في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل، تقطع الحافلات طريقاً عبر دروب صحراوية وعرة من القاهرة إلى الغردقة على ساحل البحر الأحمر، حيث الوجهة المفضلة لكثير من الأسر من ذوي الدخول المتوسطة لقضاء عطلة صيفية بعيداً من صخب العاصمة المصرية ومشاق سيرورة الحياة المتخمة بتفاصيل لا حصر لها، في رحلة تستمر نحو ثماني ساعات.
صار حضور المصريين اللافت في منتجعات الغردقة وفنادقها، أكثر وضوحاً من ذي قبل رغم ما تمر به البلاد من أزمات اقتصادية، إذ حافظت المنشآت السياحية على نسق تصميم برامج مصيفية تناسب دخول عديد من الأسر، في مسعى لتعظيم أرباح القطاع ومواصلة نشاط التشغيل.
بدا القطاع كمن يلملم جراحاً دامت لسنوات عبر ضمادة السياحة الداخلية، إثر أزمات عدة كان أسوأها يوم سقوط الطائرة الروسية "إيرباص A321" في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2015 بعد إقلاعها من مطار شرم الشيخ مخلفة 224 قتيلاً، توقفت على إثرها رحلات الطيران الروسية السياحية المباشرة ست سنوات قبل أن تستأنف في يونيو (حزيران) 2021، كما عانى القطاع انخفاضاً حاداً في إيراداته بنحو 70 في المئة عام الجائحة الأول 2020، مع تراجع في أعداد السياح إلى 3.5 مليون سائح من 13.1 مليون في عام 2019.
في طريق الذهاب إلى الغردقة ليلاً، حيث دأبت الشركات السياحية على نقل عملائها في هذه الساعة المتأخرة من بعد منتصف الليل ضماناً للتسكين بحلول الـ10 صباحاً، يمكن ملاحظة طريقين متوازيين ذهاباً وإياباً، وتمييزهما عبر ملاحظة كشافات الإضاءة المنبعثة من واجهات الحافلات، فيما تتراص سلاسل الجبال على جانبي الطريق، وتخلو الطريق إلا من حافلات السياحة، والشاحنات من وإلى مناطق التعدين التي تزخر بها المنطقة.
روس وأوكران
تاريخياً، عرفت المدينة ومنافستها التقليدية شرم الشيخ كوجهتين تفضيليتين للسياح الروس والأوكرانيين، وليس هناك أدل على هذا الحضور الذي عرفته المدينة الواقعة شمال ميناء سفاجا الاستراتيجي، أكثر من واجهات المحال التجارية والبازارات، إذ تستقبل أنظار الزائرين بمفردات روسية جنباً إلى جنب مع الإنجليزية والعربية، قبل أن تهدأ وتيرة حضورهما اللافت عقب اندلاع الحرب بين البلدين الجارتين في فبراير (شباط) 2022، في وقت نشطت شركات سياحية في ترويج النشاط ودفع نموه باستقطاب مزيد من المصريين عبر برامج مصيفية مناسبة، تحفيزاً للسياحة الداخلية.
بلغ الإشغال الفندقي مستويات مرتفعة للغاية في أغسطس (آب) الجاري، بحسب ما كشف عنه مسؤولو شركات سياحية ومتخصصون، معتبرين أن الموسم الحالي من المواسم غير المسبوقة إقبالاً وحضوراً، في بلد يعاني شحاً في النقد الأجنبي ويعول على القطاع كمورد مهم للعملة الصعبة.
وحققت مصر حصيلة بلغت 10.3 مليار دولار من إيرادات النشاط السياحي، خلال التسعة أشهر الأولى من العام المالي 2022-2023، بنسبة نمو بلغت 25.7 في المئة من الإيرادات المحققة في الفترة المثيلة من العام السابق له، التي بلغت آنذاك 8.2 مليار دولار، بحسب بيانات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، نهاية يوليو (تموز) الماضي.
يعتقد أحمد محمود مسؤول الحجز في إحدى شركات السياحة الشهيرة بالقاهرة، أن نسبة إقبال المصريين زادت كثيراً عن ذي قبل أمام تراجع طفيف في حصة حضور السياح الأجانب إثر عديد من الأزمات التي اختبرها القطاع السياحي خلال السنوات الأخيرة، مشيراً إلى أنه رغم أهمية السياحة الداخلية من أجل التشغيل ودعم القطاع والعاملين به، فإن الأهمية الأكبر تكمن في حضور السياح الأجانب كونهم مصدر العملة الصعبة التي تحتاج إليها البلاد.
يلفت محمود، إلى أهمية تشجيع السياحة الداخلية، بخاصة في الوقت الحالي. ويرى أن العاملين في القطاع السياحي والفندقي من المصريين، وأن بقاءهم في وظائفهم من دون تسريح يقتضي مواصلة الطلب السياحي سواء من قبل المصريين أو الأجانب على حد سواء.
الغردقة وجهة سياحية تناسب كثيراً من أصحاب الدخول المتوسطة والأقل، كما يقول محمود لـ"اندبندنت عربية"، وذلك لما تحويه من فنادق ذات مستويات إقامة عدة تتنوع فئاتها بين الثلاث والأربع والخمس نجوم، إضافة إلى شروع كثير من القاطنين في تسكين وحدات سكنية بنظام الإيجار اليومي، وهو ما يناسب عديداً من العائلات.
ويوضح أن شركته تتلقى طلبات الحجز لقضاء العطلة الصيفية بالمدينة من قبل عديد من أصحاب مستويات الدخل المرتفع والمتوسط، بل والمنخفض، وهو أمر يمكن ملاحظته في الحافلة الواحدة، التي تقوم بتوصيل الأفراد إلى فنادق ذات مستويات خدمة مختلفة، كما يقول.
أسعار للجميع
أما عن الأسعار فقد غلفها التنوع هي الأخرى، كما يشير مسؤول الحجز، فيقول إن الغردقة أقل في أسعارها عن منطقتي سهل حشيش والجونة، البعيدتين من المدينة عدة كيلومترات، لكن بشكل عام تبدأ الأسعار للغرفة المزدوجة في المتوسط بالفنادق ذات الخمس نجوم من 2500 جنيه (80.8 دولار) في الليلة الواحدة شاملة الضريبة للإقامة الشاملة وصولاً إلى 10 آلاف جنيه (323.2 دولار)، مقدراً نسبة الزيادة في أسعار الفنادق عما كانت عليه العام الماضي بـ40 في المئة.
وألهب شح موارد البلاد من النقد الأجنبي، التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية، الذي ارتفع إلى 38.2 في المئة على أساس سنوي يوليو (تموز) الماضي مقارنة بنحو 36.2 في المئة خلال يونيو (حزيران) الماضي، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، فيما تدنت القيمة الشرائية للجنيه المصري بعد انزلاق سعر صرفه رسمياً أمام الدولار الأميركي من مستوى 15.75 للدولار الواحد في مارس (آذار) 2022 وصولاً إلى متوسط 30.85 للدولار في أغسطس (آب) الجاري، في حين احتفظت السوق السوداء بأسعار أكبر للدولار عند مستوى قريب من 40 جنيهاً (1.29 دولار بالسعر الرسمي) في المتوسط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتستهدف البلاد، جمع 15 مليار دولار إيرادات سياحية بنهاية العام الحالي، عبر جذب 15 مليون سائح، بحسب تصريحات وزير السياحة والآثار المصري أحمد عيسى، الذي أشار في تصريحات صحافية، في مارس الماضي، إلى استهداف بلاده جذب من 18 إلى 20 مليون سائح بحلول نهاية العام المقبل، وصولاً إلى 30 مليون سائح بحلول نهاية 2028.
إشغال مرتفع
وتشير وسائل إعلام محلية، إلى استقبال مطاري الغردقة ومرسى علم الدوليين، السبت الماضي، قرابة 39 ألف سائح تقلهم 193 رحلة طيران دولية، غالبيتها من سلوفاكيا، بولندا، إيطاليا، هولندا، النمسا، بلجيكا، وألمانيا، إلى جانب رحلات داخلية.
من جانبه، يرى المتخصص السياحي سامح جمعة أن السياحة الداخلية أصبحت تنافس الرحلات الوافدة من خارج البلاد، وهو ما يفسر الارتفاع الملحوظ في نسب الإشغال إلى مستويات قريبة من 100 في المئة خلال الأسابيع الأخيرة، ويتوقع بقاء نسب الإشغال الحالية على ذات المستوى من الإقبال حتى نهاية أكتوبر المقبل.
ويتحدث جمعة الذي يشغل منصب نائب رئيس مجموعة من الفنادق الشهيرة في الغردقة عن المدينة التي لا تفرغ شتاء، إذ تتميز، كما يقول، بمناخ دافئ يستقطب أعداداً من السياح الأوروبيين خلال الموسم الشتوي الذي يشهد طلباً مرتفعاً في معدلات الحجز.
وبينما حرصت الحكومة المصرية على تجنيب القطاع السياحي مغبة الإظلام الذي تعيشه البلاد لفترات متقطعة من اليوم إثر قطع التيار الكهربائي طوعياً في ظل ارتفاع كلفة التشغيل، فإن الحرص على منح القطاع جاذبية أكبر كان نهج القاهرة عبر عديد من الإجراءات كان آخرها استحداث تأشيرة دخول للأجانب صالحة لخمس سنوات مقابل 700 دولار، تسمح في الزيارة الواحدة بالإقامة ثلاثة أشهر، بحسب ما أعلنته في وقت سابق، وزارة الداخلية المصرية.