينما وقع الإعلام الإسرائيلي في هذه الأخطاء ذاتها، وفق مقابلة إذاعية بعد انقضاء شهر من بدء الحرب.
الصاروخ الخامس
تحكي إحدى القصص أثناء الحرب عن تكليف النقيب طيار كمال هلال نصر مهمة قتالية لضرب القاعدة العسكرية الإسرائيلية "ميرون"، وبعدما نفدت صواريخه الأربعة أصيبت طائرته فطلبت منه العمليات الهبوط في أحد مطارات الأردن، فما كان من الطيار إلا وانقض مضحياً بنفسه على القاعدة، قائلاً "انتهت صواريخي الأربعة وأنا الصاروخ الخامس"، وهذه القصة التي رواها أحد المشاركين في الحرب غيض من فيض ما يحكى عن شجاعة المقاتل السوري في المواجهة.
في الوقت ذاته ومع رفع العلم السوري على القنيطرة في الـ26 من أكتوبر والتي استعادها الجيش السوري بعد معارك ضارية، تدفق المواطنون من كل المدن واكتظت المدينة المحررة وقتذاك بآلاف السيارات الوافدة فضلاً عن الآتين سيراً على الأقدام للاحتفال بهذا النصر.
وخاضت سوريا حرب استنزاف بدأت صباح السابع من مارس (آذار) عام 1974 حين اتصل الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بوزير الدفاع مصطفى طلاس، قائلاً له "عليك البدء منذ صباح الغد بحرب استنزاف ضد العدو"، وبحسب ملفات وزارة الدفاع السوري التي كشفت السرية عنها، دار حديث قصير بين الأسد وطلاس أبدى خلاله الأخير امتثاله للأمر، لكنه خاطب الرئيس بـأن "القيادة العليا السورية ضد حرب الاستنزاف".
وعلى رغم ذلك بدأت حرب الاستنزاف بطيئة لتتصاعد المواجهة بشكل تساقطت معه حصون ومراصد إسرائيلية كثيرة، ومن بينها مرصد جبل الشيخ أعلى القمم الجبلية السورية، وكان ثمة إصرار سوري على الاستمرار في الحرب على رغم القرارات الدولية وخطوط فض الاشتباك عبر بعثة الأمم المتحدة التي تفصل بين الجانبين، ومع مرور نصف قرن على انقضاء حرب أكتوبر ما زالت معادلة المواجهة مستمرة وإن بدت على شكل حرب باردة.
لكن الهجمات الإسرائيلية تكررت خلال الأعوام الماضية عبر الطيران المسيّر والمقاتل، وقبل أيام توغلت آليات عسكرية من جهة الجولان في قرية عين التينة لتدمر مباني تابعة للجيش النظامي السوري، مما ينذر بتصعيد خطر وسط أسئلة في الشارعين الشعبي والسياسي مفادها هل من "حرب تشرين" جديدة قريباً؟.
