Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دانا سبيوتا تروي أزمة منتصف العمر خلال زمن ترمب

روايتها الجديدة "عاصية" قراءة نسائية حميمية وبصيرة لحال أميركا والعالم عموماً

لوحة للرسام أسامة دياب (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

روايتها الجديدة "عاصية" قراءة نسائية حميمية وبصيرة لحال أميركا والعالم عموماً

إن كانت ثمة خصوصية تميز الكتّاب الذين ولدوا في أميركا خلال الستينيات، فهي البحث عن يوتوبيا سياسية، اجتماعية، ثقافية أو فردية. بحثٌ يتجلى بقوة في روايات دانا سبيوتا الخمس، وآخرها "عاصية" التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود". ولا تنشد هذه الكاتبة الموهوبة فيها السياسة الراديكالية أو الموسيقى المستقلة أو السينما الوثائقية، كما فعلت في رواياتها السابقة، بل السلام في منزل قديم يشكّل فضاء مثالياً للتأمل في موضوعات مهمة راهنة أو عابرة للزمن، من خلال بطلتها، سامنتا، التي تشبهها في نقاط كثيرة.

وفعلاً، مثل سبيوتا، سامنتا امرأة خمسينية في مرحلة ما قبل انقطاع الطمث، تعيش مع زوجها ماتيو وابنتهما آلي في واحدة من ضواحي مدينة سيراكيوز البورجوازية، في ولاية نيويورك. امرأة تبدأ حياتها الهنيئة بالتصدع مباشرةً بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2016، إثر معرفتها أن أمها تعاني من مرض عضّال ينهش جسمها، ورؤيتها ابنتها المراهقة تبتعد شيئاً فشيئاً عنها، وخيبتها في أبناء وطنها الذين اختاروا دونالد ترمب رئيساً لهم. وكما لو أن ذلك لا يكفي، ها هي تعاني من استيقاظ مفاجئ في ساعات متأخرة من الليل، يحملها إلى التأمل في الأمومة والموت وحال جسدها وبلدها.

وخلال ليلة أرق مضنية، تقع سامنتا على إعلان في الجريدة عن بيع منزل قديم في حيّ شعبي من مدينة سيراكيوز. ولأن مهندس هذا المنزل اسم شهير في حركة "فنون وحِرَف"، التي أسسها ويليام موريس في منتصف القرن التاسع عشر، تتوجه فور شروق الشمس إلى العنوان المشار إليه في الإعلان، وتقع في حب هذا المنزل الذي ما زال جميلاً على رغم مرور الزمن عليه، تماماً مثل جسدها. تشتريه من دون تردد، وتهرب من حياتها البورجوازية في ضاحية سيراكيوز، ومن عائلتها، آملةً في العثور على أجوبة على الأسئلة التي تقض مضجعها في هذا المكان الذي يشبهها. ومن أبرز هذه الأسئلة: كيف يمكنها اليوم أن تكون فتاة وزوجة وأماً في بلد ينهار؟ وكيف وصل الأمر بالأميركيين إلى انتخاب شخص مثل ترمب رئيساً لهم؟

بين أزمتين

وعلى عكس هذين السؤالين، تبدو المقابلة المثيرة التي تجريها سبيوتا في روايتها بين أزمة منتصف العمر التي تواجهها بطلتها، والأزمة التي يمرّ بها بلدها. فنحن في عام 2017، وقرار سامنتا مغادرة إطار حياتها المريح في ضاحية سيراكيوز يأتي نتيجة يقظة على ما يحدث داخلها، وأيضاً حولها. وإضافة إلى تصدُّع كل قناعاتها السابقة، نراها تتألم من ملاحظة أن ابنتها المراهقة لا تشاركها أفكارها حول ما يجب أن يكون عليه العصيان، مثلها مثل مجموعة من الناشطات النسويات الراديكاليات اللاتي ترتبط سامنتا بهن عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ويخيّبن أملها.

ولأنها مولعة بمسيرة مناضِلة نسوية نشطت في سيراكيوز مطلع القرن الماضي، تعمل بدوام جزئي في متحف مكرّس لهذه الشخصية التاريخية المثيرة للجدل في بعض مواقفها، بموازاة ترددها على صالة رياضة تستنتج فيها، أثناء محاولتها تدارُك شيخوخة جسدها، كم أن الناس باتوا أكثر هوساً من أي وقت مضى بأجسادهم، مما يجعلها تتساءل إن كان هذا الانطواء على الذات الحميمة ومظهرها، يعود إلى خوف من الحال المزرية للعالم، ولبلدها خصوصاً، أو إلى عمى بكل بساطة.

استفزازية، ذكية وحسّية، "عاصية" هي قبل أي شيء رواية عن جسد المرأة ومختلف التحوّلات التي يشهدها على مرّ العمر. تحوّلات تشخص سبيوتا فيها وتصفها من أقرب مسافة ممكنة، مما يجعل من نصّها رواية لكل الأمهات والفتيات، وأيضاً لكل الرجال الذين يجهلون بمعظمهم، تفاصيل هذه التحولات ونتائجها على سيكولوجيا المرأة وطبعها. إنها أيضاً رواية عن الحب الأمومي الذي يمنح كل امرأة سعادة لا توصف في اتصالها الجسدي بذلك الكائن الذي خرج من جسدها، وألماً يتعذر تجنّبه حين يغادر هذا الكائن المنزل العائلي لتأسيس حياته في مكان آخر. إنها أيضاً رواية امرأة تخاطر بفقدان كل شيء على أمل العثور على نفسها. فمع أن علاقة سامنتا بزوجها لم تفض إلى فشل كامل، لكن الزمن فعل فعله فيها، ولم تعد جهودهما تؤتي ثمارها. والنتيجة؟ تفتُّت كل تلك الأشياء التي يعتقد الزوجان في بداية علاقتهما أنها ثابتة، لا تتبدل.

"عاصية" هي أخيراً ـرواية سياسية عن زمن دونالد ترمب، تتأمل ليس فقط في طبيعة الرجال الذين صوّتوا له، بل أيضاً وخصوصاً في أولئك النساء الكثيرات اللواتي أقدمن على ذلك، وكنّ بغالبيتهن العظمى في سن الكاتبة اليوم. عمل يسلط ضوءاً كاشفاً على الانقسامات الاجتماعية والسياسية العميقة في بلد ــ أميركا ــ يعاني من حالة فصام وضياع رهيبين، ويسهل فيه اقتناء الأسلحة النارية بشكل مقلق، ولا يزال ذوو البشرة السمراء يتعرّضون للاضطهاد والقتل، من دون سبب سوى لون بشرتهم، على يد رجال الشرطة الذين من المفترض أن يحموهم.

السرد الفريد

ولا يكتمل عرض مكامن ثراء هذه الرواية من دون الإشارة إلى درجة التعقيد المدهشة التي نستنتجها في رسم سبيوتا كل واحدة من شخصياتها، وعلى رأسها سامنتا التي تفلت بسرديتها الفريدة من الكليشيهات التي تعاني منها سرديات النساء اللواتي هنّ من جيلها، وبشخصيتها الممزقة بين ولاءات مختلفة. شخصيات تفتننا بانعدام أي منطق مبرمِج لسلوكها، وبتقدّمها واتخاذ قراراتها نتيجة أفعال وحوارات ولقاءات ومصادفات ومصائب.

تكمن أيضاً قيمة الرواية في توقّف سبيوتا داخلها عند العنف اللفظي لمعاصريها ومعاصراتها على شبكات التواصل الاجتماعي، بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2016، كاشفةً أنه لا يقتصر على الصيغ الفجة والعدائية لمناصري ترمب ومناصراته. وفي هذا السياق، تشرّح بمعرفة لا تخلو من شراسة، عناصر لغة التحرّريين، نساء ورجالاً، الذين جعلوا من الأنانية فن حياة، تحت غطاء الحداثة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي حال توقفنا عند نثر الكاتبة الخلاب، برشاقته وحداثته وصوره الفريدة وإشراقاته، لتبيّنت لنا كل قيمة روايتها. نثر شعري بامتياز يستمد فتنته وسطوته أيضاً من تشكيله خير ركيزة للاستبطان العميق الذي تقوده سامنتا على طول النص، ويسهّل انزلاقنا تحت جلدها وتماثلنا الحميم بها. شخصية لا تخفي عيوبها أو تتجنّب مكامن هشاشتها، بل تتفحّصها بجرأة، وفي الوقت نفسه، تسعى إلى أن تكون نشطة في عالم يسود فيه خمول عام أو لا مبالاة بالمخاطر الكثيرة التي تتهدّده، ومن بينها كارثة بيئية وشيكة.

باختصار، أكثر من مجرّد سردية آسِرة، "عاصية" بورتريه دقيق لحال عالمنا منذ سبع سنوات، وتقرير بصيغة المؤنث، حول ما اكتسبناه وما فقدناه. إنها مقاربة نقدية بصيرة، وفي الوقت نفسه، نصّ تشجيعي مُهدى للأجيال القادمة، ومكرَّس لما يحدث وما يهمّ في العالم المعقّد الذي نعيش فيه. رواية بطلتها "عاصية"، مثل مبتكرتها، لكنها لا تتمرّد أو تقف ضد هذا الشيء، أو ذاك من دون محاجّة مقنعة، ومن دون تعرية ما يمكن أن يكون إشكالياً لدى بعض الأشخاص، وفي الوقت نفسه، مثيراً للإعجاب.

رواية نستخلص منها أمثولة بسيطة جداً ومعروفة، ولكن مهملة، وهي أن العالم، مثل قاطنيه، ليس، ولن يكون أبداً، أسود أو أبيض بالكامل.

المزيد من ثقافة