Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النصب والتماثيل في العراق "فنون" أتلفتها السياسة

تعرض كثير منها إلى الإزالة بعد عام 2003 بذريعة تجسيدها لأيديولوجية حزب البعث

تمثال الفارابي من أعمال الفنان إسماعيل فتاح الترك أزيح الستار عنه في عام 1975 بمتنزة الزوراء (اندبندنت عربية) 

ملخص

 النصب والتماثيل في بغداد "مشاهد صامتة" تؤرخ للمراحل السياسية

تمثل المنحوتات والتماثيل الجزء الأساسي في ما تركته حضارة وادي الرافدين من فنون، إذ قدمت حضارات العراق القديم التي برزت في الألف الثالث قبل الميلاد تحت ظل السومريين والأكديين وبلغت أوجها في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد أيام البابليين والآشوريين، الأسس لفنون تناقلت عبر الزمن.

ولعل جذور النحت في حضارة العراق يعود إلى أوائل الألف السادس قبل الميلاد مع بداية العمارة الدينية العراقية في تل الصوان (في سامراء) وأريدو (جنوب غربي ذي قار) لتجسد كثيراً من المنحوتات شخصيات الملوك الذين تعاقبوا على حكم هذه الحضارات.

وتربط التماثيل والنصب بالمراحل السياسية المتعاقبة، فكل نظام سياسي يرغب أن يسخر الفن ليجسد انتصاراته وأيديولوجياته عبر تماثيل تشخص في الساحات العامة، وغالباً ما تتعرض هذه التماثيل إلى الهدم بعد انتهاء كل مرحلة سياسية. 

بعد عام 2003 قررت لجنة اجتثاث البعث إزالة كثير من التماثيل تحت ذريعة أنها تمثل النظام السابق، فقد أزيل تمثال الطيار (عبدالله لعيبي) الذي كان شاخصاً بالقرب من المسرح الوطني، حيث يجسد التمثال طياراً يقف على حطام طائرة، وتعود قصته إلى مرحلة الحرب العراقية – الإيرانية، فبعد نفاد عتاد هذا الطيار ومشاهدته اقتراب طائرة الخصم من هدفها في محافظة السليمانية، وجه لعيبي طائرته لتصطدم بالطائرة الإيرانية ونجح في منعها من الاقتراب إلى الأراضي العراقية.

كما أزيل نصب المسيرة وهو من تصميم الفنان خالد الرحال، ويقع في ساحة المتحف ويضم النصب مجموعة من التماثيل المتداخلة التي تتخذ في النهاية شكل ملحمة تظهر فيها بداية الحضارة في وادي الرافدين وشخوص مثل كلكامش لتختم وتجسد مرحلة حزب البعث العربي الاشتراكي.

لا يحضر الجانب السياسي في هدم التماثيل والنصب فحسب، بل إنه يصل إلى التشويه المتعمد كما هي الحال في نصب قوس النصر الذي يقع في ساحة الاحتفالات، فكان يضم على جانبيه خمسة آلاف خوذة لجنود إيرانيين، وهي خوذات حقيقية جمعت من ساحات المعارك التي دارت بين البلدين في فترة الحرب العراقية الإيرانية وبعد عام 2003 أزيلت بالكامل.

وكانت هناك محاولات لهدم نصب الشهيد الذي أنجز في ثمانينيات القرن الماضي تخليداً لذكرى الذين ارتقت أرواحهم خلال الحرب العراقية – الإيرانية، ونصب الشهيد من تصميم المهندس المعماري العراقي سامان أسعد كمال، أما القبة الخاصة به، التي بنيت على الطراز العباسي فهي من تصميم الفنان التشكيلي العراقي إسماعيل فتاح الترك، وتكمن عبقرية هذا البناء في الخداع البصري الذي يحققه النصب المقام على أرض مفتوحة مترامية الأطراف، فالنصب مشيد بأكمله وسط بحيرة صناعية واسعة ويتألف من ثلاث وحدات أساسية هي القبة والراية التي تمثل الشهيد العراقي والينبوع الذي يمثل ديمومة التضحية من أجل الأرض.

السياسة تتربص للفن

يبدو أن أي سلطة سياسية في العراق تضيق ذرعاً من الماضي فتحاول إلغاء الرموز الفنية التي تجسد المرحلة التي سبقتها، وسردت بلقيس شرارة، زوجة المعماري العراقي رفعة الجادرجي، في كتابها "هكذا مرت الأيام"، تفاصيل هدم النصب التذكاري للجندي المجهول في عام 1982، وقد أنشئ في عام 1959 تخليداً للجنود المجهولين الذي ضحوا بأرواحهم، فتقول "كانت خيبة رفعة الجادرجي كبيرة ومؤلمة عندما أمر الرئيس صدام حسين بهدم نصب الجندي المجهول الذي كلفه بتصميمه رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم في عام 1958 بساحة جميلة تحيطها أبنية مهمة من جامع وفنادق، حيث أطفئت الشعلة التي كانت تنير النصب وربما رفع رفات الجندي المجهول من تحته".

يرى النحات أحمد البحراني أن "كل حكومة تحاول أن تلغي ملامح نتاج الحكومات السابقة وبخاصة في الأعمال الفنية التي تخدم فكر وسياسة الدولة، لذلك نجد أن هناك إلغاء وتدميراً متوالياً بين الحكومات، وما يبقى فقط هو بعض الأعمال الفنية المرتبطة بالفن الحقيقي".

تأريخ لمراحل مهمة

غالباً ما تؤرخ التماثيل مرحلة تاريخية مرت على العراق، فمع دخول القوات البريطانية كانت هناك تماثيل تجسد قادة بريطانيين كما هي الحال مع تمثال الجنرال مود، وهو الجنرال الإنجليزي الذي دخل مع قواته مدينة بغداد في 11 مارس (آذار) 1917 بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى، وأقيم التمثال أمام السفارة البريطانية في منطقة الشواكة عام 1923 وحطم في يوم 14 يوليو (تموز) عام 1958، كما كان هناك تمثال للقائد الإنجليزي لجمن وهو يرتدي الملابس العربية وكان مقاماً أعلى منارة القشلة التاريخية وأزيل من مكانه عام 1958.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلى ذلك يرى النحات ميخائيل ثابت أن أي إلغاء للنصب والتماثيل هو محاولة لتشويه مسيرة الفن، قائلاً "كل انقلاب سياسي يحاول أن يمحي آثار من سبقه ظناً منه أنه يمسح ذاكرة الأجيال التي قد تؤثر في مساره التاريخي، متناسياً أنه بهذا الفعل قد شوه مسيرة الفن والجمال والنتاج الفني لبلد يحمل موروثاً تاريخياً متفرداً".

أما الفنان والنحات مازن منذر فيرى أن النصب تمثل حكاية لفترة تاريخية من حياة العراقيين، فهي تؤرخ وتوثق المراحل التي مرت على العراق، ولا بد من الحفاظ عليها وليس إتلافها، ومن الأجدى نقلها للمتحف الوطني لتعرف الأجيال تاريخ البلاد من خلال هذا الفن وما جسده من مراحل تاريخية. 

صيانة تفتقر للاحترافية

أغلب التماثيل والمنحوتات في العراق تقاوم عوامل البيئة وتبقى صامدة، وهي تلك المصنوعة من خام البرونز والحجر والمرمر ومنها ما تكون هشة لا تقاوم، وهي المصنوعة من المواد الجبسية والأسمنت، وتبقى التماثيل البرونزية هي التي تقاوم عوامل الزمن بسبب خاصية التأكسد التي يتمتع بها عنصر البرونز فتبقى الأعمال المنحوتة محافظة على جمالياتها، ولا تحتاج سوى لصيانة دورية بسبب المتخصصين في فن النحت.

يرى النحات ميخائيل ثابت أن عمليات الصيانة والترميم بحاجة إلى كادر متخصص في هذا المجال لإعادة العمل النحتي إلى رونقه، منوهاً بأن العراق يفتقد لهذا التخصص وإن وجد فخبرته لا تتماشى مع أساليب الصيانة التي وصلت إليها الدول المتطورة في هذا المجال، مردفاً "عندما اجتاح تنظيم داعش الموصل أزال جميع النصب والتماثيل، وعندما تحررت المدينة أعادت البلدية النصب من دون الاهتمام بها، فبدلاً من البرونز صبت بالأسمنت وبأيادي نحاتين لا خبرة لهم بسابقاتها من الأعمال فجاءت الأعمال ركيكة وهزيلة".

عمليات ارتجالية 

يرى النحات أحمد البحراني أن معظم عمليات الصيانة للأنصاب والتماثيل "ارتجالية غير علمية وغير مدروسة"، معتبراً أن الدولة لم تعط مسألة الترميم والصيانة اهتماماً حقيقياً، مشيراً إلى أن هناك أعمالاً فنية لكبار فناني العراق وبخاصة الجداريات التي صنعت من مادة السيراميك والفسيفساء تكاد تكون اليوم في آخر مراحلها من الضياع. 

 

وفي السياق نفسه يرى التشكيلي عمرو الريس أن المرممين ليسوا من أهل الحرفة، وأن أصحاب الخبرة هاجروا، ولذلك فإنه "من الأفضل الاستعانة بشركات متخصصة لأن صيانة التماثيل علم قائم بذاته"، منوها بأن هناك عمليات ترميم أدت إلى تشويه بعض النصب وتغيير الألوان الحقيقية كما هي الحال مع الترميم الذي حصل في نصب ساحة النسور ونصب كهرمانة. 

يوضح الأستاذ المتمرس في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، جبار محمود العبيدي، أن بغداد تحديداً في حاجة إلى نصب فنية تليق بهذه المدينة العريقة لكن بشرط أن تكون مقترحة من نحاتين ذوي اختصاص دقيق وتجارب إبداعية متفردة. ويرى ضرورة استحداث منصب "خبير بالنصب النحتية" أو هيئة خبراء في دوائر أمانة بغداد لكي تكون لها الكلمة الفصل في مدى جودة مقترحات النصب النحتية في بغداد، وكذلك الحال تنطبق على المحافظات الأخرى. 

اختفاء الساحات العامة

مع اتساع مساحات المدن بطريقة عشوائية بدأت الساحات العامة بالاختفاء وحل محلها الجسور والطرق، وفي هذا السياق يشير الفنان والنحات مازن منذر، إلى أن تمثال ساحة النسور معرض للخطر بسبب أعمال البناء القائمة حالياً، قائلاً "لا بد أن تولي الجهات القائمة على هذا المشروع الاهتمام لهذا التمثال ومحاولة نقله إلى مكان آخر خشية تعرضه للضرر".

وتمثال ساحة النسور أنشئ في عام 1969 من تصميم الفنان ميران السعدي، ويرتكز النصب على قاعدة نصف كروية يبلغ ارتفاعها مترين، تعلوها كتلة حديدية تمثل وجهاً عربياً ملثماً، أما الوجه الآخر فيمثل وجه فتاة عربية تعلوها مجموعة من النسور التي ترمز للقوة.

يقول أستاذ علم الجمال إتيين سوريو، إن لكل زاوية من زوايا التمثال هناك جوانب جمالية تستند إلى زاوية النظر، فلا بد أن يكون النحات قد تنبأ بهذه الجوانب المختلفة وأنشأ بينهما رباطاً قوامه علاقات من نوع خاص، وأداتها ووسيلتها المادية هي كتلة المرمر أو البرونز، فالمتفرج لا يستطيع أن يرى هذه الجوانب المختلفة إلا من خلال تتبع كل جانب تلو الآخر، فحركة المتفرج حول التمثال من شأنها أن تجعل التمثال يتبدى كما يتبدى اللحن الموسيقي. 

 

بهذا الرأي الفني يرى سوريو فكرة كيفية تجسيد جمالية العمل النحتي وبخلافه لن ينتمي المنحوت إلى المكان بل ربما يشكل ظاهرة للتلوث البصري. وقد ازدادت في الآونة الأخيرة في العراق ظاهرة إنشاء نصب وتماثيل بعيدة عن روح الفن والإبداع فكانت محلاً للسخرية والتهكم، وفي هذا السياق يرى النحات (مجيد الصباغ) أن هذه التماثيل نفذت من قبل أياد غير أكاديمية ومن جهات لا تعرف معنى الفن.

وفي السياق نفسه يرى النحات أحمد البحراني أن هذه الظاهرة هي طبيعية كونها تمثل نتاجاً للوضع العام الذي نعيشه اليوم، لأن الفن هو نتيجة ما يدور حوله من نشاط إنساني وكذلك عندما يكون صاحب القرار الذي يتحكم بالفن لا يمتلك الأساسات التي تؤهله لأخذ القرارات تكون النتائج وخيمة وتسيء للفن التشكيلي والمشهد العام. 

غياب الدعم المالي

يرى التشكيلي عمرو الريس أن أسباب كثرة الأعمال النحتية التي كانت مدعاة للسخرية هي قلة الدعم المالي المقدم للنحات وهذا بدوره يؤدي إلى عدم استخدام مواد للنحت تمنح العمل الفني جمالية، إضافة إلى أن معظم الأعمال تمنح لشباب هواة لا يحملون التخصص العلمي.

المزيد من تقارير