Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحيتان بحرينية وإماراتية تطرحان أسئلة الحرية

"السيد والعبد" و"قائمة الخديج" عرضان خارج الصيغ المشهدية التقليدية

من مسرحية "السيد والعبد" البحرينية (اندبندنت عربية)

ملخص

"السيد والعبد" و"قائمة الخديج" عرضان خارج الصيغ المشهدية التقليدية

ليس غريباً ما يشهده المسرح الخليجي اليوم من تجارب صادمة ومفاجئة للجمهور، ولعل أبرز هذه التجارب نضجاً على المستويين الفني والفكري، تجسدت في كل من العرض الإماراتي "قائمة الخديج" لفرقة جمعية كلباء للمسرح، والعرض البحريني "السيد والعبد" لفرقة مسرح الصواري. العرضان حضرا أخيراً في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الثلاثين، وأثارا جدلاً واسعاً، سواء لجهة جرأتهما الفنية أو حتى عبر معالجة كل من مخرجيهما لقضايا وجودية أزلية كالولادة والموت وحرية الإنسان ضمن قالب فني معاصر.

في هذا السياق جاء عرض "قائمة الخديج" لمؤلفه علي جمال ومخرجه ومصمم السينوغرافيا عبدالرحمن الملا، ليطرح أسئلته عن مصير الكائن الإنساني ليس منذ لحظة ولادته وحسب، بل حتى منذ تكونه كجنين في رحم أمه. يبدأ العرض الإماراتي مع رحلة هذا الجنين ورفضه أن يختار له أحد اسمه أو دينه أو عائلته. رفض لا يلبث أن يبدأ مجلجلاً وركلاً للطفل بقدميه على مشيمة والدته، حتى ينتهي إلى صراع مع كل ما يمكن أن يصادر حرية الإنسان وتقرير مصيره.

هكذا جسّد كل من الفنانين عادل سبيت وعبير الجسمي ومحمد جمعة وفوزية معروف وأمنة عبدالله أدوارهم في العرض الذي قدم على خشبة "مسرح السامر" وسط العاصمة المصرية. تتبع العرض رحلة الكائن الإنساني منذ ما قبل المهد إلى اللحد، وعبر سينوغرافيا مختزلة وذكية تنقّل عبرها مخرج العرض من داخل جدران الرحم إلى غرفة نوم الأبوين، ومنهما إلى غرفة التوليد والحواضن الاصطناعية لأجنّةٍ غير مكتملة النمو، والتي تدخل هنا في "قائمة الخديج" عنوان العرض، وعتبته الأولى للإشارة إلى عجز الكائن الإنساني واستحالة نجاته من الحياة بوصفها حادثاً لا نجاة من خوض غماره.

الحنين إلى الماء

يخرج الوليد إلى الحياة بعد ركلات قوية يوجهها لبطن وخاصرتي والدته، وحال خروجه يرفض الوجود الذي كان مصراً على النفاذ إليه، ويشعر مباشرةً بالحنين إلى ذلك العالم المائي اللزج الذي كان يحيا فيه حياة هادئة ظليلة داخل رحم أمه. لكن هيهات، فالأيدي التي نبشت الوليد من أحشاء الأم سرعان ما تلقفته وقرأت على الفور في أذنيه اسمه وكنيته وعقيدته. بناءً على هذا ينمو الطفل في بيت والديه ويشب على أفكارهما، لكنه لا يزال يعيش حالة رفض لتعاليم المدرسة ومن بعدها الجامعة والأهل ورفاق الحي. رفض يطاول كل ما يتم إملاؤه عليه، وصولاً إلى مرحلة الكهولة وشيخوخة البدن وأمراضه، واللحظة التي يتحول فيها السرير ذاته الذي ولد عليه طفلاً إلى تابوت متحرك.

نستطيع القول إن "قائمة الخديج" يعتبر عرضاً وجودياً في سؤاله الفكري الواضح حول مصير الإنسان ومآلاته التي يصنعها له المجتمع والعائلة، وصولاً إلى قولبته ضمن جماعة بشرية لها أعرافها وقيمها ومعاييرها الصارمة حول الخير والشر والحب والحرية، وكل ما يتصل بتكرار ملايين النسخ المتشابهة من البشر، عبر معامل الولادة والموت المنتشرة في كل أرجاء الكوكب.

من هنا لم يكتفِ مخرج العرض بقوة الطرح الفكري للنص، بل ذهب نحو تقديم شكل كاريكاتوري كتفسير للنص وتأويل له، لتبدو عبرها الشخصيات وكأنها ممسوخة أمام مصيرها المحتوم. وهي على خفة ظلها ورشاقتها بدت أقرب إلى أسلوب الغروتيسك- "ظاهر ومرح وباطن مأساوي". ولم يشذ الإخراج والسينوغرافيا عن هذا النوع الذي انتمى العرض له، بل جاهد عبر حلول فنية إلى الإبقاء على السخرية كعنصر من عناصر التهكم على الحياة كلحظة خاطفة بين صرخة الوليد وشهقة الشيخ في أثناء احتضاره، وصولاً إلى إطلاق صرخة الخديج كخاتمة للعرض، صرخة الموت التي هي صرخة الولادة ذاتها للطفل الذي صار شيخاً يزحف على حافة قبره.

السيد والعبد وثالثهما

لم يكن العرض البحريني "السيد والعبد" أقل أهمية من العرض الإماراتي، بل يمكن القول إنه قد نافسه هو الآخر في تقديم مسرح الطقس، فاعتمد مخرج العرض ومصمم السينوغرافيا خالد الرويعي على حوارية "السيد والعبد" القصيدة المشتقة من الحضارة الأكادية (1200 قبل الميلاد)، وجاءت هنا كمتن حر للعب على مفردات جسدية باهرة قام بأدائها كل من الممثلين صالح الدرازي (السيد) وأحمد سعيد (العبد) الذي يؤيد رغبات سيده ويرفضها تبعاً للحالات التي تنقل عبرها المقترح بين الشخصيتين. فالسيد يأمر بإسراج الجياد إلى العربة للذهاب إلى مقابلة الملك، ومن ثم يعزف عن ذلك، تماماً مثل كل الرغبات التي يبدي القيام بها ثم يحجم عنها.

ومع إبداء رغبات السيد والإحجام عنها، لا ينحرف العبد في تأييد مقاصد سيده، ومن ثم تأييد عدم رغبته في تنفيذها، بحيث كان من الصعوبة تدجين النص الشعري هنا على المسرح، لكن الرويعي حاول مع كل عبارة جديدة يتلفظ بها السيد أن يقدم لها معادلاً حركياً وطقسياً على خشبة مسرح البالون وسط القاهرة. واختار الرويعي تقليص فضاءي اللعب والفرجة إلى الاقتصار على الخشبة، ملغياً كراسي الصالة، فتحلق الجمهور حول الممثلين الوحيدين، محيطاً بهما من كل الجهات، فيما تندلع اللعبة معتمدةً على فتنة الجسد، لا سيما جسد العبد الذي ينكسر ويتهدم ويتضعضع تلبيةً لمشيئة السيد وتلبيةً لرغباته العديدة.

الحبال والطاولة وحفنات الشعير التي يلقيها السيد للعبد من جيوبه جعلت الطقس المسرحي يتفاقم ويتطور وفق إضاءة مدروسة لبقع تنمو وتختفي تبعاً للحالات التي يجسدها الممثلان. ومعها موسيقى قام خالد الرويعي بإعدادها عن مقطوعات "رياح المرتفعات" للموسيقار الأرمني يغيش مانوكيان، إضافةً الى مقطوعات غنائية بصوت مروة ناجي، وأُخرى من مقطوعة "دخول السيرك" لكريستينا أغيليرا، ومن موسيقى فيلم "قصة حب". هذا المناخ الضوئي الموسيقي تناغم مع حضور تعبيري للجسد، وكنوع من تخليق جماليات مساندة للأداء، وربما لتعوض عن غياب الدراما وسطوة النص الشعري.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا تمكن خالد الرويعي من تحقيق وصية معلمه المخرج العراقي عوني كرومي (1945- 2006) الذي أسند له نص حوارية "السيد والعبد" لإخراجه قبل عشرين عاماً من لحظة تقديم العرض على مسارح مصر، وفي المسرح التجريبي. تمكنت فرقة مسرح الصواري من تقديم أيقونة من حضارة ما بين النهرين بلغة أدائية لافتة، واستمات ممثلاها في جعل تجسيدهما لدوري السيد والعبد تجسيداً حراً ونوعياً، عبر قراءة بدا فيها الإخراج حاسماً في جعل السيد والعبد صنوين لكل حروب البشرية. فلا العبد يبقى عبداً ولا السيد سيداً، بل هما واحد في لحظة خلق كان العالم فيها عبارة عن مياه تعلوها مياه.

إن استعادة حوارية "السيد والعبد" بهذه الطريقة قدمت فرجة مسرحية لا تخلو من المبالغة الجسدية، لكنها تعيد للطقس مكانته في المسرح العربي المعاصر، وتعيد طرح سؤال الحرية كأبرز الأسئلة الحاضرة اليوم بقوة في المجتمعات العربية، ولا سيما بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، وكيف تتمثل الشعوب الميثولوجيا الخاصة بها كعقاب أبدي لها. هذه القراءة للحوارية الأكادية دفعها مخرج العرض نحو أقصى طاقاتها تعبيراً واختزالاً عن الوضع العربي الراهن، ومن دون أن يرفع عنها غموضها كنص لم يعرف له مؤلف، بل جاء مثل تعويذة قديمة لطالما قسّمت البشر إلى سادة وعبيد، ليبقى سؤال الحرية بلا إجابة محددة له، فلا يمكن الحديث عن حرية خارج المجتمع الذي ينشدها، ليبقى الشعر شعراً، وتبقى الإجابات معلّقة كطقس وثني يعاد تمثله بصور معاصرة أكثر قسوةً وفتكاً بحرية الإنسان وتقرير مصيره.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة