Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من العدو؟ سؤال الذكرى الـ50 للحرب العربية الإسرائيلية

قبل سنوات قليلة كانت إسرائيل العدو شبه الوحيد لكن المنطقة لم تعد كما كانت وعلاقات الدول تشهد إعادة هيكلة وأصدقاء الأمس لم يعودوا بالضرورة رفاق اليوم

ملخص

محتوى ما يقال في البيوت بعد 50 عاماً من نصر أكتوبر (تشرين الأول) صورة مصغرة لمجريات السياسة وتحولات الأيديولوجيا وتقلبات التوازنات والمصالح الإقليمية والعالمية.

مرت 50 عاماً بالتمام والكمال على حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. مواليد ذلك العام يطفئون 50 شمعة. ومن كانوا أطفالاً حينذاك صاروا أجداداً وجدات. ومن بقي على قيد الحياة ممن خاضوا الحرب على الجبهة أعدادهم قليلة وإن بقيت ذكرياتهم قوية عتيدة.

إنها القوة التي تجمع جانباً غير قليل من هذه الأجيال التي ما زالت ترى في إسرائيل العدو الأكبر، على رغم معاهدات السلام والتطبيع ونصف التطبيع والتطبيع المتردد والممانعة والمصالحة، وبصرف النظر عن الحروب الداخلية والصراعات العربية والخلافات العقائدية بين المسلمين وبعضهم بعضاً، وغرق آخرين في زلازل وأعاصير وأزمات اقتصادية طاحنة أو فكرية وأيديولوجية غائرة.

العدو الأكبر

لكن مفهوم العداء صار أوسع وأشمل، كما أن "العدو الأكبر" يعني أن هناك عدواً أصغر، كما أن اختلاف الأجيال وفروق التعليم والتنشئة والتربية والبيئة السياسية والظروف الاقتصادية والخطاب الديني وغيرها تتداخل في الذكرى الـ50 لانتصار أكتوبر العظيم لتفتح أبواباً لم تكن مفتوحة من قبل في الإجابة عن سؤال: من العدو؟

بين "العدو هو عدو الله" و"عدوي من لحمي ودمي" و"عدوي من يخطط لهدم بلدي" و"عدوي الفساد" و"عدوي الديكتاتورية" وغيرها تتواتر تعريفات العدو بعد 50 عاماً لتشمل "إسرائيل" أو "الصهاينة" أحياناً ولكن على إجابات متباعدة.

حتى سنوات قليلة مضت كانت كلمات "العدو" و"إسرائيل" و"الصهاينة" هي الكلمات شبه الوحيدة التي تلازم بعضها بعضاً شرطياً وحصرياً، لكن عداءات المنطقة لم تعد كما كانت، وصداقات الدول تشهد إعادة هيكلة تارة ومعاودة ترتيب تارة أخرى. وأصدقاء الأمس لم يعودوا بالضرورة رفاق اليوم، وأعداء أول من أمس لا يقفون عند النقطة نفسها، وهي النقطة التي تظل قيد المراجعة في كل مناسبة وطنية.

من العدو؟

بعد 50 عاماً على نصر أكتوبر 1973 تسأل "اندبندنت عربية" عدداً من الشباب والمراهقين عمن العدو؟ زيدان (10 سنوات) طالب في مدرسة إسلامية تتبع نظام الدراسة الأميركي، يقول إن "العدو هو أميركا لأنها تكره المسلمين وتعاديهم". ليلى (11 سنة) طالبة في مدرسة فرنسية خاصة تقول إن "العدو هو الإخوان (جماعة الإخوان المسلمين) لأنهم أرادوا تدمير مصر واحتلالها". محمد (16 سنة) عامل دليفري يقول إن "العدو هو كل من لا يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله)". كرمة (17 سنة) طالبة في مدرسة خاصة تقول إن "العدو هو الإرهاب حتى لو كان الإرهابي جاري أو صديقي. من يفجر نفسه فيَّ أو في أسرتي هو عدوي". مريم (14 سنة) طالبة في مدرسة حكومية تقول إن "العدو هو إسرائيل لأنها تحتل المسجد الأقصى".

أقصى ما يمكن عمله في محاولة البحث عن مفهوم العدو لدى الأجيال الشابة والصغيرة هو البحث في ما يقال في البيت وما يدرس في المدرسة وما تبثه منصات التواصل الاجتماعي من محتوى.

ما يقال في البيوت

محتوى ما يقال في البيوت بعد 50 عاماً من نصر أكتوبر هو صورة مصغرة لمجريات السياسة وتحولات الأيديولوجيا وتقلبات التوازنات والمصالح الإقليمية والعالمية. من كان في سن الـ20 وقت حرب أكتوبر 1973 بات اليوم في الـ70. هؤلاء الأجداد يحكون، وقتما يتيسر، للأحفاد عن ذكريات أكتوبر. صحيح أن الحكايات غالباً تروى بينما الأحفاد ممسكين بهواتفهم المحمولة يتواصلون مع العالم الخارجي أو الداخلي وكليهما لا علاقة له بما يقوله الجد أو الجدة، لكن القليل في الأقل يترسخ في مكان ما في عقل الصغار أو وجدانهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الوجدان في المدارس هو الآخر مشتت بين ما يقوله المعلم المشتت بدوره بين الحصة التي يتعجل انتهاءها حتى يلحق بحصص "السنتر"، وجدول اليوم المتخم بقائمة الدروس الخصوصية أو التدريبات الرياضية أو اللقاءات الاجتماعية على أثير الـ"سوشيال ميديا" أو مقهى على ناصية المدرسة أو كل ما سبق. الشغف بالشق التربوي - أو نقصانه - في منظومة "التربية والتعليم" جزء لا يتجزأ من الإجابة عن سؤال "من العدو بعد 50 عاماً من الانتصار؟".

مواليد ما بعد النصر

لم يكن كثير من معلمي ومعلمات التاريخ واللغة العربية وغيرهما من المواد التي تحوي ذكراً للانتصار قد خرج إلى الحياة بعد. والملاحظ أن تدريس "انتصار أكتوبر" حين يرد في المناهج غالباً يعامل معاملة ثورتي 1919 و1952 وأحداث عامي 2011 و2013 ربما مع قدر أوفر من التفاصيل. وقد تخصص إدارة المدرسة جزءاً من طابور الصباح - إذا كان هناك طابور - للحديث عن الانتصار. جزئية الشغف وإيلاء اهتمام حقيقي نابع من القلب، لا المنهج، لانتصار أكتوبر بات أمراً يختلف من معلم إلى آخر.

آخر ما يمكن الاعتماد عليه لتشكيل أو تغيير أو تعديل مفهوم "العدو" هو منصات التواصل الاجتماعي. قبلها وأثناءها إلى حد ما كان الإعلام التقليدي يشكل مفهوم المواطنين، لا سيما في الفئات العمرية التي سمعت عن أو درست الحرب ولم تعايشها.

 

 

حرب أكتوبر على الـ"سوشيال ميديا" تتأرجح بين محتوى يبثه الإعلام التقليدي المصري والعربي والإسرائيلي والغربي والشرقي، كل يبث بحسب توجهاته وأهدافه وهوامشه وأجنداته، وفضلاً عن محتوى يبثه كل عابر سبيل عن علم أو من دون، من منطلق التعبير عن الرأي أو المعلومة أو شبه المعلومة، أو ضمن منظومة توجيه معدة سلفاً.

بحث عنكبوتي سريع عن "العدو لدى العرب" يسفر عن قائمة طويلة تشتمل ولا تقتصر على "داعش" وإيران وتركيا وأميركا وأنظمة عربية والفقر وفصائل عربية متناحرة وأتباع عقائد وأديان معينة والكفار والفساد والعلمانيين والشيوعيين والجوع، وغير ذلك.

في الذكرى الـ50 لانتصار 1973 تقف منصات التواصل الاجتماعي مشهرة دورها في تحديد العدو، لا سيما حين يأتي التعريف من مؤثرين أو صناع محتوى يحظى بشعبية أو صدقية أو بقاعدة عريضة من المتابعين "المصدقين" لما يرد فيه باعتباره الحقيقة وليس رأي المؤثر أو الجهة الداعمة له.

"ترند" و"وسم"

صناعة أو تعريف أو إعادة تعريف "العدو" من الأمور السهلة والبسيطة على أثير الـ"سوشيال ميديا". وكلما تمكن "الصانع" من أدوات صنعته حول كيفية التأثير وتخليق "الترند" وتوسيع دائرة "الوسم" وغيرها، نجح في صناعة المفاهيم وتغييرها ومن بينها مفهوم "العدو".

من العدو؟ بات الأمر مدعاة للحيرة بعد مرور 50 عاماً على انتصار أكتوبر. وهي حيرة وصفها الباحث في مجلة السياسة الدولية المصرية عمرو عبدالعاطي في حديث سابق بـ"المفهومة تماماً". قال "على مدى عقود طويلة كانت القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي مسيطرين على خانة العداوة في العالم العربي. اليوم، وتحديداً منذ هبوب ما يسمى رياح الربيع العربي تغير المشهد تماماً. حدث تغيير في الإدراك الشعبي العربي وفي محدداته الأساسية، وأصبحت الدولة المحرك الرئيس للأحداث ومن ثم ردود الأفعال وقوائم الأولويات. وأصبحت غالبية الشعوب العربية منشغلة ومنغمسة في قضاياها الداخلية المتغيرة. ولم تعد القضية الفلسطينية المتغير الوحيد على الساحة العربية".

وأضاف أن "كثراً من العرب باتوا يولون اهتمامهم أو ربما تجبرهم الأحداث المتلاحقة على النظر صوب قضايا أخرى مثل التحول الديمقراطي، وتراجع مستويات التنمية، وبزوغ جماعات دينية سياسية في الداخل، وتهديدات دول مجاورة، وكذلك للآثار المميتة للتغير المناخي".

المناخ يحدد العدو

المناخ السياسي وبالطبع الاقتصادي يتعاونان في تشكيل وتوجيه وإعادة تعريف العدو. وتشير دراسة نشرتها جامعة "برينستون" في مارس (آذار) الماضي تحت عنوان "الأصدقاء والأعداء الدوليون"، إلى أن الاعتماد الاقتصادي على شريك تجاري يؤدي إلى الانحياز السياسي تجاه ذلك الشريك وربما من معه من شركاء وأصدقاء، وهو ما يسلط الضوء على التبعات الجيوسياسية لتغيرات الشراكات والعلاقات الاقتصادية بين الدول، وتحول الأصدقاء إلى أعداء والأعداء إلى أصدقاء أو من تنتفي عنهم صفة العداوة.

صفة العداوة لا يقدر لها أن تبتعد كثيراً عن إسرائيل، في الأقل شعبياً، لحين إشعار آخر، كما لا يتوقع لها أن تنتفي تماماً، لكنها في الوقت نفسه تعكس "نيو لوك" يتغير بين الحين والآخر لأسباب سياسية واقتصادية.

أستاذ العلوم السياسية الأميركي جوزيف ناي يذكر في كتابه "القوة الناعمة" (1990) أن القلق من التدهور والانحدار وتغير موازين القوى ارتبط على مدى التاريخ بالتوترات العسكرية والأخطاء في حسابات القوة. تقليدياً اختبار القوة الوحيد كان يقتصر على القوة العسكرية.

ويشير ناي إلى أن "تعريف القوة تغير، وخسر تركيزه على القوة العسكرية، وأضحت عوامل مثل التكنولوجيا والنمو الاقتصادي أكثر فاعلية في قياس قوة الأمم".

العدو المشترك

عوامل عدة تداخلت وجعلت من مفهوم "العدو" في الذكرى الـ50 لانتصار أكتوبر وقت كان "العدو" - المعرف بالألف واللام - هو إسرائيل. في مقال عنوانه "من العدو الآن؟" (2015) ذكر الكاتب اللبناني صبحي غندور أن الاستعمار الأوروبي الذي احتل بعض بلدان المنطقة العربية وهيمن على بعضها الآخر كان هو "عدو العرب".

وأشار إلى أنه لم تكن هناك مشكلة في تحديد ماهية العدو، وأن "الربع الثالث من القرن الـ20 اتسم باتضاح طبيعة العدو المشترك للعرب والذي تجسد في العدو الإسرائيلي ومن يدعمه".

وسرد غندور قائمة من العوامل أدت إلى ما وصفه بـ"ضبابية تحديد العدو عربياً"، ومنها انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء حقبة الحرب الباردة، ومعاهدات السلام مع إسرائيل، والثورة الإيرانية وتأثيرها في دور الجوار العربي وفي القضية الفلسطينية.

وأضاف أن العالم بأسره دخل القرن الجديد من دون اتضاح ماهية العدو إذ اختلطت مفاهيم كثيرة، فلم تعد "الشيوعية" مثلاً هي عدو "الغرب الرأسمالي" بعد أن سقطت حكوماتها في موسكو وفي بلدان أوروبا الشرقية.

ويرى غندور أن الغرب اتخذ مما سماه "الإرهاب الإسلامي" عدوه الجديد، بينما تاه الشرق في وصف عدوه الراهن.

وصف العدو الراهن

وصف العدو الراهن في العام الـ50 على نصر أكتوبر ربما جاء مشتتاً قليلاً، أو تائهاً بعض الشيء، أو متأرجحاً بين مكونات داخلية وأخرى خارجية وثالثة خليط بين هذه وتلك.

يلاحظ أن أولئك المحتفظين بـ"إسرائيل" في مكانة العدو رقم واحد لا يشيرون إليها بالضرورة باسمها. فـ"اليهود عدو" لدى بعضهم، لا سيما أن الدعاء عليهم وعلى غيرهم من غير المسلمين ما زال يتردد في عديد من الأماكن، سواء من أعلى المنابر أو أسفلها من دون شرط الجهر والعلانية. وكذلك "الصهاينة" وإن ظل تعريف الصهيونية كتاريخ وحركة ضبابياً إلى حد كبير.

وبعيداً من ضبابية التعريفات وتغيرات المفاهيم. يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق لـ"اندبندنت عربية"، "لا يوجد عدو دائم، فقط عدو متغير. القضية الفلسطينية لم تعد مركزية بسبب ارتفاع كلفة الصراع، كما أن النخب الحاكمة الجديدة تركز اهتمامها على مشروعات طويلة الأمد تمتد إلى عام 2030 وما شابه، وتحتاج إلى استقرار سياسي وأمني واقتصادي لا توفره أجواء الصراع".

ويخلص سعيد إلى أن "إسرائيل لم تعد عدو العرب الأول، وكذلك إيران لا سيما في ضوء المصالحات الأخيرة، مضيفاً "العدو الآن بالنسبة إلى الأنظمة هو عدم الاستقرار الداخلي والمنافسات مع نخب محلية أخرى. أما عدو الشعوب العربية فهو التضخم ومخاوف عدم الاستقرار واختلال الأمن. وخفتت حدة الخوف من العدو الخارجي سواء كان إسرائيل أو أميركا أو كليهما. العداء الحالي لإسرائيل إعلامي ثقافي في المنابر القومية والإسلامية غير الرسمية فقط".

في ذكرى مرور نصف قرن على انتصار أكتوبر 1973 ما زالت إسرائيل هي "العدو" لا سيما بين الأكبر سناً. أما الأجيال الأصغر فتتسع مفاهيمها الخاصة بـ"العدو" لتشمل دولاً أخرى، وجماعات بعضها مولود من رحم المنطقة العربية، ومفاهيم أيديولوجية يغلب عليها التوجه الديني، وضبابية في التعريف لا تسهم الـ"سوشيال ميديا" في محوها بل تلعب دوراً رئيساً في تجميلها أو تمويهها أو إعادة توجيهها.

المزيد من تحقيقات ومطولات